العدد 4923 - الأحد 28 فبراير 2016م الموافق 20 جمادى الأولى 1437هـ

«المدينة المتوحِّدة» لأوليفيا لينج... دراسة شخصية لعزلة المناطق الحضرية

ريموند كارفر - أوليفيا لينج - ديفيد وجنارويكز
ريموند كارفر - أوليفيا لينج - ديفيد وجنارويكز

في كتابها «المدينة المتوحِّدة»، ترصد الكاتبة والناقدة الأميركية أوليفيا لينج، حالات وظواهر بين الوسط الإبداعي والثقافي في بلادها (الولايات المتحدة الأميركية)، حالات العزلة والتوحُّد، في دراسة شخصية لعزلة المناطق الحضرية. ذلك لا يحول بينها وبين الوقوف على تلك الحالات في المدن؛ حيث لا أحد في منجاة من الحزن والشرود والوحدة والانقباض، بحيث يبدو الإنسان فيها مثل حلزون تم تمليحه، ما سيسهم في حالات انقباض تجدُّ عليه.

ثمة تساؤلات هي جزء من خريطة بحثها، من قبيل «ما هو شعورك في أن تكون وحيداً؟» تتساءل. تُجيب «إنه شعور يشبه الشعور بالجوع: مثل الشعور بالجوع عندما يكون كل من حولك يستعدون لوليمة. إنه شعور مخجل ومثير للقلق، ومع مرور الوقت تبدأ مثل هذه المشاعر بالتمدُّد إلى الخارج؛ ما يجعل الشخص الوحيد في عزلة متزايدة، وينفر بشكل متزايد». الكتاب نفسه تجربة خاصة بالوحدة والعزلة التي مرَّت بها لينج.

في كتاب لها صدر في العام 2013 «الرحلة إلى صدى الربيع: عن الكتَّاب وإدمان الخمر»، وقوف ودراسة للأعمال الفنية أو الموسيقية أو الكتابة عموماً. ترصد فيه حالات الإدمان على المُسْكِرات، وتبدأ من السؤال الذي يبدو جدلياً: ما العلاقة بين الإبداع والإدمان على المُسْكِرات؟ ما معنى أن تكون وحيداً؟ كيف نعيش إذا لم نكن على ارتباط بشكل وثيق مع إنسان آخر؟ كيف يُمكننا التواصل مع الآخرين؟ هل تجرُّنا التكنولوجيا إلى تلك العلاقة بشكل أقرب أم أنها تنصبُ فخاخها لنا من وراء الشاشات؟

عندما انتقلتْ أوليفيا لينج إلى مدينة نيويورك وهي في منتصف الثلاثينات من عمرها، وجدت نفسها تعيش الوحْدة بشكل يومي. كانت مفتونة بصورة متزايدة جرَّاء التجارب الصارخة التي اكتسبَتها مع مرور الوقت، حيث بدأت في استكشاف المدينة المتوحِّدة عن طريق الفن. منتقلة بين انشغالات وحيوات إدوارد هوبر في «الأندية الليلية» إلى أندي وارهول، إلى اللوحات الضخمة والممتلئة لهنري دراغر إلى «نشاط الأيدز» (سلسلة من الأعمال تتناول الشذوذ الجنسي) لديفيد وجنارويكز؛ حيث قامت بإجراء تحقيق مُبهر، كي تقف على: ما الذي يعنيه أن تكون وحيداً؟

الإنساني، الاستفزازي العاطفي، كله في كتاب «المدينة المتوحِّدة» الذي يظل احتفاء بحالة غريبة وجميلة، كما أنه بمثابة انجراف (على غير هدى) من أكبر قارة من التجربة الإنسانية المليئة بجوهرها، إلى الفعل الحقيقي الذي يجعلك على قيد الحياة.

دوايت غارنر، كتب مراجعة حملت عنوان «المدينة المتوحِّدة»... دراسة شخصية لعزلة المناطق الحضرية، نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز» يوم الثلثاء (23 فبراير/ شباط 2016)، نورد أهم ما جاء فيها، مشفوعة بهوامش وشروحات ارتأى المحرر ضرورتها.

مثل حلزون

من المُستحيل أن تمشي لفترة طويلة في مدينة نيويورك من دون المرور على شخص يبدو حزيناً ووحيداً ومنقبضاً، مثل حلزون تم تمْليحه. في بعض الأيام، تشك في أنك حلزون.

تم استكشاف أنواع العزلة التي يُمكن أن تحيط بك في مدينة كبيرة من خلال عدد من الأعمال في الموسيقى والفن والأدب. الكاتبة البريطانية أوليفيا لينج، في كتابها الجديد «المدينة المُتوحِّدة» تلتقط موضوع العزلة الحضرية المُؤلمة وتعمل على توظيفه في العديد من الأماكن التي تمتاز بالذكاء، في محاولة لمواساة غربتها. إنها تتعامل مع الموضوع هنا وكأنه يعنيها بالدرجة الأولى.

«المدينة المتوحِّدة» هو كتاب يمزج بين المذكرات واليوميات، وفي جزء آخر، هو تحقيق ناقد لحياة وعمل بعض الفنانين التشكيليين الذين تتحدَّث أعمالهم إلى المؤلفة بإحساس وبلاغة مُحبِطتين ولَّدتها العزلة الحضرية. يشمل الكتاب في تتبُّعه وتقصِّيه عدداً من الفنانين من بينهم: إدوارد هوبر، أحد العلامات والأسماء المهمة والرائدة في الواقعية الفنية الأميركية الحديثة. كان ممن اشتهر بالعزلة، مع فارق عمله الجاد والملفت في تحويل تلك العزلة والانطواء إلى أهم الموضوعات في أعماله الفنية.

في مدينة قرب نهر هدسون بنيويورك ولد يوم 22 يوليو/ تموز 1882. سافر إلى فرنسا إلا أنه صرَّح بأن باريس لم تساعده كثيراً.

لوحته «البيت بجانب سكة الحديد» هي المفتتح الحقيقي لأعماله الإبداعية التي سيصدم بها العالم. الكآبة والبساطة التي عُرفت بها أعماله، وتظل مكتنزة بالحنين في الوقت نفسه. لم تحل واقعيته في الفن دون أن يلج الرمزية ويمرّرها في عدد من أعماله.

هنالك أيضاً ديفيد وغنارويكز، وهنري دراغر، (1892 - 1973) الذي تم إيداعه وهو طفل في مصحة للأمراض العقلية، بسبب تشخيص حالته بأنها اضطراب في السلوك، وذكر ذلك في سيرته الذاتية «قصة حياتي».

الهروب من المصحَّة

المصحة المكتظة بالآلاف من حالات الاضطراب، فتحت عينه على سوء المعاملة والتعذيب؛ ما ترك أثراً كبيراً انعكس على نظرته الفنية. سنة واحدة أتاحت له التفكير في طرق للفرار من المصحة، دفعته تلك الخطوة إلى المشي 250 كيلومتراً كي يعود إلى شيكاغو، متنقلاً في عدد من المهن المتواضعة من تنظيف الغرف إلى غسل الصحون.

ظل لسنوات يعمل من بيته، مقاطعاً الوسط الفني، مُوجداً عالماً فيه الكثير من الغرابة والخيال فيما أبدعه، بذلك المزيج الفاتن بين الخيال المضطرب، بالثقافة الشعبية الأميركية، وبالسرد التاريخي.

في الكتاب أيضاً وقوف على موضوعة الحدس إلى حدٍّ ما لدى الفنان الأميركي، وأشهرهم في النصف الثاني من القرن العشرين، آندي وارهول (6 أغسطس/ آب 1928 - 22 فبراير 1987)، صانع الأفلام، الذي ارتبط بشكل وثيق بحركة فن البوب في أميركا للفترة ما بين 1930 و 1987.

كما أن قسماً قصيراً يتناول كلاوس نومي، المولود في ألمانيا (1944-1983). كان اسمه الأصلي كلاوس سبيربر، وانتقل إلى الولايات المتحدة في سبعينات القرن الماضي؛ حيث بدأ اسمه الجديد. عُرف في تعبيراته الفنية بتبنِّيه للشراسة، وتبدَّى ذلك في الملابس والغناء. سنجد أن عناصر السيرة الذاتية تمنح هذا الكتاب توجُّهه الأساسي.

انتقلت لينج إلى نيويورك من إنجلترا، عندما كانت في منتصف الثلاثينات من عمرها من أجل رجل. تراجعت العلاقة بينهما لتجد نفسها في انتقالات باطنية، غير قادرة على محْو الإحساس بفشل الشخصية، وشعور مُمضّ بعدم الارتياح.

«ما هو شعورك في أن تكون وحيداً؟» تتساءل. «إنه شعور يشبه الشعور بالجوع: مثل الشعور بالجوع عندما يكون كل من حولك يستعدُّون لوليمة. أنه شعور مُخجل ومُثير للقلق، ومع مرور الوقت تبدأ مثل هذه المشاعر بالتمدُّد إلى الخارج؛ ما يجعل الشخص الوحيد في عزلة مُتزايدة، وينفر بشكل متزايد».

مشاعر متدفقة

تُدرك لينج وتعي جوانب كثيرة من الشعور بالوحدة، ولكن هناك عامليْن بارزين. الأول هو شعور الكثير منا، بشكل جزئي أو كامل، بأننا، لا نضع مؤشراً أو ملاحظات دقيقة حول ذلك الشعور البشع جسدياً وغير المرغوب فيه. يُخيِّم على المؤلفة «القلق بشأن المظهر» بشأن الإجبار على المشاركة «بشكل دائم، ومروِّع، وغير متوافق مع الأنوثة في مسابقة ملكة الجمال».

تكتب لينج بشكل مُحدَّد وبشكل لافت عن العزلة والوحدة في «المدينة المتوحِّدة» التقاطاً لعالم الانترنت، وكيف يُمكن لذلك العالم أن يُغرقك في الشعور بالوحدة، ويتمكِّن من تخفيف حدَّته في الوقت نفسه. عن طلبات وجباتنا اليومية... عن الجنون والتعقُّل والمرض والعلاج.

كم هي كتابتها مُتقنة حول هواجسها عن جهاز «ماك بوك» الخاص بها. هنا عيِّنة تصف من خلالها الطقوس اليومية شبه الكئيبة، من بينها تسجيل الدخول إلى «تويتر» في الوقت الذي لم تبرح فيه السرير، وعيناها بالكاد مفتوحة: «كان أول وآخر شيء نظرت إليه، تلك القائمة المتداعية التي تحوي في معظمها أسماء غرباء... مؤسسات... وأصدقاء، هذا المجتمع سريعُ الزوال؛ حيث كان فيه جسدي ووجودي مُتقلِّباً. اختيار يبدأ بالابتهال: محلول العدسة، غلاف كتاب، خبر وفاة، صورة احتجاج، افتتاح معرض فني، طرْفة عن دريدا، لاجئون في غابات مقدونيا، وسْمٌ بليد، تغيّر المناخ، وشاح مفقود، ونكتة عن دلكس: تدفُّق من المعلومات. مشاعر ووجهة نظر حول أن بعض الأيام، وربما معظم أيام الأسبوع، قد أتلقى مزيداً من الاهتمام أكثر من أي شيء فعليٍّ في حياتي».

أحيانا دفق المعلومات يجعلها تشعر بالبهجة. «على رغم أنه في أحيان أخرى، بدا كل شيء وكأن به مَسَّاً، في مقايضة حالات من الزمن (في انتقالات تحدث عبر ذلك الدفق من المعلومات) ضد شيء ملموس تماماً: نجمة صفراء، حبة بازلاء سحرية، وكذلك الحميمية الزائفة» المساحة المدينية، فضلاً عن المساحة الشخصية التي بدت متناهية. تصف لينج مقاهي مانهاتن «مأهولة بالسكَّان بأناس تحدِّق في أصداف المحار المتوهِّجة عبْر أجهزة الكمبيوتر المحمولة».

بين الإبداع وإدمان المُسْكر

عُرفت لينج أكثر باعتبارها ناقدة ثقافية. كتابها الأخير «الرحلة إلى صدى الربيع: عن الكتَّاب وإدمان الخمر» والذي صدر في العام 2013، هو كتاب سفر من نوع ما، مليء بنظر شاذ كما يبدو. وهي تسعى هنا وراء «الأعمال الفنية الواضحة أو المضطربة جرَّاء الشعور بالوحدة» وخصوصاً الأعمال الفنية التي تم الاشتغال عليها في نيويورك على مدى السبعة أو الثمانية عقود الماضية.

في مسح عابر، للعارفين بالأسماء الكبيرة في المشهَد الثقافي والإبداعي الأميركي، ستبرز أسماء عُرفت في ذلك الوسط كونها الأكثر إدماناً على شرب المُسْكِر. السؤال الذي يبرز في كتاب لينج المشار إليه هو: ما العلاقة بين الإبداع وإدمان المُسْكر؟ في استدعاء واستعراض عادات الشرْب لأهم وأكبر ستة أميركيين من ذلك الوسط، تبدأه بـ إرنست هيمنجواي، وصولاً إلى ريموند كارفر، (1938-1988) القاص والشاعر الأميركي، وأحد أهم وأمهر القصَّاصين في بلاده في أواخر القرن العشرين. صدر كتابه الأول «أرق الشتاء» في العام 1970، ليلحقه بعد ست سنوات بمجموعته القصصية الأولى في العام 1976 وحملت عنوان «ألاَ تصمتون رجاء؟»، والذي تمكَّن به من ترسيخ حضوره ومكانته في المشهد الإبداعي الأميركي، بتناوله لموضوعات وثيمات: البشر العاديين والفقر وإدمان الكحول. اختزاليته، وذلك هو اللقب الذي أطلق عليه «الاخترالي»، وضعته في مقارنات مع همنجواي وتشيخوف، لخلو أعماله القصصية من الزوائد والحواشي.

ربما لا يجيب الكتاب عن السؤال ولكنه يسلِّط الضوء على: لماذا يشرب هؤلاء الكتَّاب الذكور الخمر كثيراً؟

تبحث المؤلفة عميقاً في عمل كل من ديفيد وغنارويكز، دارغر، وارهول وغيرهم. وهي في كتابها موضوع المراجعة لا تعمد إلى قراءة السيَر الذاتية، بل تظل مركِّزة في كتابها على الأعمال في المتاحف. تتردَّد على الأرشيف وتتسكَّع بين المواد القليلة التي تم فحصها.

هناك لحظات في كتابتها حول هؤلاء الفنانين، تبدو وكأنها تثير حالاً من الشعور بأنها كتابة تعاني من الحشْو. الشخصيات التي تقوم بإضاءتها تبدو وكأنها تعسفية. وأي فنان مهم، يعمل في أي وسط، يُمكن النظر إليه وبشكل مجْدٍ من خلال عدسة الشعور بالوحدة والبحث عن التواصل. تقوم بانتقاد كل تلك المواد معاً، وتُوجد الأصداء التي تركها أولئك الفنانون. الأصداء التي تقوم بالتدقيق فيها، وتُبدي الإعجاب بها. ومن الأجمل أن تجعل عمل تلك الشخصيات ذا صدى بالنسبة لنا.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً