العدد 4940 - الأربعاء 16 مارس 2016م الموافق 07 جمادى الآخرة 1437هـ

أحمد البوسطة: ضحكتك المُجلْجلة ملْح لزاد المكان

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

أكتب هذه المرَّة «بورتريهاً» لواحد من آخر الأوفياء للناس ولاعتقاداتهم وقناعاتهم ومواقفهم في الحياة، ماداموا يتنفَّسون، وماداموا بين الناس، إخوة لهم، أو نظراء لهم في الخلْق. الوفي لاعتقاده، دون أن يسفِّه عقائد الآخرين. وإن تقاطع معهم في معتقد، لكنه لا يتقاطع معهم في حق الحياة بشرف وكرامة وإنسانية وخيار حر. هو من الناس وإلى الناس. صديق البشر.

ليس شاعرَ نصٍّ هو، لكنه شاعرٌ بكل النصوص والوجوه والمواقف والإرادات والانهزامات من حوله. هل يُوجَد أهم من أن تكون «شاعراً» بالبشر ومُنحازاً لهم؟ إنه أحمد البوسطة، باعتباره نصَّاً جديراً بوضعه في عميق الاعتبار والحضور. البوسطة نفسه وهو يكتب للناس وعن الناس ومن أجلهم. ما يكتبه يظل نصّاً، ربما يتجاوز مئات... آلاف النصوص التي تُكتب في اطمئنان بالغ، ورفاهية لا تخلو من استفزاز أحياناً، وعن وجاهة يُرجى كل ذلك، إلا ما رحم ربُّك، وتلقَّفه الضمير!

قبل أن تنشغل بقراءة وتحليل وتفكيك نصٍّ إبداعي، شعراً، رواية، قصة، مسرحية، لوحة فنية، من الأوْلى أن تنشغل بقراءة إنسان مشغول بالإنسان: النص الأكثر إبداعاً في هذا الوجود. ستجد الأولوية تلك تنحاز إلى بشر من نوعية البوسطة. ستجد الألوان التعبيرية تلك تُطلُّ برأسها في جانب من جوانب حياته، وفي قصة يسردها لك للمرة الألْف دون أن يتذكَّر أنه فعل ذلك من قبل! ستجد ذلك فيه من دون مناورة أو مجَاز، ومن دون اضطرار إلى أن يُكلِّم الناس رمزاً.

بتلك اللازمة المُحبَّبة في كثير من قصصه المُكرَّرة. اللازمة التي هي بمثابة الاستفتاح: «ما وعيتْ يا رفيقي إلا نوط (نوت) أبوخمسين على يبهتي (جبهتي)»، ويتبعها بضحكته المليئة بالتهكُّم في أقصى درجات اللوعة والعفوية والوجع والمحبَّة أيضاً.

والانشغال بنصٍّ لإنسان «كثير» في مواقفه، هو انشغال بإبداع الموقف وجسارته وعفويته، وتماهيه مع الفطرة الإنسانية النبيلة. أن تكتب دون أن ترتعد. أن تطمئن إلى أن مقالك لن يرى النور، فتلك شجاعة واطمئنان يتأتَّيان من موقف تعلم كُلفته، ولكن عزاءك أن الأثر القريب ليس همَّك، مادام في البعيد من الأثر، وألَّا تحبس كلمة ستدينك يوماً أمام الناس والتاريخ، وستكون غريباً في المستقبل.

يظل موقفك المُكلف انتصاراً لحق البشر: نصّاً. تظل إنسانيتك المفتوحة على قضايا الإنسان نصّاً، لا تبتغي منه حظوة أو وجاهة. حظوتك ووجاهتك قارَّة عند أولئك البشر الذين يألفونك وتألفهم. وعلينا ألَّا ننسى في هذا المقام، أن نسيان الناس: نص آخر أيضاً ذلك الذي من الصعب أن يُنسى!

في (الثالث والعشرين من إبريل/ نيسان 2015)، كتب على صفحته في «تويتر»، ردّاً على أحدهم: «طائرٌ حُرٌّ أعشق الحرية، وأرفض العبودية المُختارة». هل كان بحاجة إلى أن يكتب مثل ذلك الرد؟ فقط هو يُذكِّر الآخرين بتلك القيمة. قيمة أن تعشق الحرية وتكون على الضدِّ منها، مهما برَّر ذلك أكاديميون، ووطنيون وبشر سابقون، ومهما ارتدَّ عليك الزمن بارتداد الناس!

كان يطمئن على خياراته في الحياة. لا يحتاج إلى إعادة تقليبها؛ إذ ربما يطلع منها ندم زائف. والندم أوهن ما في الإنسان، وأقوى ما فيه في الوقت نفسه!

تتقلَّص مساحة التأمُّل في هذا الهوْل المفتوح على جغرافية العالم، ومن ضمنها جغرافيتنا؛ لكن الدليل الذي نثق به لا يناله الالتباس والزيف والوهن. نحن أبناء القدرة على التمييز بين «البَطَل» و «الطَبْل»، في كثير مما نشهد ونعِي ونتعامل ونظن ونثق ونتردَّد، باستثناء موقع «الباء» في قيمة الأول، وموقعها في معنى الثاني!

في العزْلة التي لم تكن خياره وهو في الطريق إلى كهولته. في ما حدث له «ذات جلطة». في القدمين اللتين كانتا تأخذانه إلى حيث قرَّر الناس هجْر بيوتهم إلى الشارع، يوم أن كان مسموحاً ومُرخَّصاً بذلك. يملأ الأمكنة، ويُضفي بضحكته المجلْجلة ملْحاً لزاد المكان، أو دفئاً يفتقده بعض بشر هذه الأزمنة بكل زمهرير تحولاتهم وتلوُّناتهم وقدرتهم على القفز من ضفة إلى أخرى تبعاً لقوة العملات في سوق الصرْف!

أحمد البوسطة: نصٌّ لا تنتهي قراءته؛ لأن صاحبه قرين فعل لا يعرف النهاية. ضحكتك المُجلجلة القريبة من القلب: نصٌّ آخر!

ليس بينك وبين الحق سوى استغاثة تلبِّيها، ووجع تضع حدّاً له ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وتيه تُعيد صاحبه إلى الجادَّة، وصراخِ جوع تُسكت ذلَّه، واصطفاف مع القلَّة وإن كانت أيديهم عارية من أداة إلا أنها ممتلئة بالحق الذي يسعون إليه. ذلك نصٌّ تحبُّه الحياة والبشر الذين تحب، والأهمّ من كل أولئك: يحبُّه الله.

يا صديق الناس: المجد في الحياة ليس اسماً. إنه الفعل، وفعلك عميق وممتدٌّ. بقي على الناس ألَّا يدعوا ذاكراتهم تعصف بنسيان ذلك الفعل، بالانشغال بأسماء مهمَّتها في الحياة وأد الفعل.

يا صديق الناس: المرارة مبعثها من تظنُّهم أهلاً لتصحوَ على بعضهم وقد دفعك إلى سرير لن يفقدك حيويتك وقدرتك على رفع سبَّابة تملك لياقتها الاستثنائية. كن بخير يا صديق الناس في زمن «الشر»!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4940 - الأربعاء 16 مارس 2016م الموافق 07 جمادى الآخرة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 7:47 ص

      احمد البوسطة إنسان يتحلى بالصدق و حب جميع الناس. رجل بحريني اصيل ، شجاع ، لا يتلون و لا يتغير برغم الظروف الصعبة. رجل جدير بالاحترام و المحبة الخالصة.

    • زائر 6 | 3:14 ص

      انسان يستحق كل التقدير والثناء . في زمن المصالح بقي احمد البوسطه كما هو لم يغيره الزمن . ايها النقي ، ايها الصامد ، لك كل التقدير والحب يا اخي العزيز ز تمنياتي لك بالشفاء العاجل .

    • زائر 5 | 3:11 ص

      كلماتك ....

      ما اجمل اصابعك وهي تعزف بالكلمات احلى المقطوعات ، شافا الله الإستاذ والبسه لباس العافية

    • زائر 4 | 2:03 ص

      مقالك روعة5في حق صديق البشر

    • زائر 3 | 1:39 ص

      شكراً لقلمك يا جمري!!
      شكراً لقلمك المبدع يا استاذنا فالأستاذ أحمد رجل مناضل يستحق كل ثناء فهو ليس من الباحثين عن مجد فوق معاناة الناس و كان متاحاً له ان يصبح من المقربين لو باع قلمة بثمن بخس. تحية له و لنضاله و دعاءنا له باشفاء و طول العمر

    • زائر 2 | 1:29 ص

      الله يقومه بالسلامه.

    • زائر 1 | 12:21 ص

      دعاء

      دعائنا لأحمد ان يمن الله عليه بالشفاء

اقرأ ايضاً