العدد 4942 - الجمعة 18 مارس 2016م الموافق 09 جمادى الآخرة 1437هـ

دلمون قبل سرجون الأكدي: دلمون وأم النار

من فخار أم النار الذي عثر عليه في القبور الدمونية (Laursen 2009)
من فخار أم النار الذي عثر عليه في القبور الدمونية (Laursen 2009)

من خلال ما قدَّمناه في الحلقات السابقة من دلائل آثارية، يتضح لنا جلياً، أن هناك جماعات حضرية استوطنت البحرين في الحقبة ما بين 3100 - 2300 ق.م، وهي الحقبة التي سبقت تكوين دولة دلمون. والمرجَّح أن هذه الجماعات سكنت في منطقة باربار على الساحل الشمالي للبحرين، وفي كرزكان على الساحل الغربي في البحرين. يذكر أن أهم موقع استيطان في البحرين هو موقع قلعة البحرين، وبحسب نتائج التنقيبات الآثارية لبعثتي الآثار الدنماركية والفرنسية، فإن بداية الاستيطان في هذا الموقع كانت قرابة العام 2250 ق. م. ومن خلال تطوُّر الاستيطان في هذا الموقع عبر الزمن، تم الترجيح أن هناك دولة بدأت تتكوَّن في البحرين قرابة هذه الحقبة عُرفت باسم دولة دلمون. إلا أن هذا لا يعني عدم وجود مواقع استيطان أخرى في البحرين تعود لفترة أقدم من العام 2250 ق.م.

منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي، تم الترجيح بوجود استيطان لجماعات حضرية في البحرين وذلك في الفترة ما بين 3200 - 2200 ق.م. (Vine 1993, p. 13). والمرجَّح أن هذه الجماعات الحضرية كوَّنت أول مجتمع حضري في البحرين، والذي تطوَّر لاحقاً، ليصبح دولة دلمون؛ حيث إن هذه الجماعات كانت قادرة على صناعة فخار خاص بها، يحمل هويتها، كما أن لها طقوساً جنائزية معيَّنة. هذا، وقد أكَّدت الدراسات اللاحقة هذه الترجيحات (Laursen 2013). إلا أنه لم يُعثر على مواقع استيطان تعود إلى هذه الحقبة؛ حيث إن هذه النتائج، أساساً، تم الحصول عليها من خلال دراسة القبور الدلمونية.

هامش الخطأ في تقسيم القبور الدلمونية

تشير الدراسات الحديثة إلى أن القبور الدلمونية في البحرين كان يبلغ عددها أكثر من 75000 قبر (Laursen 2010b, 2011)،(Olijdam 2010). وأن هذه القبور بُنيت في الفترة ما بين 2250 - 1750 ق.م. وقد تم تقسيمها إلى ثلاثة أقسام أساسية، بحسب التطوُّر الزمني إلى قبور مبكّرة، ومتوسطة، ومتأخرة. وتُعتبر تلال القبور المبكّرة، والتي تُعرف، أيضاً، باسم «تلال قبور أم النار»، متزامنة مع فترة المدينة الدلمونية الأولى في قلعة البحرين، وبالتحديد فإن تاريخها يعود إلى الحقبة ما بين (2250 - 2050 ق. م.), ويبلغ عدد هذه التلال قرابة 28000 تل، وهي تتركّز في مجموعات تقع بصورة أساسية في شرق كرزكان وجنوب بوري، إلا أنها تنتشر بصورة متفرِّقة، وخصوصاً الجزء الجنوبي من البحرين (Lowe 1986)، Laursen 2010b, 2011)). أما تلال القبور الدلمونية المتأخرة فقد بدأت بالظهور قرابة العام 2000 ق. م.، وهي تختلف في شكلها عن تلال القبور الدلمونية المبكّرة. وتنتشر هذه التلال في سار والجنبية والجزء الجنوبي من البحرين وصولاً إلى أم جدر، ويبلغ عدد هذه التلال قرابة 47000 تل (Olijdam 2010).

أما الفترة ما بين 2050 - 2000 ق. م، فتعتبر مرحلة انتقالية ما بين مرحلة تأسيس دولة دلمون ومرحلة نضج دولة دلمون، وفي هذه المرحلة ظهرت مجموعة قبور لها مميزات خاصة تتشابه والقبور الدلمونية المبكّرة سابقة الذكر، والقبور الدلمونية المتأخرة، وهي تتمركز، بصورة أساسية، في مقبرة واحدة وهي مجموعة قبور كرزكان (Laursen 2010)).

هذا التقسيم يعتمد على دراسة أعداد معيَّنة من القبور التي تمت دراستها على فترات التنقيب المختلفة، ومن خلال الدراسات الأولية تم تحديد نوعين من القبور الدلمونية، المبكّرة والمتأخرة (Lowe 1986)، ثم أضيف لها النوع الثالث من القبور وهو النمط الوسطي (Laursen 2010). يذكر أن أعداداً من القبور لم يُعثر فيها على بقايا آثار يمكن من خلالها معرفة تاريخ القبر، ولكن تم تحديد تاريخ القبر من خلال تشابه المظهر الخارجي للقبر من أحد النماذج الثلاثة للقبور المعروفة. بالإضافة، أن هناك أعداداً كبيرة من القبور الدلمونية لم يتم التنقيب فيها. كذلك فإن العديد من حملات التنقيب في تلال القبور كانت، في الأساس، حملات إنقاذ لهذه التلال قبل أن تتم عملية إزالتها، أي أن دراسة تلال القبور لم تكن ممنهجة. ومع ذلك، وعن طريق المصادفة، عُثر على قبر واحد أمكن تحديد زمن بنائه في الفترة ما بين 3100 - 2600 ق. م.، وهو القبر الذي اكتشف شرق كرزكان، والذي سبق الحديث عنه بالتفصيل في الحلقة السابقة.

إعادة دراسة القبور المبكرة

هامش الخطأ في دراسة القبور الدلمونية لا يقتصر فقط على أعداد القبور التي تمت دراستها، والقبور التي أُهملت من الدراسة، بل هناك نوع من التقيُّد بالنموذج الذي تم وضعه لتصنيف القبور. بمعنى، أن القبور المبكّرة تتزامن مع المدينة الأولى؛ أي أن أقدم قبر فيها يعود إلى قرابة العام 2250 ق. م. يذكر أن هذه القبور يتشابه بناؤها مع نموذج بناء القبور في حضارة أم النار, وهي تتميز، بالإضافة إلى شكلها، بأنها تحتوي على فخار خاص مستورد، إما من حضارة وادي الرافدين أو من حضارة «أم النار» (Laursen 2009, 2011). وقد ظهرت حضارة أم النار قرابة العام 2700 ق. م. على سواحل دولة الإمارات العربية وسلطنة عُمان، وقد سُمِّيت بهذا الاسم نسبة لجزيرة أم النار، ضمن إمارة أبو ظبي في دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي تعتبر من أولى الدويلات التي نشأت على ساحل الخليج العربي، والتي أسَّست لنفسها ثقافة واضحة خاصة بها والتي عرفت باسم حضارة أم النار (2700 ق. م – 2000 ق. م.). طورت لنفسها ثقافة خاصة تمثلت في طريقة البناء الخاصة بها، وبتطوير نوع خاص من الفخار، كما أنها تميزت بطريقة بناء قبور معينة (Potts 2005).

هذا، ويوجد العديد من أنواع فخار أم النار والذي ظهر في فترات مختلفة ضمن حقبة وجود هذه الحضارة. وقد عثر في القبور الدلمونية المبكّرة في البحرين، في الحد الأدنى، على سبعة أنواع مختلفة من فخار أم النار، وذلك بدراسة جرار الفخار الكاملة، وليس كسر الفخار، التي عثر عليه في هذه القبور (Laursen 2009). خمسة من هذه الأنواع تعود إلى الفترة 2200 - 2000 ق. م.، وهكذا فإنه منطقي أن غالبية القبور المبكّرة تعود إلى هذه الفترة الزمنية. إلا أن هناك نوعين من فخار أم النار يعتبر من النوع الذي ظهر في حقبة أم النار المتوسطة، الأول يعود إلى الفترة 2300 - 2000 ق.م، أما الثاني فيعود إلى الفترة 2400 - 2200 ق. م. (Laursen 2009). وقد اجتهد Laursen في سرد العديد من الدلائل التي من خلالها حاول ترجيح أن فخار أم النار من النوعين الأخيرين يرجعان إلى الحقبة ما بين 2250 - 2000 ق. م.

أياً كانت الدلائل التي ساقها Laursen، يبقى هناك، دائماً، هامش للخطأ. بمعنى، أن جزءاً من تلك القبور الدلمونية ربما تم بناؤها قبل 2250 ق. م. وربما بُنيت في زمن ما في الفترة ما بين 2600 - 2300 ق. م؛ حيث يجب الأخذ في الحسبان أن قبور دلمون المبكّرة، بُنيت متأثرة بنموذج بناء قبور أم النار التي امتدت ما بين 2700 - 2000 ق. م.

دلمون وأم النار

الدراسات الآثارية تشير بوضوح إلى وجود علاقة قوية بين البحرين وحضارة أم النار، ولم يكن الفخار هو الرابط الوحيد بين البحرين وأم النار، فقد عُثر على عدَّة قواسم مشتركة بين دولة دلمون التي نشأت في البحرين وحضارة أم النار، منها نموذج بناء القبور الدلمونية، وكذلك طريقة البناء، وقد سبق الحديث عن ذلك بصورة مفصَّلة. ولا يُعرف بالتحديد منذ متى بدأت هذه العلاقة بين البحرين وأم النار، ربما منذ البدايات الأولى لتكوُّن حضارة أم النار؛ أي قرابة العام 2700 ق. م.؛ فأم النار، كانت جزءاً من حضارة «مگن»؛ حيث مناجم النحاس التي تصدّر لبلاد الرافدين عن طريق البحر, وكانت البحرين تتوسط الطريق بين مگن والجنوب الرافدي.

الخلاصة، أن هناك جماعات حضرية سكنت البحرين في الحقبة ما بين 3100 - 2300 ق. م؛ أي قبل تكون دولة دلمون. كذلك، فقد نشأت علاقة قوية بين البحرين وحضارة أم النار. وربما تكون المستوطنات الأولى التي نشأت في البحرين قبل دولة دلمون عبارة عن محطات أسَّسها تجَّار ينتمون إلى ثقافة أم النار وذلك لتسهيل عملية التجارة بين مگن والجنوب الرافدي (Bibby 1986). وهناك من الباحثين من ذهب إلى أبعد من ذلك؛ حيث اعتبر البعض أن دلمون الأولى التي قامت في البحرين ما هي إلا امتداد لثقافة أم النار (Vogt 1996).





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 1:32 ص

      هل هناك خطأ في تسمية المناطق

      حيث القبور الموجودة حاليا في شرق شهركان وليس شرق كرزكان‏

اقرأ ايضاً