العدد 4962 - الخميس 07 أبريل 2016م الموافق 29 جمادى الآخرة 1437هـ

عولمة التعليم العالي العربي

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

عبر العشرين سنة الماضية، فوجئ المواطن في الأرض العربية كلها، بتدفق سيل متصاعد ومتنوع من برامج ومؤسسات وشبكات التعليم القادمة على الأخص من الغرب في البداية، ولكن القادمة من الشرق أيضاً في الآونة الأخيرة. إنه هجوم يشمل كل مراحل التعليم، ممتداً من الروضة إلى الدراسات الجامعية العليا. وهو لا يتواجد فقط في دول العسر الاقتصادي، حيث لا تستطيع الدولة تحمل عبء وتكاليف التعليم المتنامي في الكم والنوع، وإنّما يتواجد أيضاً، وبقوة، في دول اليسر والفوائض المالية.

إن جزءاً كبيراً من سبب اتساع هذه الظاهرة وانتشارها المبهر، بدأ بتوقيع الحكومات العربية على اتفاقات التجارة الحرة، ومن ضمنها حرية التجارة في الخدمات، بما فيها خدمات التعليم، تلك الاتفاقات التي فرضتها قوى العولمة الرأسمالية النيوليبرالية على العالم النامي من خلال جبروت وابتزازات منظمة التجارة العالمية.

هل يقف الأمر عند هذا الحد؟ أبداً، ففي حين أن دولاً مثل الولايات المتحدة الأميركية وكندا رفضت أن تشمل اتفاقية حرية تجارة الخدمات حقل التعليم في بلديهما، واعتبرتا التعليم شأناً وطنياً سيادياً لا يترك للأغراب ولا لتأثيرات الخارج، فإن الدول العربية كالعادة، انصاعت للأمر دون تحفظٍ، وفتحت الأبواب للخارج.

هذا على رغم أن الحكومات العربية تدرك جيداً أن اختلاط الخارج بالداخل، في حقلٍ حسّاس ومعقد كحقل التعليم، سيخلق ألف إشكالية في مجتمعات تتصف بضعف الرقابة الرسمية، وبانتشار المحسوبية والفساد والاستهتار بالقوانين.

لضخامة وتعقّد الموضوع، دعنا نقصر الحديث اليوم على التعليم العالي. ولنبدأ بالتأكيد على أن غالبية برامج ومؤسسات التعليم الخارجية غلبت على تأسيسها وتنظيمها الصبغة التجارية الربحية، سواءً من خلال شراكاتهم مع تجار محليين ومع جامعات خاصة ربحية، أو من خلال تسهيلات كثيرة قدّمتها الحكومات لتقلل من مصاريف تلك المؤسسات وتجذبها للمجيء، أو من خلال تشجيع ودعم مباشر وغير مباشر من قبل حكومات وبعض منظمات بلدان تلك المؤسسات لتساهم في تغيير ثقافة المنطقة العربية، من أجل تسهيل مهمات المشروع الصهيوني، وإدماج بلاد العرب ذهنياً وسلوكياً في ثقافة العولمة الاستهلاكية المسطّحة، وتهيئة البعض للانخراط في موجة هجرة العقول العربية إلى الخارج، والقيام بأبحاث ظاهرها البراءة وباطنها خدمة مؤسسات الاستخبارات أو مؤسسات واضعي استراتيجيات تأجيج الصراعات والانقسامات في بلاد العرب المستباحة.

ليس الموضوع رفض الانفتاح على الآخر والتعلم منه ومن منجزاته الكثيرة، والتعاون معه بندية في شتى حقول المعرفة، فهذا ما لا يمكن أن يخطر على البال. وإنما نحن هنا معنيون بالآتي:

أولاً: سلعنة (من السلعة) التعليم العالي بقصد إدارته على شاكلة المؤسسات التجارية، وتداول أسهمه في البورصات المالية وتحقيق أرباح متصاعدة للمساهمين. من هنا ظهور شركات إعلام لتسويقه، وشركات دولية لتمويله، ودخول بعض شركات الإلكترونيات والسيارات في أسواقه، والحبل على الجرار، إذ قد نرى في المستقبل جامعات تملكها سلسلة مطاعم الوجبات السريعة. ولن يطول الزمن لنصل إلى أن يصبح ذلك التعليم تعليماً لنخب الغنى واليسر، عسيراً على قدرات الملايين من محدودي الدخل، وليكون التعليم أداةً من أدوات اللامساواة بعد أن كان في الماضي القريب أداةً من أدوات الصهر والحراك الاجتماعي.

ثانياً: هناك إشكالات أكاديمية وثقافية بالغة الخطورة. ولقد كتب الكثير عن إشكالية إعطاء الأولوية للغات الأجنبية واستعمالها كوسيط لتدريس أغلب المواد العلمية التخصصية، بل وكثير من مقررات العلوم الاجتماعية والإنسانية والتاريخية والأدبية. وبالطبع فإن ذلك يتم على حساب اللغة العربية، الوعاء الفكري لثقافة العرب، والذي يؤدي إلى انفصال كثيرٍ من طلبة تلك الجامعات عن منابع ومصادر ثقافة أمتهم، والذي بدوره يؤدي أيضاً إلى ضعف في الهوية الوطنية والقومية العروبية.

وينطبق الأمر على محتويات المواد الاجتماعية والإنسانية التي غالباً ما تكون حول فكر وتاريخ وقضايا ومناهج مجتمعات الدول التي تنتمي لها تلك الجامعات الأجنبية، وبالطبع بإهمال واضح لفكر وتاريخ وتراث وقضايا أمة الطالب العربية، مما يزيد في مذبحة الثقافة العربية في فكر ووجدان الطلاب العرب المتخرجين من تلك الجامعات وفي عيشهم بعد ذلك في غربة ثقافية مفجعة.

نحن أمام موجةٍ من عولمة التعليم العالي العربي الذي قد يؤدي إلى فقدان الأمن الثقافي العربي، ليضاف إلى فقدان الأمن العسكري والغذائي والاقتصادي والسياسي في أرض العرب المستباحة.

ما تحتاج حكومات أمة العرب أن تعيه، قبل فوات الأوان، هو أن الجامعات هي أهم مصدر لتخريج علماء المستقبل في الحقول التي تهمّ الأمة وترتبط بحاجاتها التنموية الحقيقية، وهي من أهم المؤسسات للقيام بالدراسات والبحوث المرتبطة بقضايا المجتمعات العربية الحالية والمستقبلية، وهي في طليعة المؤسسات المعنية بتجديد ثقافة الأمة لإخراجها من تخلفها الثقافي التاريخي، وهي المصدر الأهم لإعداد قوى عاملة رفيعة التدريب والقدرة على استعمال المعرفة في قيادة المؤسسات والشركات، وهي بالتالي أهم مؤسسة لبناء المستقبل.

فإذا سلمت تلك الحكومات وظيفة التعليم العالي ليقوم بها الخارج، فهل تضمن أن تقوم مؤسسات الخارج بتلك المهمات الجسيمة التي ذكرنا، وبالطريقة والمقدار والالتزام الذي يخدم مجتمعاتها وثقافتها ومستقبل أجيالها؟ ونخلص إلى أن نطرح السؤال التالي: متى ستعقد قمة عربية تخصّص لدراسة أوضاع التعليم العالي وأوضاع البحث في الوطن العربي من خلال نظرة قومية تكاملية وتعاونية وتنسيقية فيما بين الجامعات العربية، ومن أجل إيقاف تسليم التعليم العالي للخارج؟

اليوم، والحكومات العربية ترى أمامها مقدار الدمار والفواجع التي نتجت عن تسليم حقول السياسة والاقتصاد والأمن إلى الخارج، هل ستتعلم الدرس بالنسبة لحقل التعليم؟

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 4962 - الخميس 07 أبريل 2016م الموافق 29 جمادى الآخرة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 10:33 ص

      (يتبع]
      النفاق في تمرير أجندتها في سلعنة تجارة التعليم علي دول العالم الثالث بما فيها الدول العربية ولكنها رفضتها لجامعاتها ..ما يحدث الن جامعات تجارية دون المستوي وملايين الدولارات يصرفها الاباء علي ابنائم بابتعاثهم الي الجامعات الغربية لانعدام الثقة في الجامعات الاهلية والاجنبية ..وشكرا دكتور علي فخرو علي المقال المثير للشجون

    • زائر 4 | 10:25 ص

      (يتبع)
      الجدير بالذكر ان اتحاد الجامعات والكليات في كندا، والمجلس الأمريكي للتعليم، مجلس العالي الاعتماد التربوي (أيضا الأمريكية) ورابطة الجامعات الأوروبية قدموا إعلانا مشتركا يدعوا بلدانهم ان تبقى بعيدة عن اتفاقية الجاتس. والغريب، ان الولايات المتحدة وكندا ومعظم دول أوروبا الغربية لم تقدم أي التزامات في إطار التعليم العالي ولكنها مارست الضغط علي بقية الدول ان ترضخ لاتفاقية (GATS) حيث تعتبر الخدمات التعليمية هي من الصادرات الرئيسية ومصدرا جيدا للدخل. الخلاصة ان الدول الغربية مارست النفاق

    • زائر 3 | 10:18 ص

      في عام 2000 قدمت منظمة التجارة العالمية في قرار مثير للجدل لتشمل التعليم واحدة من العديد من الخدمات المقدمة بموجب نطاق الاتفاقية العامة للتجارة والخدمات (الجاتس ). وتعتبر اتفاقية الجاتس التعليم سلعة قابلة للتداول، كاي سلعة خدمية مثل الخدمات المصرفية. ولكن على عكس الخدمات المصرفية والتجارية الأخرى، يعتبر التعليم في جميع أنحاء العالم احد الحقوق علي الدول و المجتمعات التي لديها مسؤولية أخلاقية لضمان هذا الحق. وقد تبنت بعض الدول مثل ألمانيا والسويد هذا الأخلاقيات وتوفير التعليم العام المجاني للجميع

    • زائر 2 | 3:07 ص

      لا أتفق مع الكاتب في ما جنح إليه، فنظرية المؤامرة هي كذبة صدقها الكثير وما زال يعيش أوهامها، المنطقة العربية في الفترة الحالية في أسوء ظروفها، والمشروع سواء الأمريكي أو الصهيوني كما يسميه، هو مشروع في الأساس تم وانتهى، أما بالنسبة لبقية الأمور في خصوص تسليع التعليم العالي أو اللغة، هي تجربة موجودة في غالبية دول العالم، وليست مقتصرة على المنطقة العربية، كما أن هذه الأمور من المواضيع القديمة التي كتب بها بكثرة وناقشتها العديد من الدراسات، لا أعتقد أن الكاتب وفق في ما ذهب له.

    • زائر 1 | 11:07 م

      اللغة العربية

      الغريب أن التفاخر بين مؤسسات التعليم العالي هو بمقدار كون البرامج التعليمية بلغة غير لغتنا، بحجة أنها لغة العلم، ولا ندري هل التفاخر هنا بالمعرفة المجردة لكونها معرفة أم بمهارة اللغة بغض النظر عن المحتوى العلمي ؟ ألا يمكن الفصل بين تدريس المواد العلمية وعملية تدريس اللغة الأجنبية بشكل حرفي عال يكفل إتقانها من جانب والتمكن العلمي المعرفي من جانب آخر ؟

اقرأ ايضاً