العدد 5030 - الثلثاء 14 يونيو 2016م الموافق 09 رمضان 1437هـ

في قبضة الضمير الذاتي

هناء بوحجي comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

في حكاية قديمة روتها لي جدّتي، كانت سيدات فقيرات في الحي الذي تسكن فيه، وبسبب الحاجة، يضحين بغذاء أطفالهن لإرضاع أطفال أسر ميسورة، من أجل مقدار ضئيل من المال، وأحياناً ببقايا سفرة غداء تلك الأسر.

لم يكن هذا الأمر غريباً في تلك الفترة، كما ليس غريباً اليوم أن نجد ملايين النساء يغادرن أدوارهن الطبيعية والأساسية في الحياة، ويسافرن إلى أقاصي الأرض بحثاً عن مصادر رزق لإعاشة أسرهن، واضعين حياتهن وحقوقهن الإنسانية وشرفهن في أيدٍ يجهلون أمانها وعدلها. البعض لا يد لهن ولا قرار إذ يُسقن إلى العمل من قبل أزواجهن وذويهن بعد أن تضيق بهم سبل الحياة في بلدانهم ويشح الرزق. فتتخلى هؤلاء عن دورهن الأساسي في حياة أبنائن وأسرهن، ليقمن بهذا الدور بأجر في أسر أخرى. قد يحالف البعض الحظ في أسر ذات قيم إنسانية عالية، وقد يكون البعض على موعد بشقاء لا حدود له.

هؤلاء هن عاملات المنازل اللاتي لم يعد بمقدور أي ربة أسرة الاستغناء عنها وإنابتها بأداء بعض من أدوارها في الأسرة، ابتداءً من الأعمال المنزلية فيما لا يتردد البعض في إعطاء هؤلاء دور تربية الأبناء نيابة عنهن. ومع أهمية هذه الأدوار وحساسيتها إذ أنها تؤدي في أكثر الأماكن خصوصية إلا أن النظرة لهذه العاملات لاتزال لدى البعض بعيدة عن الإنسانية، فتعامل هذه العاملات كالآلة التي لا حقّ لها في الراحة والعيش اللائق. ويساعد على ذلك الوضع الخاص الذي تحتمي وراءه الأسر، إذ تحميها خصوصيتها من التعرض للتفتيش من قبل جهات القائمين على حماية حقوق هؤلاء العاملات، ويفاقم هذا الوضع جهل العاملات بحقوقهن وبقنوات التواصل للشكوى إن تعرضن لأي ضرر أو استغلال.

في العام 2015، لجأت إلى جمعية حماية العمال الوافدين 168 عاملة من عاملات المنازل، من جنسيات آسيوية وإفريقية، غالبيتهن جئن عن طريق سفارات بلدانهن لدى مملكة البحرين، والبعض عن طريق مراكز الشرطة فيما أوصل البعض إلى الجمعية منظمات وأفراد وغيرها.

هؤلاء العاملات كان الهرب ملجأهن الأخير من سوء المعاملة والاستغلال الذي تعرضن له خلال عملهن في منازل أسر محلية. وتراوح سوء المعاملة مابين الحرمان من الراتب والعمل لساعات طويلة، والحرمان من الحق في الإجازة، والضرر الجسدي والاستغلال الجنسي، بالإضافة لحجز وثائق السفر والحرمان من استخدام الهاتف.

وهذا الوضع ليس مقصوراً على دول معينة، ففي العالم يوجد أكثر 53 مليون شخص مصنفين تحت عمال المنازل، وغالبيتهن من النساء، وهم مصدر قلق للمهتمين والقائمين على حقوق الإنسان مما دفع منظمة العمل الدولية إلى صياغة اتفاقية 189 للعمال المنزليين لعام 2011، التي تنظم أوجه العلاقة بين العمال المنزليين وموظفّيهم فيما يتعلق بإبرام العقود، والأجر وأوقات الراحة والإجازات وغيرها.

وتدلّل المنظمة على معاناة هذه الفئة بنتائج دراسة أجرتها في العام 2013 حملت عنوان «العمال المنزليون حول العالم»، بأن غالبية عمّال المنازل يعملون في ظل شروط غير واضحة، فهم إما غير مسجلين وإما لا يحظون بتغطية قوانين العمل، إذ إن 10 في المئة فقط من هؤلاء يتمتعون بحقوق العمال الآخرين، ولذلك يعمل هؤلاء ساعات عمل أطول، ويحصلون على أجور أقل. ووجدت الدراسة أن غياب الحماية القانونية يضعف العمال المنزليين، ويعسّر مطالبتهم بحقوقهم وبمعاملة منصفة.

وقد لفت الاهتمام العالمي بحقوق هذه الفئة من العمالة، الكثير من الدول إلى الانتباه إلى حقوق هذه الفئة بسن القوانين أو تعديل الموجود منها، خصوصاً تلك التي تحرص على تبييض ساحتها، في مجال حقوق الانسان لارتباط ذلك بمصالح دولية لا يمكن أن تتحقق إلا باجتياز أوضاع تلك الدول في هذا المجال مستويات معينة من الاهتمام بحقوق الإنسان بشكل عام والعمال بشكل خاص.

محلياً، قامت البحرين بخطوات رائدة في هذا المجال إذ قادت دول المنطقة في سن قانون مكافحة الاتجار بالأشخاص منذ العام 2008، كما أنشئت إدارة الدعوة العمالية التابعة لوزارة العدل والشئون الإسلامية من أجل تسريع تسوية القضايا العمالية التي كان إنجازها يستغرق وقتاً طويلاً، وتم تعديل قانون العمل ليشمل في بعض بنوده عمال المنازل. وآخر هذه الخطوات إنشاء مركز إيواء، ومحطة خدمات العمالة الوافدة الذي تديره هيئة تنظيم سوق العمل بالإضافة إلى توفير خط ساخن للشكاوى.

ولا يزال الطريق طويلاً مع تزايد حاجة المجتمع لعمال المنازل الذي خصص لهم تاريخ 16 يونيو/ حزيران، كيوم عالمي يسلط الضوء على أهميتهم واحتياجاتهم في آن، ولتذكير الدول بواجباتها الإنسانية تجاههم، حيث يشكل العمال المنزليين نحو 10 % من عدد السكان و20 % من إجمالي العمالة الوافدة، لابد من ضبط أكبر للممارسات واستكمال الخطوات التشريعية والإجرائية التي وُضعت أطرها بتطبيق صارم.

وهذا لن يتحقق إلا بوضع استراتيجية شاملة لجميع الأطراف ذات العلاقة وهي الحكومة والعمال أنفسهم والمجتمع بشكل عام، وذلك باستكمال التشريعات المتعلقة بالعقود التي تحكم العلاقة بين طرفي العمل وتشديد العقوبات على المخالفين من أصحاب العمل.

وكذلك توعية هذه الفئة من العمالة بحقوقها وواجباتها أيضاً، وعدم السماح لها بالدخول إلى سوق العمل قبل اجتيازها محاضرة توعية بلغتها الأم، وتزويدها بالرقم الساخن الذي أطلق حديثاً في حال تعرضها لأي انتهاك لحقوقها كما يتم تعريفها.

وتأتي الثقافة المجتمعية على رأس هذه الاستراتيجية، فطبيعة عمل فئة العمال المنزليين المنفصلة عن العالم، تضع مسئولية كبيرة على ضمير أصحاب العمل من الأسر بكافة أفرادها، وبناء الثقافة يبدأ من المدارس والجامعات. فلا شيء يضع تطبيق العدل في درجة عالية من المخاطرة سوى أن يترك أمر هذا التطبيق للتقدير الذاتي للإنسان، ولذلك سُنّت القوانين بمراجعها الدينية والمدنية المختلفة، وأنشئت المحاكم للاحتكام إليها من أجل إنصاف من يقع عليهم الظلم بإرجاع حقوقهم إليهم ومعاقبة الظالم، لكن وضع العمال المنزليين الخاص يحتاج بالتأكيد إلى قيم عالية وضمير يقظ يمكّن أصحابها من وضع قوانينهم العادلة الذاتية لتقوم مقام القوانين، وتشكل خصوصية منازلهم سدّاً منيعاً أمامها.

إقرأ أيضا لـ "هناء بوحجي "

العدد 5030 - الثلثاء 14 يونيو 2016م الموافق 09 رمضان 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 12:39 ص

      اتمني و احلم ان يأتي يوما يعيش الناس سواسية لا يمتلكون اكثر مما يحتاجون و لا ينقصهم شيئ مما يحتاجون. لكن في ظل النظامين الاقتصادي و الاجتماعي اللذين وضعهما الانسان علي هذه الكرة و دفع كليهما الي درجة التقديس فالوضع لا يتغير و يبقي الفقير عند الله يتمني و يحلم.

اقرأ ايضاً