العدد 5040 - الجمعة 24 يونيو 2016م الموافق 19 رمضان 1437هـ

يومَ كتبْتَ!

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

تتهيَّب السفرَ، وأنت تجوب العالم من عُزلتك. عُزلتك التي ترصد منها كتابةً نصوص العالم ونواياه. ابن الإقامة في الشمس أنتَ. تجرحُك الظلال، والهوامش، وسدنة النسيان، والبريد الذي يحمل لك آخر صيحات الاستهلاك. ذاكرتك الفارعة كموقفٍ شهْم، تُحيلك إلى درس يُحصِّنك من الحاجة، والانتظار الذليل، والنصوص التي تُدين الحياة.

بعُدتِ الشقَّة بينك وبين النص. مشغول بالوجوه، والنوايا، والصمت، والروائح، وهيئة المستقبل. كأنك تراه على بُعْدِ طيف نحيل. تتأنَّى في قهوتك كأنك لن تجالسها بعد اليوم. تلك المرارة التي تُشكِّل منها كل ما عرفت من حلاوة عابرة أو نادرة، تُتيح لك فرصة تخيُّل المضامين التي تسهر عليها، هارباً من الأصنام التي تأتي في هيئة أشكال.

أسرارك مُشاعة، على الأرصفة وإعلانات النيون، والجهات التي اتفقتْ على تجريعك الخيبة، يوم اختفت ذات تبرُّم من عزلتك. كل أوقاتك فجر. تُداري القمح والأناشيد والريش الذي ضمَّخة الطلُّ. تنادمك الأنهار في إعراض وصلف صحراء فاض بها العالم.

لك أبناء من الخرافة. زادك إلى الكلام الأنيق، والسحْر الذي يهشِّم العادة، ويركن المألوف في المغارات اللائقة به.

يوم كتبتَ ذات تجلٍّ «كل موت مألوف. الحياة ليست مألوفة لهذا تضجُّ بالخسارات والربح. الفتوَّة والكهولة. العسل وجبال من الحنظل».

يوم كتبتَ ذات هذيان «حين لا تجد الجهة، اخترع جهتك. كن طائراً وستأتيك الجهات مرغمة».

يوم كتبتَ ذات سفر نادر «كل هذا كان في حضرتي، وأكثر».

يوم كتبتَ ذات عزلة، وكلك عزلة «من المروءة أن يأتي العالم إليَّ. لا شيء... لا أحد في الخارج. والأهم: لا نص سيعيد لك اعتبارك الذي لا تنتظر ردَّه أصلاً»!

يوم كتبت ذات فرح غامر «أيتها الحقول: وحدَك من يستطيع إفحام هذا اليباس، وتمدُّد الملح».

يوم كتبتَ ذات غواية «ها قد وصلتَ، ماذا بعد! انشغالك بالطريق فيه فرصة أن تضلَّ».

يوم كتبتَ ذات فتوَّة «أعلم أن هذا العالم فخ عملاق، ونحن الطرائد المذعورة حتى في نومها».

يوم كتبتَ ذات حب «فلينتَهِ العالم في هذه اللحظة؛ فقد لا تتاح لي مثل هذه الفرصة».

يوم كتبتَ ذات رماد «النار كل يوم هي في شأن».

بينك وبين الرماد قدرتك على أن تخضرَّ في مواسم القحط، وتُحلِّق في لحظات الإذعان، وتُقيم في السفر، وتُسافر في الإقامة!

هَبْ أنك وحدك في هذا العالم! ما مدعاة السفر إذن؛ ما دمتَ قادراً على استدعاء العالم إلى خلوتك، وخلوتك عالم بذاته. حريٌّ بالعالم أن يأتيك، لأنه لم ينشغل بالحياة كما يجب. ما يجب من تلك الحياة هو فيما حولك وفوقك وفيك.

تتهيَّب السفرَ، وأنت تجوب العالم من عُزلتك. تلك عوالم إذن وأكبر من العزلة! ابن الإقامة في الشمس أنتَ، وإن حجبتْ طريقها إليك.

*تستأنف «بورتريهات النصوص» حضورها بعد إجازة عيد الفطر المبارك. كل عام وأنتم بألف خير.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 5040 - الجمعة 24 يونيو 2016م الموافق 19 رمضان 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 8:06 ص

      بعد قرائتي شعرت أن الأستاذ جعفر كتب هذا المقال وهو مسافر بالباص الذي تعطل بهم بسبب التفتيش وغيره أكثر من مره وأنه سيسافر فى العيد بالطائرة؟!!.

    • زائر 1 | 4:37 ص

      . استاذ جعفر ، اكتب مواضيع تلامس المجتمع وكلمات سهلة احنا ناس بسطاء

اقرأ ايضاً