العدد 5058 - الثلثاء 12 يوليو 2016م الموافق 07 شوال 1437هـ

اللحظة التركية المتناثرة

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

تبدو اللحظة الزمنية التركية مبتورة ومتناثرة الجزئيات، بيد أنها بالقطع ليست معزولة عن مسار الزمن التاريخي الذي تمضي فيه وتتفاعل، بل هي جزء لا يتجزأ منه عند النظر إليها عبر المشهد السياسي الإقليمي والعالمي بنظرة شمولية، تماما كما فعل بعض المحللين ممن تناولوا جزئيات هذه اللحظة في أبرز معالمها الظاهرية؛ كتطبيع علاقة تركيا بإسرائيل واعتذارها لموسكو، أو ما دار بشأن شائعات الاتصالات السرية بين الرئيسين أردوغان والأسد عبر الوسيط الجزائري، أو غزلها باتجاه مصر، والإعلان عن توطين اللاجئين السوريين... إلخ. فكل هذا وذاك يفرض تحليل ما يدور من متغيرات بتسلسل وترابط يعكس التباس السياسة التركية، وتراجعها واستدارتها، لتتموضع في مواقف براغماتية خاضعة للضغوط، والخوف من خطر التفتيت المخطط له والشعور بالعزلة، والأسوا منه الانهيار الاقتصادي بعد توريطها في الحرب السورية من جهة، ومن جهة أخرى انعكاس للمتغيرات الإقليمية والدولية الفجائية عليها.

تركياً أوردغان هي سيدة المطبقين حرفياً وبدقة لمفهوم «البراغماتية Pragmatism» أو«الذرائعية» أو«النفعية» أو«الانتقائية والانتهازية»... إلخ، سمها ما شئت، ففي الأخير لابد من الركون إلى ما يحمله المفهوم من مضامين تناولها المفكرون بالتفكيك والتحليل، وتوصلوا إلى أن «البراغماتية» المصطلح الفضفاض الذي تميز به «النهج الأردوغاني» ينتمي للمذهب الفلسفي السياسي الميكيافيلي الشهير بمقولته «الغاية تبرر الوسيلة»، وبالتالي هي طريقة لحل المشاكل والقضايا بوسائل ومعيار عملي يركز على النتائج بما تقتضيه معايير المصالح الخاصة التي تتجاهل السؤال عن ماهية ما يحدث وأصله وكيف حدث ولماذا... إلخ؟ فكل ذلك لا يهم بقدر أهمية نتائجه وتنسيبها للمصلحة الخاصة، وهنا تكمن إشكالية النتائج التي يستخدم للوصول إليها وسائل لا أخلاقية أو تناقضية وكارثية.

من هنا يمكن تحليل الاستدارة التركية في بعدها «البراغماتي الأردوغاني» وأثرها في متغيرات وتحولات السياسة التركية، فمن «تصفير المشكلات» إلى الخوض في أزمات المنطقة واصطفافاتها، إلى التفجيرات التي هزت مطار أتاتورك حديثا في عز الموسم السياحي، واتهم بارتكابها تنظيم «داعش»؛ تركيا اليوم تفتش عن مخارج تستعيد بها دورها وتأثيرها في الأزمات الإقليمية، لاسيما بعد خذلانها من الموقف الأميركي الداعم للأكراد، والموقف الإلماني الذي ينبش في تاريخها الصراعي مع الأرمن، تبحث عن دور جديد تصدرته عناوين التطبيع والمصالحات التي ربما تضعها في سياق تحالفات إقليمية ودولية جديدة تستنفع من نتائجها بهذا الشكل أو ذاك.

تطبيع مع عدو العرب

في سياق أمنيات تركيا لأن تصبح قوة عالمية، سعت للعب دور محوري في الشرق الأوسط، فكانت أحد مرتكزات الصراعات الإقليمية والدولية في حرب المنطقة، تركيا تؤمن بأحقيتها في السيطرة على البلدان العربية، وتميز مدخلها للعب هذا الدور بعاملين؛ اقتصادي يزيد من دخلها القومي وخصوصاً أن دول المنطقة غنية بالثروات الطبيعية وتشكل سوقا ضخما لتصريف منتجاتها وسلعها وتنشيط رؤوس أموالها، كما برز من خلال استغلالها القضية الفلسطينية وتوطيد علاقتها بالأخوان المسلمين، على رغم صلتها التاريخية الراسخة مع حليفها «الكيان الصهيوني»، الذي ومنذ مهاجمته أسطول الحرية «مرمرة» الذي أبحر لفك حصار غزة العام 2009، وتركيا جمدت علاقتها به وطالبته باعتذار ودفع تعويضات لعائلات الضحايا قدرت بعشرين مليون دولار.

بالطبع ليس للعدو الإسرائيلي مصلحة في استمرار تجميد العلاقة، لكن شروطه للتطبيع جاءت فاقعة في إذلالها وكشفها عن هزلية الموقف التركي، إذ اشترطت إسقاط الدعاوى القضائية المرفوعة بحق قادة جيش الاحتلال وجنوده، وإبقاء الطوق الأمني على غزة، والتزام تركيا بمنع أي نشاط عسكري أو إرهابي بحسب توصيفها لحركة حماس في تركيا بما فيه جمع الأموال. لاشك في أن التطبيع استفادة اقتصادية لإسرائيل وخصوصا عبر إمداد أوروبا بالغاز الإسرائيلي عبر تركيا، ومن طرف مقابل التطبيع يسمح بتمرير مساعدات إنسانية تركية لغزة وتحت إشراف العدو عبر ميناء أسدود، البعض أشاد ببراغماتية وحنكة اردوغان بهذا التطبيع، لكن وجهات نظر متباينة ترى انه لا يخفي لهفة الأتراك بإغلاق الملف، وحقيقة تنازلهم بالاندفاع للتسوية مع إسرائيل بعد فشل رهاناتهم الخارجية وأزماتهم الداخلية. الأهم أن التطبيع يدينهم ويظهر تناقض علاقتهم مع الكيان الصهيوني، الذي يقتل ويذبح بدم بارد الشعب الفلسطيني، ويحتل المسجد الأقصى، ويمنع المسلمين من الصلاة فيه، وخصوصاً بعد تخلي الأتراك وتنازلهم عن مطلب رفع الحصار عن غزة.

اعتذار لموسكو

تجمع الآراء بأن المخاطر على المشروع التركي في المنطقة برزت بعد التدخل العسكري الروسي في سورية، ومشاركته في ضرب جماعات الإسلام والمعارضة المسلحة التي تدعمها تركيا، فضلاً عن تقدم الروس للسيطرة على الحدود الشمالية من سورية، وسد طريق الإمداد التركي لتلك الجماعات، الأهم مناصرتها وحمايتها للتمدد الكردي في مناطق الحدود، الأمر الذي فجر التناقض الروسي-التركي في إطار مصالحهما الاستيراتيجية للسيطرة على سورية، وإسقاط الطائرة الروسية من قبل الأتراك يخل بإستراتيجية موسكو التي تحاول إثبات قدرتها كقوة عالمية، وعليه ساءت علاقة البلدين، كما تخلى حلف الأطلسي عن تركيا لمواجهة أي موقف تصادمي بينهما، أضف إليها التحجيم الأميركي بالاعتراض على إقامة منطقة معزولة شمال سورية مما جعل تركيا بين خيارين، إما التوغل في الصراع ولهذا أكلافه، أو إعادة بناء العلاقة التي أصبحت حاجة ضرورية لعودة السياح الروس ورفع العقوبات الاقتصادية التي فرضتها روسيا عليها، وهذا يتطلب حتما تخلي الأخيرة عن طموحاتها التوسعية بالسيطرة على منطقة النفوذ الروسية، وتقديم اعتراف رسمي ومكتوب بمسئوليتها في إسقاط الطائرة ودفع التعويض، ومما ينتج تفاهماً بتخفيف الضغوط الاقتصادية، ووقف الحلم الكردي بإقامة فيدرالية.

بهذا تثبت الوقائع السياسة والعسكرية أن موازين القوى تتجاوز الطموحات التركية في المنطقة، وان استمرار مناكفة موسكو يكبدها خسائر فادحة طالما استمرت الأخيرة في معاقبتها، وهذا قد يعرضها إلى هزة اقتصادية وسياسية قوية هي في غنى عنها، وعليه جاءت استدارة التفاهمات، بعد التنازل والاعتذار الذي انعكس باستقبال أول فوج سياحي بعد قرار موسكو رفع الحظر عن الرحلات السياحية لتركيا، حيث يتوقع أن لا يقل عددهم عن «750» ألف سائح مع نهاية العام، وهو أمر مهم لدخلها السياحي السنوي الذي لايقل عن «33 مليار دولار».

اللاجئون ورقة مربحة

تشير الحوادث إلى أن سورية تحتل مكانة محورية في الإستراتيجية الأردوغانية وخططها، لماذا؟ لأسباب تاريخية واقتصادية وجيوسياسية معروفة؛ فلجهة الاقتصاد، سورية سوق نشط وممر اقتصادي للسلع التركية، كما إنه ومع تزامن التطبيع والاعتذار توقع البعض حدوث تغيير في الموقف التركي تجاه نظام الأسد، بيد أن آخرين يرون أنها لاتزال على موقفها، وهي التي فتحت حدودها لآلاف الجماعات المسلحة للقتال في سورية، وساهمت باستمرار الحرب، وتخريب الاقتصاد، ونهب المصانع، وبيع الآثار، وسرقة وشراء النفط من التنظيمات الإرهابية، أما التوجهات بتجنيس «300 ألف» من أصل «2.7 مليون لاجئ سوري، من الميسورين ومن يتمتعون بمستوى علمي عال وكفاءات مهنية، فليس حباً فيهم، إنما لإحداث تغيير ديمغرافي في البنية الاجتماعية لتركيا، وللاستنفاع من إبقائهم، وتنشيط استثماراتهم وأموالهم في الاقتصاد، والحصول على دعمهم الانتخابي، لم لا والحديث يدور عن استثنائهم من شرط «الإقامة 5 سنوات» لطلب الجنسية والمشاركة في التصويت. إنه تعبير فاضح عن مستوى النفعية والانتهازية في استغلال اللاجئين كورقة مربحة بكل اتجاه، إنها الغاية التي تبرر الوسيلة من أسف في الحرب القذرة، ذلك على رغم ارتفاع أصوات الاحتجاج والانتقادات الرافضة لذلك.

خلاصة الأمر قد تكون الممارسة البراغماتية حذاقة وذكاء وتقليلا للمخاطر، وقد تتحقق عبرها الأحلام والمصالح وتعدل موازين القوى؛ بيد أن لها ضريبة وأثمان تُدفع وتنازلات تسدد غالباً من دماء الضحايا، والتضحية بالمبادئ والقيم الأخلاقيةوتؤدي بأصحابها للكوارث.

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 5058 - الثلثاء 12 يوليو 2016م الموافق 07 شوال 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً