العدد 5061 - الجمعة 15 يوليو 2016م الموافق 10 شوال 1437هـ

حين تسود التفاهة والعبث

رملة عبد الحميد comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

إن الدفع بأناس مغمورين إلى سلم الشهرة والمتابعة وهم يقومون بأعمال هي أقرب ما تكون إلى التفاهة، هو نوعٌ من العبث والاستخفاف.

قالت إحداهن معترضةً: «وهل لابد من أن يكون كل ما نعمله مفيداً حتى يعجبكم؟ أنا أريد لحظات أصبح فيها تافهةً وهذا حقي». لكن التساؤل هنا: ما الذي يجبرنا على ركوب موجات التفاهة؟ ولِمَ يبحث الناس عن الشهرة والوصول إلى محلّ لمتابعة الجماهير؟ هل هي حاجات نفسية، أم رغبة في الخروج عن المألوف، أم هي فرصة لمن لم يجد لنفسه فرصةً في مجال آخر؟ ولم البحث عن الشهرة حتى لو كان عن طريق اللا شيء؟ .

البحث عن الشهرة التي يقول عنها الشاعر والروائي الأميركي جورج سانتايانا «حب الشهرة أعلى درجات التفاهة»، التفاهة التي تعرف بأنها نقصٌ في الأصالة أو الإبداع أو القيمة، وكما يقال تَفِهَ الطعام أي كان بلا طعم أو ذوق، وتَفِهَ الولد فِي تصرفه يعني كان غبِياً وبليداً.

التفاهة صناعةٌ لا تكمن في وسائل التواصل الاجتماعي فحسب وإن كانت أكبر مسبباتها، بل تتعداها إلى مسألة تسطيح الثقافة، وتضييع القيم، وتشتيت الأفكار، واختلاط المفاهيم، وبروز الوجوه وتعدّدها، فلا يعرف من أهل العلم ومن لابسوا ثوبه، ومن أهل الحق ومدّعيه.

من كتب في التفاهة غالباً من الجانب الغربي، فقد صدر حديثاً كتاب للفيلسوف الكندي ألان دونو عنوانه «نظام التفاهة»، يقول فيه: «إن التافهين قد حسموا المعركة، من دون اجتياح الباستيل، ولم يطلقوا رصاصة واحدة... فقد ربح التافهون الحرب، وسيطروا على عالمنا وباتوا يحكمونه».

دونو عزا ذلك إلى سببين، أولهما: تطوّر مفهوم العمل في المجتمعات، من مهنةٍ إلى وظيفةٍ، بمعنى أن شاغلي الوظائف يتعاملون مع وظائفهم على أنها وسيلةٌ للتعيش والبقاء، وليس مهنةً متوارثة كالسابق، ودلّل على ذلك بأن غالبية من يصنعون الأغذية لا يقدرون على شرائها، ومن يبيعون الكتب لا يقرأون سطراً منها؛ أما السبب الثاني فأرجعه إلى عالم السياسة، حيث يشير دونو إلى أن جذور حكم التفاهة وُلد مع عهد مارغريت تاتشر؛ لأنه جاء - بناءً على رأيه- على أساس تحوّلٍ في المفاهيم، فبدلاً من مفهوم السياسة جاء مفهوم الحوكمة، واستبدل مفهوم الإرادة الشعبية بمفهوم المقبولية المجتمعية، والمواطن بمصطلح الشريك، حتى صارت الدولة شركةً خاصةً، والسياسة إدارةً، ومعها أصبحت السياسة سخافةً، فحكم التافهون العالم، وهكذا يراها ألان دونو.

ولم يخرج الروائي التشيكي ميلان كونديرا في روايته «حفلة التفاهة» عن هذا المنظور، وإن كان أكثر سخريةً، فيسخر من كل شيء، ويعتبره تافهاً، فهو يسخر من التاريخ بوصفه عقلاً جمعياً ينتقل من العجائبية إلى الاعتيادية، وربما تنقلب الصورة بالنسبة إلى الشخوص من التعظيم إلى الإجرام عبر الأجيال، وفقاً لما يشير إليه.. «وهكذا يتشكل العقل الجمعي في حفلات التفاهة المستمرة». فكونديرا يرى أن التافه يفرض نفسه على الآخرين عبر اللامبالاة، وأن الإنسان منا إما ينغمس في حفلة التفاهة جماعياً أو يكون تافهاً متفرداً.

قديماً قالوا: «نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل»، وحالياً نقول: «نفسك إن لم تشغلها بالمفيد شغلتك بالتفاهة»، لأنها أصبحت خبزنا اليومي، وعالمنا الجديد الذي يطاردنا، ويصطادنا بكل سهولة. نحن اليوم بحاجةٍ، أكثر مما مضى، إلى إعادة ثقافة القيم وفرزها، لتصنع قيمةً لما يستحق، ونبذ ما لا يستحق في ضوء تكالب الغث والسمين في عالم السرعة والافتراض.

إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"

العدد 5061 - الجمعة 15 يوليو 2016م الموافق 10 شوال 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 11:29 م

      أحسنتي أختي العزيزة الغاليه رملة عبد الحميد! مقال رائع وثمين! ويريح النفس وفيه نفع كثير ونداء بالخير وترك اللا خير! بارك الله فيك! صراحه إرتحت وأنا اقرئ وأفهم هذا الرائع من الكلام الذي تكتبينه! جزاكي الله خير الجزاء!

اقرأ ايضاً