العدد 5102 - الخميس 25 أغسطس 2016م الموافق 22 ذي القعدة 1437هـ

التعامل مع تعددية الأديان والمذاهب... والرؤى الفكرية خارج أطر الأديان والمذاهب (3-3)

صادق جواد سليمان

مفكر عماني

رغم الاختلافات، يبقى السنة والشيعة مذهبين متلاصقين في تجذرهما بسواء في الإسلام: الاختلافات بينهما، كما توافق عليه العالمان الجليلان سليم البشري من الأزهر بالقاهرة وعبدالحسين شرف الدين من الحوزة بالنجف، طفيفة أو ثانوية قياسا إلى المشترك الأظهر والأعم بين المذهبين في أصول العقائد وتطبيق الشعائر التعبدية وأحكام فقه المعاملات. وفي الواقع، في آخر رسالة منه، أعرب شيخ الأزهر، بالتواضع المعهود لدى أمثاله من العلماء المتعمقين في الإسلام، والمتهذبين بتهذيبه، أن البحث المستفيض بالمراسلة مع نظيره النجفي يسّر له فهم مذهب التشيع بشكل أرحب. وقد لخص هذا المعنى في آخر رساله له في العبارة التالية:

«وكنت -قبل أن أتصل بسببك- على لبس فيكم لما كنت أسمعه من إرجاف المرجفين، وإجحاف المجحفين، فلما يسر الله اجتماعنا، أويت منك على علم هُدى ومصباح دُجى، وانصرفت عنك مفلحا منجحا، فما أعظم نعمة الله بك عليّ، وما أحسن عائدتك لديّ، والحمد لله رب العالمين».

أما العالم الشيعي فقد كتب مشيدا بنظيره السني في آخر رسالة اختتم بها الحوار:

«أشهد أنك مطلع لهذا الأمر ومقرن له (مقتدر عليه)، حسرت له عن ساق، وانصلت فيه أمضى من الشهاب. أغرقت في البحث عنه، واستقصيت في التحقيق والتدقيق، تنظر في أعطافه وأثنائه، ومطاويه وأحنائه، تقلبه منقبا عنه ظهرا لبطن، تتعرف دخيلته، وتطلب كنهه وحقيقته، لا تستفزك العواطف القومية، ولا تستخفك الأغراض الشخصية، فلا تصدعُ صفات حلمك، ولا تُستثار قطاة رأيك، مغرقا في البحث بحلم أثبت من رضوى، وصدر أوسع من الدنيا، ممعنا في التحقيق، لا تأخذك في ذلك آصرة، حتى برح الخفاء وصرح الحق عن محضه، وبان الصبح لذي عينين، والحمد لله على هدايته لدينه والتوفيق لما دعا إليه من سبيله، وصلى الله على محمد وآله وسلم».

استتباعا لهذا الحوار، وإن كان بعد تباطؤ مديد، أدخل الفقه الشيعي عام 1959 ضمن مناهج الدراسات الإسلامية بالجامع الأزهر. الأزهر أسسه الفاطميون الشيعة عام 969، لكنه إثر انهيار الحكم الفاطمي عام 1171، غدا المجمعَ الأعظمَ لدراسات المذهب السني، وهو اليوم يقف شامخا كونه أعرقَ جامعة علمية إسلامية في العالم. في المقابل، أهم حوزة لدراسات المذهب الشيعي لاتزال بالنجف الأشرف، وكما الجامع الأزهر، تغطي الحوزة الشيعية عموم الدراسات الفقهية لمختلف المذاهب في الإسلام.

هنا ينشأ تساؤل مشروع: إذا كان المستقر المشترك بين السنة والشيعة يفوق كثيرا المضطرب غير المشترك، وإذا كان المذهبان متجذرين سويا في الإسلام، فلم هذا الخصام بين أتباعهما لدرجة تؤدي أحيانا إلى استعمال العنف؟ في استقرائي، المتخاصمون ليسوا عامة الناس من السنة والشيعة، وإنما هم فئات المتطرفين من الأتباع. في عموم الحال، السنة والشيعة يتبادلون علاقات طبيعية، ويتخالطون اجتماعيا في مختلف مناحي الحياة. المتطرفون وحدهم دأبا يزكون فائرة الخصام ويدفعونها دون اكتراث إلى إحداث صدامات عنفية مؤلمة. الأكثرية الصامتة في المذهبين لطالما عانت من تصرفات متطرفيها دون أن تقوى تماما على كبح جماح هؤلاء بشكل ناجع.

في العموم، ضمن أيما دين ذي نطاق شامل، الاختلافات المذهبية أمر شائع، وفي المعتاد لا هو أمر مضر ولا ضائر. لكن عندما تستثار الاختلافات بشكل مستفز من قبل المتطرفين نراها تولد عصبية متبادلة عصية... ثم إذا سيست الاختلافات نراها تؤدي إلى توريط حتى المعتدلين من الأتباع في سجالات فظة مرارا ما تجر لمواجهات خشنة. في واقع الحال، الاختلافات السنية-الشيعية في الإسلام ليست على غير غرار الاختلافات المذهبية في الأديان الأخرى التي، كما الإسلام، شهدت فترات ممتدة من الوئام تخللتها فترات احتراب. تاريخيا، تعايشت المذاهب المختلفة ضمن أديانها بسلام، إلا حين زجت بينها إغراضات سياسية. الدرس الجدير بالاعتبار هنا: حيثما يُسيّس الدين، أو تُديّن السياسة، لا يسلم أي منهما من تأثير الآخر سلبيا في غالب الحال. أيضا، حيثما تُغلب الطائفية، أيا كان شكلها، على المواطنة، كلاهما يخسر آخر النهار.

إحساسنا بهشاشة عالمنا الإنساني المعاصر يستوجب منا أن نعي صميما عوامل هشاشته: أنه عالم كثيف السكن، مخطور البيئة، متأرجح على شفا دمار شامل لا ينتظر تفجره سوى ضغط أزرار جراء حماقة بشرية قد ترتكب من حالة عصبية فادحة في لحظة خاطفة... أنه عالم معولم، متبادل الاعتماد، غزير التواصل: ما يطرأ على حال أي جزء منه سرعان ما يؤثر في حال جسم العالم كله... انه عالم متعارض المصالح، متصادم الغايات بين أممه الكبرى القليلة، وبين تلك مجتمعةً والأمم الصغرى العديدة التي تحررت حديثا وبدأت تسعى لتحقيق مكانة لائقة لها تحت الشمس.

يستوجب منا أيضا أن نعي أننا نعيش عالما تتفتق فيه المعرفة العلمية وتبتكر التكنولوجيا المنبثقة عنها بوتيرة جد متسارعة. لكن، في المقابل، النضج الإنساني الحضاري متباطئ، بل ومتعثر. تزايد هذا التفاوت يعني أننا معشر البشر نزداد مكنة في التفعيل التكنولوجي، وفي الوقت نفسه نتراجع في الحكمة المبصرة لمكنة التفعيل التكنولوجي من حيث توجيهها نحو إيجاد الأوفق من المعالجات والحلول، ومن ثم الارتقاء بنوعية الحياة للجميع دوما للأمثل.

ثم إلى جانب المشاكل الموضوعية التي نواجهها، نحن أيضا عالم متنوع الأديان والرؤى الفلسفية، ومتعدد المذاهب ضمن كل دين وضمن كل رؤيا فلسفية، الأمر الذي يعقد سعينا ويصعبه للتجرد من الأنانية والعصبيات الطائفية والعرقية، المعيقة جميعها توجهنا نحو إيجاد معالجات وحلول صحيحة عادلة وشاملة... حلول تفي باستحقاقات التنمية الإنسانية وتوطيد السلام والوئام وطنيا، إقليميا وعبر العالم.

إزاء هذا كله لا بد من أن ننمي في أنفسنا استطاعة للتعامل الناجع مع هذا كله، وإلا غمرتنا الفوضى وأهلكنا العثار جراء استمرار التخاصم والاحتراب. لأجل ذلك، لا بد من أن نرتقي تهذبا في المسلك، توسعا في المعرفة، تعمقا في الفكر، وتساميا في الأخلاق... كل ذلك بسعي فردي وجمعي دائب حثيث. تحديدا، لا بد من أن نتجنب التعصب الطائفي، وننبذ التطرف والغلو في جميع الأمور. على الوجه الآخر، لا بد من أن نتبنى المعرفة والمنطق العقلي ردفا كمنهاج قويم للتعامل مع قضايانا ضمن الوطن الواحد، وفي علاقات الوطن مع سائر الأوطان. عكس ما تكون لنا من رؤى مبتورة من منظور طائفي، من المنظور الإنساني نمكن من رؤية القضايا بكافة أبعادها، كما نمكن من فهم رؤى غيرنا وتفهم أسبابها الموضوعية ودوافعها النفسية. بذلك يتوازن نظرنا وتعاملنا مع كافة المشاكل والإشكاليات، ضمن الوطن وخارجه، وينضبط بقسطاس مستقيم.

من الموقع المعرفي المنطقي نستطيع أن نسمو إنسانيا، أن نرود حضاريا، أن نتعايش تعاونيا بوئام وطيد. لا مشاكل عندئذ تستعصي على الحلول. عندئذ نستطيع أن نعالج كل تعارض في المصالح على القاعدة الإسلامية التي يعرفها السنة والشيعة جيدا بسواء، ويعيها العالم اليوم أكثر من أي وقت سبق: لا ضرر ولا ضرار. عندئذ، في أيما نقاش شئنا خوضه، في الدين كان أو في السياسة، أو في معرض التفاوض حول أي نزاع حول أيما أمر ذي اهتمام مشترك، نتجنب الاستفزاز في الخطاب، نلتزم بأدب الحوار، ونحتكم إلى المعرفة والمنطق العقلي: نجادل بالتي هي أحسن، ندفع بالتي هي أحسن، وندعو إلى سبيل الله، الضامن سلامة البشر وصلاحهم، بالحكمة والموعظة الحسنة.

بذلك، نكون كأحسن ما يمكن أن نكون بميزان مكارم الأخلاق التي جاء رسول الإسلام ليتممها في الخبرة الإنسانية. ذلك رشاد أبانه الله لنا في محكم كتابه لكي نتفادى الفتن والمحن، ونعتبر ونتعقل، فلا نرمي بأنفسنا إلى التهلكة جراء عصبيات غبية وحماقات قد ترتكب من حالات انفعال منفلت. بذلك، نحيا حياة طيبة موفورة النعم، مطردة النماء للجميع. عندئذ نعيش إنسانيتنا الحقة، وفي رحابها، لا تنوع الأديان ولا تعدد المذاهب، ولا تعارض الرؤى الفلسفية يضر أو يضير. على العكس، كل ذلك يترافد في حراك ثقافي يثري الخبرة الإنسانية ويفيد.

إقرأ أيضا لـ "صادق جواد سليمان"

العدد 5102 - الخميس 25 أغسطس 2016م الموافق 22 ذي القعدة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 1:33 ص

      التعامل مع تعددية الأديان والمذاهب بابعادهم عن السياسة لأن اختلاف عقائدهم سيتحول إلى خلاف سياسي بين الشعب الواحد وحتى خلاف في العالم الإسلامي وهذا واقعنا الخطر اليوم

    • زائر 1 | 1:32 ص

      التعامل مع تعددية الأديان والمذاهب بابعادهم عن السياسة لأن اختلاف عقائدهم سيتحول إلى خلاف سياسي بين الشعب الواحد وحتى خلاف في العالم الإسلامي وهذا واقعنا الخطر اليوم

اقرأ ايضاً