العدد 5115 - الأربعاء 07 سبتمبر 2016م الموافق 05 ذي الحجة 1437هـ

العربي الأخير... والبحث عن الجمالي من الوجع فينا!

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

المجد لا يشْخص في النوم. الكرامة لا تتم عبْر المراسلة. النجاح لا يتحقَّق بالاستغراق في الوهم. الريادة تُصنع ولا تُكتسب. الرحمة، صفة الله وصنيعه، وهي ابنة العقل وتوأم العاطفة في التصنيف الأرضي. والذلُّ طارئ على الكائن البشري؛ ما لم يكن على ألفة معه! هل يمكن لأي منا أن يكون في حال ألفة مع الذل؟ كثيرون يفعلون ذلك، ويكونون على انسجام تام معه، وبعضهم يبحث عمَّن يشتري ذلَّه على مدار الساعة. أولئك خارج سياق التصنيف البشري، ولا يقربون حتى من تصنيف الأشياء. هم دون الشيء!

ثمة استبداد يُمارسه الإنسان على نفسه قبل أن تقوم مجموعة، جهة، طرف بممارسته عليه. في الكلام على العربي الأخير، كلام على الإنسان الأخير أيضاً. لا يكون أخيراً إلا في اللحظات الفارقة والمفصلية؛ حيث حدود الرماد وما بعد المجهول والعدم. اللحظات التي تجعل منه محط أمل، ومحط تخريب لكل ما نظنُّه ترتيباً، فيما هو أصل الخراب ومعجمه! العربي الأول ذلك الذي أنهك من أتوا بعده، فلا هم طالوا اليسير مما أنجز وحقق وسطَّر من مواقف؛ إذ يعيشون على تاريخ من ذلك الأثر، وضوء مازال قادراً على هتك أستار هذه العتمة، ولمَّا يبرحوا عتمتهم الدهرية، أو هكذا يبدو الأمر!

تُلفت المعاجم نظرنا إلى أن «عربياً» تعني غير أهل البادية، وأنّ أهل البادية يُدعون أعراباً. كما تُلفت نظرنا كتب تتبُّع الأنساب، وتقصِّي الأمم وتاريخها، إلى أن «أقدم مملكة عربية حضرية غير مرتحلة هي مملكة لحيان في القرن الرابع قبل الميلاد وأيضا مملكة كندة في القرن الثاني قبل الميلاد؛ مع الإشارة لكون حضارة اليمن القديم، الزراعية وغير المرتحلة أساساً قد صنِّفت بشكل حضارة سامية مستقلة، أو أُفرد لها تصنيف فرعي خاص هو عرب الجنوب».

ما الذي يدفعنا إلى أن نلوذ بالتاريخ؟ ربما يكون عرب اليوم أكثر تشبُّثاً بالتاريخ الذي لم يصنعوه. أعني التاريخ في جانبه المضيء والمُفرح، فيما هم اليوم في الورطة من البشاعة، والصور النمطية التي ليست بعيداً عن الواقع الذي نشهد، وما يقدِّمه الآخر من نماذج التشويه لصورتهم وحضورهم. بعض العرب اليوم أكثر قدرة على تمثُّل التاريخ في جانبه الدموي والاستبدادي، تلك إشارة تظل تحصيل حاصل في نهاية الأمر!

في التناقض الصارخ بين عرب ابن سينا، وعرب «أبوبكر البغدادي»، عرب الحجَّاج بن يوسف الثقفي، وعرب نجيب محفوظ، وأحمد زويل، عرب محمود درويش، وأحمد مطر، ومظفر النواب، وسميح القاسم، وأمل دنقل، ومريد البرغوثي. لا نتحدث عن عرب ابن هانئ الأندلسي (شاعر أندلسي لُقِّب بمتنبي الغرب. توفي العام 362هـ)، ذلك الذي لم يتورَّع ذات تنطُّع من القول:

ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدار

فاحكُمْ فأنتَ الواحدُ القهّارُ

و كأنّما أنتَ النبيُّ محمّدٌ

وكأنّما أنصاركَ الأنصارُ

إلى آخر قصيدته التي مدح فيها الخليفة المعزلدين الله الفاطمي.

لم يصل العرب بعد إلى مستوى الوعي بأن اللامبالاة فلسفة، بحسب تعبير الشاعر الكوني محمود درويش: «في اللامبالاة فلسفة، إنها صفة من صفات الأمل»، لأنهم - بالراهن من تراكم اليأس - أعداء الأمل، ليس لأنهم لا يريدون أن يتورَّطوا فيه؛ بل لأنهم يُعوِّلون على الفراغ والمُصادفة، والأبطال الهُلاميين في هذا الزمن الهُلامي. لا عودة للأبطال الذين كانوا ملء السمع والبصر؛ إذ لو قُدِّر لهم أن يكونوا أحياء بيننا اليوم فلربما أصابتهم عدوى خيباتنا وانهزامنا وعارنا الفائض. ليست المسألة في عربي أول وعربي أخير، بقدر ما هي أولوية حياة ووجود أمة صنعت المجد، وتُسهم اليوم في إنتاج الفائض من العار، أمة صنعت الوجود الحق والمؤثر، فيما هي اليوم تصنع كل معاني الموت والغياب والهامش، وملاحق من السخرية التي باتت محط اهتمام في الحقل المسرحي، ضمن جانبه التهكُّمي وببذاءة.

في المفارقة التي يضعنا أمامها درويش، عودة إليه للمرة الثانية، لأنه أخبرُ بتلك الخيبات، وهو ابن وطن ضاع وصار في ذمة الأمم «المتحدة» و «المتفرِّقة». وطن ذاب كفصِّ ملح، لم تعد له تلك الأولوية التي تستوجب استعادة مجد ذوى، ومروءة غاضت، وشرف هو موضع مُساءلة أمام كاميرات الدنيا، بكل ذلك الخسف الذي يصنعه الغرباء وذوو القربى!

لم يُفاجئنا درويش في إلياذة بحثه عن الجماليِّ من الوجع فينا. عن القبيح مما نظنُّه آخر نُسخ الإغراء، وهو العالَم الضالع في الغربة والقبح «علَّموك أن تحذر الفرح لأن خيانته قاسية». وهل ثمة فرح في هذا المدى المُسوَّر بالغربان ورائحة الجثث المتفسخة، وحاملات الموت والطائرات، في بحر باسْمنا، ويتولَّى حراسة ملْحه الآخرون؟ كيف يتأتَّى للفرح أن ينهض وسط كل هذه الجثث والدخان والسبْي والحرق على الهواء مباشرة، وتقرير من يدخل الجنة ومن هو من رعايا الجحيم؟!

العربي الخير هو القادر اليوم على تحويل ذلك التاريخ من ومضة، إلى وهج... جعله مقدمة لبداية يمكن منها البدء بإعادة ترتيب العقل والحياة، وقراءة هذا الواقع لا بعين كاميرات مؤسسات الدعاية والإعلان والترفيه، بقدر ما هي قراءة تستشرف المخارج من بوابة هذا الجحيم على أقل تقدير. قراءة تضعنا أمام حقيقة: من نحن اليوم؟!

العربي الأخير وسط كل هذه الفوضى التي أصبحت نظاماً مُعترفاً به، لن يجد له موطئ قدم كي يلقي كلمة نعي أمام حشود الظلام، وغموض الغد الذي لن يأتي، وإن أتى سيكون نسخة مشوَّهة عن المستقبل، وصورة أكثر تشويهاً عن الماضي. الماضي الذي كان بمجد نريده أن يشخص بالنوم. الماضي بكل الكرامة التي اكتنز بها، ونريدها أن تتمَّ بالمراسلة. الماضي الذي كان عنواناً للنجاح، ونريده أن يتحقق بالاستغراق في الوهم. الماضي الذي التحم بالريادة التي صنعها أصحابها، ونريد أن نكتسبها بالتشهِّي والتمنِّي والتوهُّم. وما بعد كل ذلك.

وللمرة الثالثة نعود إلى محمود درويش نفسه، بقدرته على الكشف عن عقدتنا، ونقصاننا الدهري. نقصاننا بفشلنا في درس الحب. الحب لا بمعناه الشهواني القريب من بديهة حاضرة كلما جاء ذكره، بل الحب بمعنى الانتصار على المؤقت في هذه الحياة، انحيازاً إلى المتحرك والدائم والحيوي فيها. و الـ «ليت» التي أطلقها، ستظل فاعلة وكاشفة هذا النقصان الذي ينبئ عن مَوَاطن الوهم المُقيم فينا: «ليتنا استطعنا أن نحب أقل كي لا نتألَّم أكثر».

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 5115 - الأربعاء 07 سبتمبر 2016م الموافق 05 ذي الحجة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 1:27 ص

      أحسنت أستاذ جعفر, لقد صار القوم يتفاخرون بالذل ويعرضونه على وسائل التواصل الاجتماعية ليكسبوا تحنن وتعطف العالم عليهم ويبهروا العالم! ثقافة مريضة وغريبة ودخيلة على مجتمع آل البيت عليهم السلام! ثقافة الذين يقلدهم الناس هي ثقافة رياء وإبهار للعالم ولذلك نراهم يستخدمون ماكنتهم الإعلامية ليضيفوا قداسة مبتدعة لمن يتبعونهم الناس! بينما ثقافة آل البيت عليهم السلام هي ثقافة عز وشموخ وكرامة!

    • زائر 2 | 12:20 ص

      الخطّة نجحت واصبحت العربي يكره عروبته واصلها وفصله لما ألصق بهذه العروبة من صفات ذميمة بعد ان كانت أخلاق العرب محطّ اشادة من النبي الأكرم الذي قال(انما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق)
      لكن للأسف اين مكارم الأخلاق التي جاء النبي ليتمّمها ذهبت مع الريح واصبحنا أمّة متشرذمة تتحارب وتتصارع وتتقاتل وتدمّر بلدانها واحدة تلو الأخرى وبأموالنا ؟

    • زائر 4 زائر 2 | 2:14 ص

      روووعة

      عندما اقرأ مقالاتك اشعر اني في عالم اخر ارقص السامبا من غير شعور...ما شاءالله عليك صحافتنا لا زالت بخير

    • زائر 1 | 12:08 ص

      مواجعنا كثيرة يا استاذ من وين نلاقيها
      كل يوم يطلع واحد يصنّف الناس بكيفه ويخلسهم من دينهم واصولهم فقط لأنه أعطي تصريح للكتابة وهو ليس أهل لها فلا تجد في قلمه الا محاولة الحطّ من قدر الناس وتصنيفهم حسب المزاج

اقرأ ايضاً