العدد 5122 - الأربعاء 14 سبتمبر 2016م الموافق 12 ذي الحجة 1437هـ

الحروب بأجيالها الخمسة و«العبث» في ادِّعاء «ترتيب» الحياة

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

تظل الحروب شكلاً من الأشكال الحادة لنسف الاستقرار البشري، وما يتبع تلك الحروب بالضرورة من انشغال بتفاصيل ما يُحيل الحياة إلى جحيم، ويُوردها موارد الهلاك والضياع والتمزيق وخسارة كل مُنجز قائم.

لا يُمكن للحروب أن تُقيم عالماً أفضل، على رغم كل التبريرات التي يسوقها المنتفعون من تلك الحروب، وعلى رغم التسويغات التي قُدّمت أمس واليوم، من أنها قادرة على تثبيت أمر واقع. ومن قال إن تثبيت الأمر الواقع هو بالضرورة صيغة صحيحة من صيَغ التعامل مع الحياة والبشر؟!

في ما يشبه الصرخة من وجهة نظر فلسفية، تلك التي أطلقها إيمانويل كانت (فيلسوف ألماني (1724 - 1804)، وآخر فلاسفة عصر التنوير. اشتهر بعمله الفارق «نقد العقل المجرد»، وملخصها «لا يجب خوض الحرب تحت أي مسمى وذريعة بما فيها الحرب العادلة فطالما خاض الإنسان الحرب لا يبقى عدل».

بذلك العمى المُطلق الذي تدور فيه الحروب، حيث لا تمييز بين بشر وحجر، وحيث لا تمييز بين ما يجب الإبقاء عليه وما يجب محوه، وبين ما يجب تحكيم الضمير والأخلاق أمامه، وبين ما لا يستحق كل ذلك؛ تكون النتيجة: إعادة الأرض والحياة إلى سيرتها الأولى، برائحة العصف والنار والموت والجثث والخراب، ونسف الذاكرة.

بتتبُّع التسلسل الذي بدأت به الحروب، لا باحث سيقف على معنى مقنع يسوِّغ مثل تلك الحروب لأن الحروب في نهاية المطاف بحسب تعبير الشاعر والكاتب والفيلسوف الفرنسي بول فاليري (30 أكتوبر/ تشرين الأول 1871 - 20 يوليو/ تموز 1945) «مجزرة بين بشر لا يعرفون بعضهم بعضاً من أجل تحقيق أرباح بشر يعرفون بعضهم ولكن لا مجزرة بينهم»،

لنقف على محطات من الحروب التي أعادت البشرية والأرض إلى «العبث» في ادِّعاء «ترتيب» الحياة.

بداية علينا أن نعترف أن تاريخنا في الحروب ليس الأقل، بدءاً من «داحس والغبراء» فترة جاهلية العرب، ووقعت في منطقة نجد وتحديداً في قرية دخنه ضمن إقليم تابع لمنطقة القصيم حالياً، بسبب فرَسين، بدأت بحرب مكر حين أوعز حمل بن بدر من ذبيان لنفر من أتباعه أن يختبئوا في شعاب مُوجهاً إياهم: «إذا وجدتم داحس متقدماً على الغبراء في السباق فردوا وجهه»، ومن سباق البهائم تلك اشتعلت حرب بين البشر لأعوام، لم تنتهِ إلى اليوم!

ولم تكُ حرب البسوس التي نشبت بين قبيلة تغلب بن وائل ضد بني شيبان واستمرت أربعين عاماً، سوى واحدة من الحروب التي تكشف عن مزاج أصيل في النفسية العربية وقتها، وإلى اليوم/ تلك التي تحركها نزعات واحتقان وتوتُّر، وفي النهاية: جاهلية لم تتغير ملامحها مع تغيُّر الأطناب إلى الأبراج، والخلاء إلى المدن العملاقة المغلقة!

وفي العالم المتحضر بعد حروب الجاهلية تلك، العالم الذي لا تحضُّر فيه البتَّة، بدأت حروبه في همجيته الأولى التي تحققت بتطبيقات على الأرض؛ إذ يكفي أن نقف على حرب المئة عام بين فرنسا وإنجلترا (دامت 116 عاماً واقعاً، من 1337 إلى 1453)، تلك التي حصدت مئات آلاف البشر وقتها، مروراً بالحرب العالمية الأولى التي أنفقت فيها الولايات المتحدة الأميركية وحدها نحو 334 مليار دولار، والحرب العالمية الثانية التي أنفقت فيها أميركا وحدها نحو 4.104 تريليونات دولار؛ علاوة على تقديرات ضحايا الحرب من العسكريين والمدنيين - عالمياً - الذين تجاوزوا 62 مليون إنسان، بما يعادل 2 في المئة من سكَّان العالم وقتها.

في المحصِّلة يمكن الوقوف على تصنيفات أربعة أجيال من الحروب، بعيداً عن حروب «داحس والغبراء»، و «البسوس»، و «حرب الفجَّار» أيضاً، وغيرها من حروب مجتمعات التخلف وقتها، من بينها حرب الجيل الأول، تلك التي تتم بين جيوش نظامية على أرض، ضمن معارك محددة بين جيشين في مواجهة مباشرة، وحرب الجيل الثاني، تلك التي عرَّفها الأميركي ويليام ليند بالحرب الشبيهة بالحروب التقليدية ولكن باستخدام النيران والدبابات والطائرات بين عصابات وأطراف متنازعة، لتأتي بعدها حروب الجيل الثالث، تلك التي تتحدد في الحروب الوقائية أو الاستباقية: (Preventive War)، الحرب على العراق مثالاً، وكذبة أسلحة الدمار الشامل التي أسهمت في تدمير واحد من أهم بلاد الشرق بشكل شبه كامل. الحرب الوقائية نفسها قال عنها الأميركي ليند بأنها «طُوِّرت من قبل الألمان في الحرب العالمية الثانية وسميت بحرب المناورات وتميزت بالمرونة والسرعة في الحركة واستخدم فيها عنصر المفاجأة وأيضاً الحرب وراء خطوط العدو».

لنصل اليوم إلى الجيل الرابع من الحروب، وهي خلاصة العبث الذي أحدثته الأجيال الثلاثة منها، تلك التي تتحدد في الحرب على المنظمات الإرهابية (بحسب المفهوم الأميركي) «حيث يكون طرفا الحرب: جيش نظامي لدولة مقابل عدو أو خلايا خفية».

ويبدو أن الجيل الأول الحقيقي من الحروب من صنيعة العرب، ذلك الذي تحددت فيها الحرب من خلال فرَسَيْن وناقة، مصير أمة لأكثر من أربعين عاماً! وهو ما لم يحظَ باهتمام باحثين كبار من أمثال ويليام ليند؛ ما يظل عاراً على التصنيف والرصد في الوقت نفسه.

وثمة جيل خامس سيحضر بقوة، يتحدد في شن حروب مُبرِّرها إمكان نهوض قوة وضعت في خانة الضعف، مع تسليط إمكانات رصدها، والحضور المباشر في بعض مناطقها، في تجاوز للحروب الاستباقية بمراحل، بحيث لا تحتاج تلك القوة إلى أن تقف على مُبرِّر ولو كان وهمياً لشن تلك الحرب مادامت ستؤدي إلى تحقيق أهداف تكون الدولة المُستهدفة مدخلاً لدول أهم وأكثر جدوى في تحقيق المنافع من خلالها.

الحروب العربية تظل أهلية من قديم زمنها إلى اليوم، والعرب أنفسهم اهتموا برصد تلك الحروب، من باب الشرف وأخذ الثأر والمروءة! ما نتج من بعد تلك الحروب في أزمنة التخلف لم تهتم به وسيلة إعلامية بحيث يكون مثل ذلك الاهتمام مدخلاً لوضع حد لتلك الحروب، بل على العكس من مصلحة دول أن تظل مصانع أسلحة هلاك العالم منشغلة على مدار الساعة، ولا أحد سيهتم إذا نقص العالم مليوناً أو ملايين ضمن نطاق جغرافية تحتفي بالموت أكثر من احتفائها بالحياة.

لا حرب من الأجيال تلك يمكن لها أن تدَّعي أنها حريصة على الحياة، بقدر وثوقها من أنها تُكمل مُخطط حرصها على حياة ثلة مصابة بسعار الحرب، ليدفع ضحاياها بشر لا علاقة لهم بكل الهراء السابق.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 5122 - الأربعاء 14 سبتمبر 2016م الموافق 12 ذي الحجة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 12:40 ص

      حين يتسلّط على بعض الأمم من يحرق أموالها وأموال اجيالها في حروب عبثية وكأن البلد اصبح ألعوبة في ايدي اطفال يبنون بيوتا من رمال ثم يعيدوا عليها فيهدمونها ، لكن الفرق انما يبنيه الأطفال ليس ذا قيمة تذكر بينما اللعب بمقدرات الدول يدخل الدول في ديون لها اوّل وليس لها آخر وحتى بعد زوال صدّام لا زال العراق يدفع ضريبة سياسته الخرقاء وما ذنب الشعوب لتدفع فاتورة تلاعب غيرها ؟

اقرأ ايضاً