العدد 7 - الخميس 12 سبتمبر 2002م الموافق 05 رجب 1423هـ

صناعة النرجيلة «الشيشة»

النرجيلة، أو «الشيشة» بلغة أهل مصر، واحدة من أدوات التسلية الأكثر شيوعا في عالمنا العربي، فهي كالخبز اليومي، أو كشقيقتها السيجارة، حاضرة في حياتنا، تفرض على مجالسنا قرقرتها وخَدَرها وجوَّها الحالم.

نرجيلة ينسب إليها الناس فعل التعويذة في طرد الهموم، حتى قالوا: «دخِّن عليها تنجلِ»، وحتى غفلوا، أو تغافلوا، عن ضرر تلحقه بالصحة، فمن ادرك انها ضارة قال: «هي أهون الشَّرين»، مقارنة بالسيجارة.

حاضرة هي في الصالونات والشرفات والمقاهي والمطاعم، وحتى الأرصفة. ومن تعلَّق بها - إذ هي أيضا وسيلة إدمان - حملها في سيارته ودخَّن تنباكها في لحظات انتظار!.

ومثل شقيقتها الصغرى، لفافة التبغ، منع الصغار من تدخينها، فإن فعلوا كان ذلك فعلا مستهجنا منهم. وعلى العموم هي وقف على البالغين، يتساوى فيهم الرجال والنساء، وربما كانت كالشاربَين والطربوش، في زمان مضى، من علامات البلوغ.

هي آلة وافدة، بلا جدال، وتاريخ وجودها في بلادنا العربية لا يتعدى بضع مئات من السنين، وإن كانت لبلادنا مساهمة مؤكدة في تطويرها وفي منحها هذا الشكل المتميز. والراجح أنها تطورت من «الجبق»، وهي آلة يُدَخّن بها التبغ والتنباك، ويفهم من المصادر ومن مشهد الجبق الباقي عند بعض هواة جمع «الأنتيكا»، أن هذا الجبق وسط بين الغليون والنرجيلة.

ويمكن القول، من دون تحرج، إن ظهور النرجيلة في وطننا العربي، وقبله في تركيا وإيران، كان بعد التعرف إلى تبغ الهنود الحمر في القارة الأميركية، وكان المشاركون في رحلة كريستوفر كولومبوس الاستكشافية الى هناك قد شاهدوا الهنود الحمر يدخنونه فنقلوه معهم في رحلة العودة إلى أوروبا. وثمة من يرى أن أول ظهور التبغ في مصر كان سنة 1012هـ «1603م». والظاهر أن التبغ والتنباك أثارا جدالا بين المسلمين، إذ أباحهما بعضهم وحرمهما آخرون. ويذكر الجبرتي في حوادث العام 1156هـ «1743م»، من كتابه «تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار»، أن الوالي العثماني أمر بمنع التدخين وعاقب المدخنين «انظر الجزء الثاني، طبعة دار الفارس في بيروت».

وتكاد المصادر القليلة التي ذكرت النرجيلة أن تجمع على مصدر واحد جاءت منه الى بلادنا العربية، هو تركيا. والذين وصفوا مجالسها قدّموا إلينا صورة لا تختلف كثيرا عن مجالسها اليوم، يتحدث هنري غيز، قنصل فرنسا في لبنان، في كتابه «بيروت ولبنان منذ قرن ونصف القرن»، عن مباحثات أجراها ابراهيم باشا في لبنان في جو من الرتابة، حيث «أن تدخين الغليون يلعب دورا مهما في الاجتماعات الشرقية، فإذا تعب المدخن من مجّ الدخان ينفخ في غليونه، أو تقطع غرغرة النرجيلة، بين آونة وأخرى، سكينة تلك السهرات المملة «ج2، ص128».

وأكثر ما تعقد مجالس التدخين بالنرجيلة في المقاهي. وقد ذكر لنا أحد المدخنين في مقهى دبيبو في محلة الروشة من بيروت إن مجالس النرجيلة أحيانا ما تشهد عقد صفقات تجارية ناجحة. والملاحظ أن الكثير من اللوحات التي رسمها مرافقو المستشرقين يصور لنا مجالس النرجيلة في المقاهي.

وينقل جميل ريدان عن الرحالة عبدالرحمن سامي الذي قام برحلته في القرن التاسع عشر، قوله في كتابه «القول الحق في بيروت ودمشق»، انه شاهد في دمشق أكثر من مئة وعشرين مقهى، و«فيها يكثر عشاق الأركيلة» «وهي لغة اللبنانيين في النرجيلة» الذين يرونا متعة جميلة لا غنى عنها» انظر: الحياة 19/6/1991.

وأما تسمية النرجيلة فعلى صلةٍ بمرحلة من مراحل تطورها؛ فهي - بعد تفرعها من الجبق - كانت جوزة هند مفرغة، «والنارجيل» اسم لهذه الجوزة بالايرانية... في لسان العرب لابن منظور: «النارجيل جوز الهند، واحدته نارجيلة» «اللسان: نرجل». وفي إضافة موسوعية على إحدى طبعات «الصحاح» للجوهري، أضافها نديم وأسامة مرعشلي، نقلا عن الوسيط: «النارجيلة - الشيشة»: «أداة يدخن بها التنباك، وكانت قاعدتها في الأصل من جوز الهند، ثم اتخذت من الزجاج أيضا» «الصحاح: نارجيل».

وأما تسميتها «الشيشة» فلأنها صارت من زجاج، والزجاج في الايرانية أيضا معناه «الشيشة» كما تقول بعض المصادر. ومن اسمائها الشائعة: «الجوزة« في مصر و«الجراك» في المملكة العربية السعودية، إلخ...

و«الجراك» هذه تطلق أيضا على التنباك الذي يعرف كذلك بالتنباك العجمي، والتنباك اللاذقاتي، وتنباك النكهة، و«المعسل» وهذا الأخير اسم أطلقه أهل مصر على التنباك الممزوج بالعسل الأسود.

وثمة مساهمة شعبية في «التاريخ» للنرجيلة؛ فبعض العامة يرى أن أميرا تركيا اسمه طهماز هو الذي اخترعها. ونسج خيال العموم باعثا طريفا على اختراعها، فقالوا إنَّ طهمازا التركي هذا كان يعاني من «كركرة» مسموعة في معدته، وأدار أن يطمس هذه الكركرة بكركرة مصطنعة، فكانت النرجيلة وسيلته الى ذلك. ونحن نحسب أن بين هذه القصة وقول عموم اللبنانيين «طهمز ويطهمز» صلة قرابة؛ فالمطهمز هو الذي يطمس أمرا بأمر آخر.

ومع أن العموم يرون أن الصورة المرسومة على كثير من النراجيل الزجاجية هي صورة طهماز المذكور، فإن بعض المصادر تقول إنها صورة مظفر الدين شاه نحو قبل مئة وخمسين سنة.

على أية حال، بَعُدَ ما بيننا وبين نشأة النرجيلة في وطننا العربي. ولذلك فنحن نقنع بتاريخ قريب، وحقيقة أن محترفي صنعها منتشرون، وأسواق بيعها، منتشرة في كبريات المدن العربية؛ فهي في حارة اليمني بين باب شريف وسوق العلوي في مدينة جدة، وهي في سوق الحميدية في دمشق، وخان الخليلي في القاهرة، الخ... وهي اليوم معروفة حتى على الأرصفة وعربات الباعة المتجولين.

في بيروت عدة محترفين لصنع النرجيلة، بينهم المحترف مصطفى محمد شهاب الذي - كما قال لنا - ورث الحرفة عن والده؛ يقول: «كنت في الرابعة عشرة عندما عملت في هذه الصنعة مع المرحوم والدي... وهو ورثها عن جدي... جدي في الأصل كان يصنع نربيش الأركيلة، ثم طوّر صنعته فصار يصنع النرجيلة كاملة، باستثناء زجاجتها، وها نحن اليوم نصدر نراجيلنا الى الأسواق العربية كافة».

ولأن النرجيلة تقتنى أحيانا تحفة في صالونات غير المدخنين، ينوّع مصطفى شهاب في أشكال النراجيل ومادتها، ولذلك «يأتينا من يسأل عن الموديل لا عن مواصفات عملية».

ويتحدث شهاب مطولا عن مراحل تطور النرجيلة من لندن كونها جوزة هند، مرورا بصنعها من التنك «الصفيح» وصولا الى صنعها من زجاج «وأحيانا من كريستال، بناء على طلب الهواة»، ويقول إن الحرفة تطورت فلم يعد صنع النرجيلة يدويا كليا، «فقد استعنَّا بالآلة، نكبس بها النحاس... ولكننا مازلنا نستورد النربيتش من الشام، مع أننا نصنعه أيضا، ويصنعه آخرون في لبنان... كذلك الزجاج نستورده من تركيا وسورية، وطرابلس في لبنان.

ويفصّل مصطفى شهاب أقسام النرجيلة؛ فهي: «زجاجة وقلب ورأس وصينية ونربيش وتنباك».

فأين الفن في صناعة النرجيلة؟

- الفن في النقش... أدخلنا عليها حفرا يسمونه «دق الألماز».

لذلك يقتنيها غير المدخنين؟

- كثيرون يشترونها باعتبارها تحفة... يجعلونها جزءا من ديكور البيت.

السائحون الأجانب يشترونها، وبعضهم يدخن بها كالعرب... اليوم تنزل الى الأسواق نرجيلة داخل حقيبة كالسامسونايت، تعلق بالكتف، ويسهل نقلها بالسيارة في الرحلات.

ثمة من يرى أن النرجيلة مضرة بالصحة أيضا.

- في رأيي: النرجيلة أفضل من السيجارة... أكثر النيكوتين يعلق في الماء.

تصنعون النرجيلة، فهل تدخنون بها؟

- أنا أدخن... المرحوم والدي لم يكن يدخن أبدا، وكان الجيران يستغربون.

النرجيلة، باعتبارات حرفية فنية، تحفة تقتنى في الصالونات. ولكنها في الأصل أداة للتسلية والتدخين وتسرية الهموم، كما يرى البعض. غير أن للأطباء رأيا آخر، حتى وهم يقبلون على النارجيلة كبقية خلق الله... النرجيلة مضرة كالسيجارة!

عشاق النرجيلة يصمون آذانهم عن رأي العلم، ويحملهم الشغف لرؤية الجانب الآخر من المسألة، وربما تلخصت رؤيتهم فيما كتبه الأديب جمال الدين الغيطاني في مجلة «العربي» الكويتية؛ قال إنها «صديق يساعد على التركيز واقتناص شوارد الفكر من هنا وهناك من دون أن يفرض مطالب خاصة، أو إزعاجات، أو يمر بمراحل التقلب من حب وكره وبغض، إذا ما تضاعفت الوحدة تبعث قرقرة الماء ونسة».

ذلك رأي الغيطاني... أو قل: ذلك رأي جميع الذين يرون جانبا من المسألة ويغضون النظر عن الجانب الآخر؛ فاسألوا الأطباء عن هذا الجانب الآخر

العدد 7 - الخميس 12 سبتمبر 2002م الموافق 05 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً