العدد 5143 - الأربعاء 05 أكتوبر 2016م الموافق 04 محرم 1438هـ

مُنظِّرو الوهْم وإفساد الحقيقة والحياة

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

تُعرِّف القواميس الطبية في الحقل النفسي الوهْم بأنه تشوُّه يحدث للحواس، وهو بذلك يشوِّه الحقيقة، ويذهب الإنسان عن طريقه إلى تخيُّل مواقف وأحداث غير موجودة في الواقع؛ ما يسبب له مشاكل ومصادمات مع محيطه ومن يتفاعل معهم من أشخاص.

كل ما سبق يمكن استيعابه وتحمُّله كلما كان ضمن دائرة ضيقة، تظل هناك فرصة للسيطرة على الحالة؛ لكنَّ المعضلة تتحدَّد في أن تلك الدرجة من الوهْم تجد لها من يعمل على تعميمها وانتشارها، بحيث تُصبح مع مرور الوقت سُلوكاً ثابتاً، ولها بيئات حاضنة ومُحفِّزة.

الوهْم الذي يتحوَّل مع مرور الوقت والممارسة إلى أوْهام تُشوِّه الحقيقة في أمَّة مُهدَّدة في ما تبقى لها من حواس، بما أتيح لها من فرص وفَّرت لها التحصُّن مما ينتج عن ذلك الوهْم من عطب، لا يترك لتلك الأمة قدرة على الالتفات إلى واقعها والقفز به، ولا يمكن لها في الوقت نفسه أن تعود إلى التاريخ كي تستخلص منه بعض وقفاتِ نظر واستجلاء؛ لأن العودة إلى التاريخ تحتاج إلى حواس حاضرة أيضاً لاستخلاص ذلك النظر والمعنى، وقدرة على القفْز وسط عبث، وانتحال، وادِّعاء، ووضْعٍ لحركته والشخوص، وبالتالي لا يُمكن لها أن تكون مُرشَّحة لأخذ دورها في الصفوف الأخيرة من طابور المستقبل، ولا نقول: إلى المستقبل! لأن المستقبل لا يَقُوم على الوهْم كي ينتسب إليه الواهمون والمُتوهِّمون، والذين يُعطِّلون حواسَّهم بشكل مُتعمَّد بفعل مؤثرات ومُغريات وعطايا ووعود. المستقبل يعتمد في تركيبته وبنْيَته على بشر يُعْملون حواسهم بكامل طاقتها كي يجتازوا الامتحان الصعب الذي يجعلهم سفراء لخلاصة العقل والضمير في الجنس البشري.

الوهْم نفسه متورِّط في درجات، بعضها طارئ يزول بزوال الأسباب، وبعضها مُقيم وجاثم، بحيث يُصبح سمة وعلامة فارقة من علامات شخصية صاحبه، وذلك ينسحب على فئات ومجموعات وتكتُّلات وتحزُّبات لا تملك سلاح مواجهةِ من تراهم أعداءها سوى تصيير كل سكَنَاتهم إلى مُؤامرة واستهداف وتخطيط وعَمَالة وارتباط بأجندات خارجية، وطابور خامس؛ في نسف ومحْو وشطب وسدٍّ لأبواب تَحُول دون الوصول إلى جهات لها من الحياد ما يُمكن الاطمئنان له لردْع مثل تلك الصفاقة في التمييز والتوصيف النابع من الوهْم والفرز.

تلك الدرجات من الوهْم، وهو بالمناسبة وهْم مصطنع في الأردأ من درجاته، تجد مع مرور الوقت مساحات ومنابر ومنصَّات وقواعد تتيح لها التنظير. التنظير للوهم ولا شيء غيره، وتخيَّلوا أفراداً، أمة، جماعة، فئة، تظل مُرتهنة لقراءة وإصغاء لمثل ذلك «التنظير»: الهراء على مدار الساعة، وعبر تلك المنابر والمنصَّات والقواعد، كيف سيتسنَّى لها التمييز بين الخبيث والطيب؟ وبين الواقع والوهْم! وبين الاسترزاق والوفاء بواجبات في ظل غياب الحواس حتى في درجاتها الدنيا!

وهل الأمة ناقصة وهْم أساساً كي تُبْتَلَى بأشباه رجال وشبيهات نساء، ممن تشوَّهت حواسهم/ حواسهن، ولن يهنأ لهم/ لهن بال ما لم يشوِّهوا/ يشوِّهن حواس الأمة بتلك «التنظيرات» التي هي أشبه بغازات يتخلَّص منها أحدهم/ إحداهن في مكان عام، بحثاً عن راحته/ راحتها، وإن أدَّى ذلك إلى تهوُّع الحضور!

جزء كبير من مصائب وكوارث هذا الشرق، تشكَّلت في صور تحريض، ظهرت في شكل «تنظير»، بدءاً بالحروب، مروراً بالتجاوزات، وليس انتهاء بدرجات قصوى من الممارسات التي ترقى إلى جرائم الحرب، من خلال منابر ومنصَّات وقواعد شُرِّعت أبوابها كي يُمارس أصحاب العُقد عُقَدهم، وأصحاب العاهات التنفيس عن عاهاتهم، والذين يعانون من أكثر من عُقدة نقص، وهْم سدِّ نقصهم!

يتحول الوجود؛ وجود جماعات، فئات بذلك الحضور الذي يُتاح لمنظِّري الوهْم، إلى وهْم هو الآخر، لأنه يُسيِّر حياة، وضمن بيئة يتحكَّم في مفاصلها العبث والمزاج والأهواء والانتماءات الضيِّقة، والمحسوبيات، وأردأ درجات رسْم الخرائط في تيه يتجلَّى من قِبَل من لا حواسَّ له أساساً!

بيئةٌ بتلك المواصفات، لا تريد بشراً حالمين بوعي ومبادرات وحراك. تريد أشباه بشر واهمين أو متوهِّمين، يكمن اللبُّ من مصالحهم في تشويه الحقيقة، والتلاعب بالواقع، والنوم على المعضلات والمآزق، ما دامت ستتكفَّل بالعلَف وضمان المرعى! وذلك مُؤدَّى من مُؤدَّيات الوهْم وما يمكن أن يتمخَّض عنه.

يبدو أن الطب النفسي تغافل عن الانشغال عميقاً بحالات أشباه بشر لا همَّ حقيقياً يُعانونه سوى فشلهم في الحياة بشكل سَويٍّ؛ لذا لا يملكون سوى إفساد الحياة من حولهم؛ لأنهم غير صالحين للإقامة فيها بضمير وحواس.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 5143 - الأربعاء 05 أكتوبر 2016م الموافق 04 محرم 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 12:40 ص

      بارك الله فيك أستاذ جعفر. وهذا الوهم هو ما حدا بالناس الى اتباع أصحاب الثورات وما وردوا الا على سراب.

    • زائر 1 | 10:15 م

      أحسنت رخي العزيز استاذ جعفر ونعرف من هم هؤلاء المرضى النفسيين الذين يصمون كل من يحتلف معهم بانه منحرف وعميل وطابور خامس ومتآمر! إياكي أعني وإسمعي يا جارة! هؤلاء يحسبون كل صيحة عليهم ويحسبون أن الله جل جلاله إختارهم كي يكونوا وكلاء عنه!

اقرأ ايضاً