العدد 16 - السبت 21 سبتمبر 2002م الموافق 14 رجب 1423هـ

لبغداد وجهان... وجه يعكس العمران وآخر يهدر الإنسان

على امتداد شارع المطار تستوقفك الكثير من المشاهدات التي تعكس تناقضات كثيرة يعيشها العراق بعد سنوات الحصار العصيبة... الجسور المعلقة، الخضرة التي تسيج الطرقات، الدكاكين المتراصة التي يقتات منها المواطن البسيط، كلها مشاهد لا تبرح الذاكرة مررنا بها ونحن في الناقلة التي أقلتنا من المطار إلى مستشفى صدام للأطفال. وما أن تطأ عتبة المستشفى حتى تنقلب الموازين ويسجل العقل تناقضات تقع على الطرف الآخر تماما، إعجابك بالشوارع المنظمة الهادئة والأشجار العالية التي تبعث فيك النشوى.

أوجه العمارة الناشئة التي تهمس لك: «إن العراق لايزال بخير لا يهزه ألف حصار»، كلها تتوقف تماما ليبدأ قلبك يستعجل الدقات السريعة. الأطفال، ما ذنبهم؟ لم يموت العشرات منهم من دون أدنى اكتراث؟ وسط حشود الأسئلة التي تحاصرك وتطعنك وأنت ترى الأطفال في مستشفى صدام، لا تملك أن تقاوم حبس الدموع أكثر.

العراقيات اللواتي لا يزلن متمسكات بالعباءة العراقية التقليدية، تحمل كل واحدة منهن طفلها وهي لا تتجاوز في الغالب العشرين عاما... تجول في المستشفى تبحث لطفلها عن دواء يمنحه يوما آخر ليعيش في أحضانها. الحصار في مستشفى صدام يبدأ بلبس قناع جديد، تتناسى على الفور انتصارك برفع الحصار كونك ضمن البحرينيين الأوائل الذين أقدموا على خطوة من هذا النوع، تتناثر نظراتك الحائرة في أرجاء المستشفى المؤسس في العام 1968 تبحث عن زاوية استقرار تهدئ من طبول القلب. وتسأل:كيف تملك الأم العراقية كل هذا الجلد؟ من أين تزود قلبها بوقود الصبر والتجرع؟ كيف تستطيع أن تودع في الأرض كل يوم طفلا جديدا؟ مدير مستشفى صدام الطبيب لؤي لطيف استقبل الوفد بتصريحات مؤلمة، قال: «إن أطفال العراق يقعون تحت وطأة الحصار والمعاناة، يموت الألوف المؤلفة منهم جراء شح الدواء واللقاحات ونقص التقنيات».

ويؤكد لؤي: «إن الحصار لا ينطوي على أبعاد اقتصادية بغية تدمير البنية التحتية وحسب، بل هو حصار علمي أيضا عزل الطبيب العراقي عن تطورات هائلة استجدت على الساحة طوال السنوات العشر الأخيرة». تطغى على نبرته رعشة واضحة: «أبعدنا الحصار عن التقنيات الحديثة، وعن كل التطورات التي قلبت عالم الطب، لانزال نستخدم الأجهزة القديمة ذاتها التي عفا عليها الدهر ولم تعد صالحة للاستخدام (...) نقف مكتوفي الأيدي أمام شح الدواء، لا نستطيع إنقاذ المرضى الذين يحتاجون إلى زرع النخاع ولا الذين يعانون من أورام وسرطانات نادرة لم تكن العراق تعرفها قبل الحصار».

ويزيد: «الأدوية تدخل العراق بتحفظ شديد، المعالجات الإشعاعية ممنوعة، أجهزة العلاج بالليزر ممنوعة، كل الكتب والدوريات العلمية ممنوعة (...) ونحن نقف عاجزين أمام كل هذا الحصار العلمي إن صح التعبير». وبسؤال عن أكثر الأوبئة انتشارا، يجيب لؤي: «ان مستوى الصحة البيئية انخفض إلى أدنى المستويات، انتشرت الأوبئة الانتقالية لتفتك بالأطفال والكبار على حد سواء، نوعية الغذاء خفضت المناعة عند الأطفال مما أدى إلى ظهور أمراض لم نعهدها بهذا التضخم مثل «التدرن» والأورام السرطانية واللوكيميا، وهذا الأخير ازداد ثمانية أضعاف بعد الحصار وصار يفتك بأعمار الأطفال من يوم وحتى 5 سنوات». وبحسب لؤي فان الأورام السرطانية قبل الحصار كانت تقتل من 10إلى 15حالة سنويا، أما الآن فهي تقتل 90 حالة سنويا وخصوصا في المناطق الوسطى والجنوبية، نتيجة قصفها بقنابل اليورانيوم و تغلغل النفايات النووية إلى القاع مما خلف أضرارا نعاني منها حتى الساعة. وعن سؤال أخر عن تطعيم حديثي الولادة، قال: «العراق كان البلد الأول في تصنيع اللقاحات البشرية والبيطرية على مستوى الشرق الوسط، أما اليوم فنعتمد على ما تجود به برامج اليونيسيف والأمم المتحدة وباقي الدول المتبرعة، وهي بطبيعة الحال لا تفي بالغرض، وخصوصا أن المصانع العراقية المنتجة للقاح دمرت من أساسها». في زاوية أخرى من غرفة العناية القصوى المخصصة للأطفال الخدج ترتمي سيدة تمكن من ملامحها الهم على رغم صغر سنها، تتقاسم السرير ذاته مع سيدة أخرى كانت قد دفنت حديثا ولدها ذا الخمس سنوات وهي الآن تحتضن طفلها الثاني الذي يحتضر هو الآخر جراء إصابته بفيروس نادر لا علاج له. البقع الحمراء تغطي ذاك الجسد الصغير، الأطباء اعتبروه حالة نادرة لا تحدث إلا ضمن ألف حالة في العالم. الطبيب المباشر للطفل خضر الجنازة أوضح: «أن هذا المرض يصيب الحامل نتيجة انتقال جرثومة مصدرها القطط، وهي تقود حتميا إلى تشوهات خلقية للجنين (...) النسبة الكبرى تموت قبل الولادة، أو ساعة الولادة، ما عدا هذا الطفل الذي بقي يصارع وتكلف جرعة الدواء الواحدة أسرته مليون دينار عراقي يشترونها من المستشفيات الخاصة».

أمه الشاحبة التي أنحلها بقاؤها جالسة مدة 5 أيام من دون أن تمنح جسدها شيئا من الراحة قالت بلهجتها القروية: «والله العظيم ما عدنا نعالجه، بعنا الأثاث وكل الأغراض، صرنا ما عدنا نأكل... بس انريده يشفى».

الأمهات في تلك الغرفة الخانقة المحاطة بالهموم، تنطق نظراتهن وملامحهن التي حفرت في تقسيماتها عناء الدهر بالنيابة عنهن. ويبقى السؤال: هل ساهمنا في ظلم العراق؟ هل شاركنا في تدميره؟ هل نتحمل تبعات تداعياته؟ هل صغنا معا سيناريو الطريقة التي يهلك فيها عشرات الأطفال يوميا؟ على رغم كل هجمات الألم التي تتعرض لها جراء الوضع اللاإنساني الذي يعيشه شعب العراق، لا يستطيع أي منا إنكار أن العراق لايزال عظيما كما كان، لايزال العراقي عقلية لا تتكرر، عزيز النفس كريم الروح، لا يكسره الحصار، ولا تهزم قوته المعهودة أية مقاطعات

العدد 16 - السبت 21 سبتمبر 2002م الموافق 14 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً