العدد 5213 - الأربعاء 14 ديسمبر 2016م الموافق 14 ربيع الاول 1438هـ

جنازة علي

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

قبل أيام فَقَدَت قريتي الرائعة شاباً صغيراً على درجة عالية من الأخلاق. توقف قلب عليّ فجأة ليغيب عن الوعي يوماً أو بعض يوم، قبل أن يختاره الله ليموت سعيداً فقيداً بعد أن عاش مودوداً حميداً. عندما أُذِيْعَ خبر رحيله ظُهْراً، تقاطَرَ الناس من كل حَدبٍ وصَوب كحَدَبِ الريح والرَّمل. تجشَّموا المجيء والمكوث حتى بعد صلاة العشاءين، حين وُورِي عليٌ في لَحْدِه والحزن يُجلِّلُ المكان.

عندما وقف المشيِّعون متقابلين في سماطين ممتدَّيْن ليظفر كل واحد منهم بحمل النعش، كان مَنْ حَظَيَ بتمريرة في بداية التشييع لم يُدرِك الحظوة الثانية إلاَّ عند القبر؛ نظراً لمهابة المسير وطوله وكثرة مَنْ حضروه. نالَ عليٌّ هذا الحب الاجتماعي والأهلي، على رغم أنه لم يكن ملكاً ولا أميراً ولا متسيِّداً ولا متأمراً ولا تاجراً ولا وجيهاً، ولم تكن أسرته كذلك، لكن الناس جاءته لأمر آخر.

كان هذا الشاب يمتاز بخصال يتمنى كثيرون منا أن يكونوا مثله حاملين لها. كان طيباً حَسَنَ الخلق كرَّس حياته في العمل الاجتماعي (وبصمت كامل لا تباهي فيه ولا حبّ ظهور) في المؤسسات الأهلية على رغم اعتلال صحته مذ كان صغيراً حين فُتِحَ قلبه الغَضِيض بسبب مشاكل صحية لازمته، فقدَّر الله أن يعمل هذا القلب المحب سنين قليلة لكنها بحساب العطاء كثيرة.

لذلك، مَنْ جاؤوه ليحملوا سرير موته بلهفة وبكاء لم يكن في قصدهم سوى تكريم ذلك الجسد الذي حَمَلَ روحاً تمتعت بتلك السجايا، وليس المجيء كي يُسجِّلوا موقفاً في سوح الوجاهة وكسب رضا الدماء الزرقاء بالتملُّق إليها طمعاً فيما سيأتي، في مواساة لا قَصْد فيها ولا نيّة إلاّ ما ضمرت الصدور من مآرب مختلفة. ومن خلال ذلك التباين في الأمرَيْن كان عزاء عليّ غاية في التميُّز والنقاء.

في لحظة ما، يشعر المرء أنه مسئول مسئولية أخلاقية أمام أشخاص يُوسَمون بالفقراء غاب صوتهم بين ضجيج المقامات الزائفة وتوحّش المظاهر المنتفخة بزخرف الدينار وفتنة المنصب، وخَمَلَ ذكرهم (ظلماً) عند أصحاب الأكمام الطويلة المزركشة. فـ هؤلاء الذين أعوَزَتهم الدراهم قرروا العيش والتضحية بلحمهم الحي، وقتاً وجهداً وبما تيسَّر من مال، يُشاطرونه مع قيمهم الرفيعة.

هؤلاء ليسوا فقراء حتى ولو لم يُصدَّر لهم في المجالس حين يأتون إليها. هم أثرياء حتى وإن لم يُذكَروا في المحافل ولم يُثْنَ على حديثهم ولا عملهم أثناء حياتهم، ولم تلهَج بذكرهم الألسن وتُسيَّل لهم الأحبار. مقامهم رفيع حتى لو لم يُتنَحَّ لهم في الطريق، ولم تُجَهَّز لهم المتكآت ولم تُجَلَّل لهم المفارش، ولم تُنصَب لهم الخِيم، فهم أغنياء عن ذلك التكريم الكاذب بعطائهم الخالص.

لذلك، انساب الحبر بسلاسة هنا في عليٍّ كما انساب الدّمع عليه بصدق، لا يتكلَّف حرفاً ولا يتوسّل كلمة ولا يعوزه خيال؛ فكل حسنة فيه (وفي غيره كذلك ممن يحملون السجايا الصافية) تجذب إليها ألف كلمة وألف صورة. وهو بذلك كَسَرَ بجسمه النحيل وعسر الحياة المنازل والمراتب البالية التي لا يحكمها العلم ولا النزاهة ولا الأخلاق الحميدة، وهو نصر مضاعف ومُؤزَّر في عالَم منهزم.

إن هذا العالَم مَدِيْنٌ إلى الفقراء أكثر من الأثرياء. لقد دَانَ الأدب الألماني بأسره في حقبة ما إلى شاب فقير سليل أسرة فقيرة اسمه هرمن هيس. وفي حقبة أسبق تطوَّر الشعر والمسرح الإسباني بفضل إبداعات فقير اسمه لوب دوفيكا، وكذلك في تشيلي مع بابلو نيرودا. أما بريطانيا واسكتلندا فهما مدينتان إلى مهندس فقير اسمه توماس تيلفورد الذي بنى قناتَيْ بونكتيسيلت وشروزبري. بل إن هذا العالَم هو مَدِيْنٌ لرجل نشأ معوزاً اسمه جيمس وات الذي طوَّر للبشرية الآلة البخارية وجعل الإنتاج والاقتصاديات وحركة المواصلات تتطور، بل هي أساس الثورة الصناعية في أوروبا بأسرها.

نعم، هذه مسئولية لأن يُكرَّم مَنْ يُظَن أنهم خارج دائرة النظر والتبجيل. ففي هذه الحياة، هناك مَنْ يرمي نرداً، وهناك مَنْ يضع حجراً وآخر يهدم جداراً. والفوارق بين هؤلاء كبيرة. إذ لا يستوي المترَفون الخاملون مع الكادحين الذين على أكتافهم بُنِيَت الحضارات وعلائمها الرفيعة، فضلاً عن مقارنتهم بِمَنْ هَدموا الجُدُر والمدن، والذين لم ولن يُسجِّل التاريخ في دفاترهم سوى سفكهم الدم الحرام وأسماء الضحايا وصور البؤس والخراب. إذاً مَنْ الأحق بالتكريم والإشادة وذكر العمل!

ذهب عليُّ خفيف الجسم، خِفّ المتَاع مُخِفّ المال، فلم يترك ندبَة في جسد ولا ساطَ في حق مُضيّع ولم يَكلُم رأس كهل مسكين ولم يفجع قلب أم في ولدها. ذهب والجميع يذكره بخير ويترحّم عليه بأسف، وكأنه ينتسب إلى الجميع وليس عائلته فقط.

عاش سبعاً وعشرين سنة لا أكثر، عمل فيها بهدوء وصمت وذهب عنها وعن محبّيه بهدوء وصمت أيضاً. والصمت كما كان يقول عنه الكاتب والمؤرخ الإسكتلندي توماس كارليل هو «عميق كالأبدية، أما الحديث فسطحي كالزمن». وفي هذا درس يجب أن نستوعبه جميعاً.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5213 - الأربعاء 14 ديسمبر 2016م الموافق 14 ربيع الاول 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 38 | 8:45 ص

      علي ما مات بل باقي كلما ذهبت للمأتم السنابس انظر لتلك النافذة الصغيرة أتذكره واترحم عليه هنيئاً له هذه الخاتمة

    • زائر 36 | 4:16 م

      الله يرحمه.برحمته الواسعة..ويصبر اهله ..ويصبر محبيه من قرية السنابس وخارجها .لقد كان ذا أخلاق عالية وخصال حميدة وعطائه.بلا حدود..قضى عمره في خدمة مآتم أهل البيت سلام الله عليهم.. وبدل ما إستطاع في خدمة أبناء قريته.. وهو في،عزاء الأمام الحسن العسكري.أصابته نوبة قلبية والكل يدعو له بالشفاء. .. لم يكن أحد يتوقع رحيله الكل ينتظر شفائه ليباشر عطائه بدون كلل.وبدون مظاهر ...ولكن رحل علي..وافجعنا برحيله.. فهنيئا له هدا الشرف..العظيم....ولن يضيع الله أجر عاملا..وخصوصا خدمة مآتم الحسين....

    • زائر 35 | 3:20 م

      رحمة الله تعالى عليه

    • زائر 34 | 10:29 ص

      الى رحمة الله. لا حول ولا قوة الا بالله
      الله يصبر اهله وذويه. يقول الشاعر الجواهري:
      في ذِمَّةِ اللهِ ما ألقَى وما أجِدُ
      أهذِهِ صَخرةٌ أمْ هذِه كبِدُ
      قدْ يقتُلُ الحُزنُ مَنْ أحبابهُ بَعُدوا

    • زائر 33 | 8:36 ص

      الله يرحمه من وين الشاب؟

    • زائر 37 زائر 33 | 12:56 ص

      السنابس

    • زائر 31 | 5:47 ص

      الله يرحمه .. عليه بالعافيه خادم

    • زائر 30 | 5:41 ص

      رحمة الله عليه و حشره مع النبي اﻻعظم واله ع

    • زائر 29 | 5:17 ص

      مقال رائع يتجلى الابداع في نواحيه المختلفة
      يستحق هذا الشاب لما عرفته عن قرب في مواقف قليلة
      هنيئا له حسن الخاتمة التي يتمناها كبار في العلم و الدين و المكانة الاجتماعية و ما نالوها بل نالها هذا الشاب

    • زائر 28 | 4:44 ص

      أحسنت أبو عبدالله مقال أكثر من رائع يفض بكل معاني الأنسانية
      هؤلاء هم من يحتاج لهم المجتمع رحمه الله و غفر له

    • زائر 27 | 4:26 ص

      أبدعت!

    • زائر 26 | 3:42 ص

      اي والله استاذ هذا هو علي الله يرحمه نفس ما قال أهل البيت لا نريد منكم جزاءا ولا شكورا احسنت

    • زائر 25 | 2:49 ص

      قد تطول الأعمار لا خير فيها * ويضم الأمجاد يوم قصير.

    • زائر 24 | 2:48 ص

      وما مات موسى وهو يفترش الثرى * وما عاش قارون وأبوابه تبر
      تهاوى رمادا كل صرح ممرد * وعاش على البردي في ألق صطر.

    • زائر 23 | 2:09 ص

      الله يرحمه ويرحم موتانا وموتى المؤمنيين والمؤمنات ويحشرهم مع محمد وال محمد

    • زائر 22 | 1:51 ص

      رحم الله من قرأ الفاتحة على روحة وجميع المؤمنين والمؤمنات .

    • زائر 21 | 1:27 ص

      لقد ابدعت ايه الكاتب وانصفت الفقراء العاملين الكادحين لعمل الخير جزاك الله خير الجزاء ...والله يرحمة برحمته الواسعة ويلهم اهلة الصبر والسلوان

    • زائر 20 | 1:19 ص

      رحمك الله يا علي…أيها الشاب الرائع المؤمن المتواضع.. وشكرا يا أستاذ محمد فهذا حقا تأبين يليق بالراحل الصغير سنا والكبير شأنا

    • زائر 19 | 1:15 ص

      رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه..
      كان نعم الشاب بخلقه وعمله وعطائه

    • زائر 18 | 1:14 ص

      قال الشاعر:
      فَكَأَنَّهُ برق تألق بالحمى ... ثمَّ انطوى فَكَأَنَّهُ لم يلمع
      رحمة الله عليك يا علي

    • زائر 17 | 12:56 ص

      طوبى لك يا علي .. فقد وجد الجميع ضالتهم في ذكرك و نقاء سريرتك وطيب محياك ونبل صفاتك ..
      طبت حيا وطبت ميتا

    • زائر 15 | 12:51 ص

      رحمة الله عليك يا علي

    • زائر 14 | 12:48 ص

      الله يرحمك يا علي كان هادئاً رفيع الخلق معطاءً بلا مقابل.. ساعد الله قلب امه

    • زائر 13 | 12:47 ص

      هنيئا لك يا علي ، أخذك الحسين الى جواره لكي لايظلموك أكثر مما ظلموك ، هذا درس ولابد للإنسان من مراجعة نفسه ، طيب الله ثراك ياعلي

    • زائر 12 | 12:36 ص

      رحمة الله عليه

      نطلب من الله سبحانه وتعالى ان يجعل في قبره النور والضياء والفسحة والسرور وان يحشره مع محمد وال محمد الطيبين الطاهرين. والشكر موصول لك استاذ محمد

    • زائر 11 | 12:32 ص

      من قرن نفسه بسلك الخالدين خَلُد، ألف رحمة عليك يا علي

    • زائر 10 | 12:29 ص

      الله يرحمه الطيب الخلوق ميزانه في الاخره ثقيل من الحسنات اكثر من المتعبد الاناني البخيل فكريا

    • زائر 9 | 12:23 ص

      رحمك الله يا علي رحمته الابرار وحشرك الله مع محمد وال محمد ... نعم يا علي عملت في حياتك بصمت ورحلت عنها بصمت ... هنيئا لك هذه الخدمة مع آهل بيت النبي عليهم السلام وسلاماً على روحك الطاهرة ... إنا لله وإنا إليه راجعون

    • زائر 8 | 12:15 ص

      مقال يفيض بالحس الإنساني والمشاعر الصادقة
      شكرا أبو عبدالله أستاذي العزيز على هذا المقال ورحم الله الفقيد وألهم اهله ومحبيه الصبر والسلوان

    • زائر 7 | 12:07 ص

      أحسن استاذ محمد
      لم اجد افضل من هذا التأبين الى الحبيب الغالي علي
      كل الشكر

    • زائر 16 زائر 7 | 12:53 ص

      الله يرحمة برحمتة الواسعة

    • زائر 6 | 12:00 ص

      رحمه الله ،، فعلا ترك اثر في الجميع من عرفه ومن لم يعرفه ! غريب امر هذا الشاب.

    • زائر 5 | 11:57 م

      بارك الله فيك استاذ لقد قلت مايود قوله الكثيرون ورحم الله علي منصور واذخله فسيح جناته اخوكم احمد مشيمع ابو فيصل

    • زائر 4 | 11:51 م

      رحمك الله ايها الجار الطيب ..
      عشت بيننا في سبعه و عشرين سنه ملاصق بيتكم لبيتنا لو لم اسمع لك يوم صراخ او شجار مع احد
      اكاد لا اتدكر نبرت صوتك الخافت و كلماتك القليلة ..
      كان مشاركاته في وسائل التواصل الاجتماعي قليله في الحجم كثيرة في الفائدة

    • زائر 3 | 11:46 م

      الله يرحمه ويسكنه فسيح جناته

    • زائر 2 | 11:25 م

      الله يرحمه ويغفر له. كان علي نعم الرجل المخلص المحب لعمل الخير. رحمك الله يا علي أنت من طيور الجنة

    • زائر 1 | 10:02 م

      الله يرحمه ويرحم اطفال حلب

اقرأ ايضاً