العدد 5220 - الأربعاء 21 ديسمبر 2016م الموافق 21 ربيع الاول 1438هـ

صادق جلال العظم يترجل ويترك النقد الفلسفي وحيداً

يوسف مكي (كاتب بحريني) comments [at] alwasatnews.com

كاتب وباحث بحريني

اليوم هو يوم ثلثاء من ديسمبر/ كانون الأول من شتاء العام 1984. أما المكان فهو مدرج قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية بكلية الآداب بجامعة دمشق. في أمسية ذلك اليوم كان مدرج قسم الفلسفة غاصا بالحضور، من الطلبة والأساتذة والمثقفين من داخل الجامعة وخارجها، ينتظرون بدء المحاضرة بشأن التنمية الاقتصادية والتي ينظمها عادة كل ثلثاء «منتدى الثلثاء الاقتصادي» في سورية.

بدأ المحاضرون في حديثهم. بعد نحو ربع ساعة دخل شخص طويل القامة، مرتديا بنطال جينز، لافا على رقبته لفافة بيج اتقاءً للبرد. كان الشخص يهم مسرعا ليجد مكانه في أحد المقاعد، في هذه الأثناء دارت الاعناق وشخصت الأبصار لهذا القادم. بعد مضي بعض الوقت على الندوة، تبرع أحد الحضور بمقعده في منتصف المدرج، فجلس الشخص يستمع لما يقال.

إنه صادق جلال العظم، أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق، وبمجرد دخوله استفاق الحضور، وتولد لديه احساس بأن هذه الندوة ستكون ساخنة/ جدالية وسجالية. وهذا ما يرغب فيه الحضور. ويرغب في الاستماع إلى ما سيقوله هذا الرجل.

حقا، لقد أعاد صادق جلال العظم الحيوية بمجرد دخوله إلى مدرج الفلسفة، وكأنه بدخوله قد أيقظ الحضور والمحاضرين من الرتابة، وبالفعل هذا ماحدث.

كانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها عن قرب صادق جلال العظم. ومع أنني لم أدرس على يديه مباشرة، لكنني كنت أدرس بشكل غير مباشر من خلال أحد المقررات التي قام بتأليفها، وهي مطلوبة على طلبة السنة الرابعة من قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية، أما المقرر فهو «الفكر السياسي المعاصر».

أما فيما يتعلق بندوة الثلثاء الاقتصادية في قسم الفلسفة من ذلك اليوم، فقد كانت حيوية، وخاصة عندما قام صادق جلال العظم وبكل ثقة بطرح رؤيته لبعض الأفكار التي طرحها المنتدون، وقام بتفنيدها بطريقة نقدية، ومن منظور سوسيولوجيا الطبقات والمصالح، أو بشكل أدق من منظور ماركسي اشتراكي غير متحزب، وبعيد كل البعد عن الماركسية السوفيتية السائدة حينذاك.

وفي هذه الأثناء كنت أستشعر في عيون الحضور مدى الاعجاب بصادق جلال العظم، وقوة طرحه وجسارته ليس بين المتفقين معه فقط، بل حتى مع المختلفين. أجل لقد كان قوي الحجة وسجاليا لا يشق له غبار، وكان فيلسوفا بمعنى الكلمة يحتاط له محاوروه ومجادلوه، كان جريئا في طرح أفكاره، حتى أنه يتجاوز الخطوط الحمراء، في حين أن زملاءه من الدكاترة في جامعة دمشق لايستطيعون ذلك، فمعظمهم كان تحت سقف النظام، أما هو فكان خارجه دائما. كما أن الحضور كان يجد فيه المعبر عن هواجسه والمعبر عما لايستطيع الجمهور التعبير عنه. لقد كان لسان حال المثقفين من أساتذة وطلبة من غير المتفقين مع سياسة وثقافة النظام السوري.

ومع كل ذلك لم أتمكن من لقائه بشكل مباشر، لكن علاقتي به استمرت وازدادت بشكل غير مباشر من خلال الاطلاع على مؤلفاته وكتاباته المتفرقة وسجالاته التي ينقلها الإعلام بين حين وآخر. وربما كان أهم لقاء إعلامي له هو ذلك اللقاء المشهور في برنامج الاتجاه المعاكس مع الشيخ القرضاوي وما يمثله من وزن ديني.

ولكن سجاله مع القرضاوي جاء متأخرا، بالقياس لمؤلفه المهم وهو «نقد الفكر الديني» الصادر في سنة 1969 وما أثاره من سجال، وما جرّ عليه من احتجاجات ومحاكمات تحت ذريعة التعرض للفكر الديني، وخاصة في أحد فصول الكتاب المعنون تحت عنوان «مأساة إبليس»، لكنه مع ذلك واجه كل ذلك برباطة جأش، وبحجج قوية من التراث الديني نفسه، واستطاع أن يحرك المياه الآسنة في تراثنا الثقافي.

واستمرت مسيرة صادق جلال العظم منذ هذا الكتاب 1969 حتى رحيله حديثا. ففي حياته الحافلة استطاع صادق العظم أن يتناول الكثير من جوانب الثقافة العربية الماضية والمعاصرة.

ففي مجال نقده هزيمة 5 يونيو 1967 قام بنقد الأوضاع وأسباب الهزيمة بكتاب تحت عنوان «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، وقد أثار عليه احتجاجات من قبل الأصدقاء قبل الأعداء. ولكنه ظل أمينا لموقفه النقدي غير المهادن كما في كتاب آخر هو «دراسات يسارية حول القضية الفلسطينية»، وآخر بشأن «الصهيونية والصراع الطبقي»، واعتراضه على زيارة السادات عام 1977 لإسرائيل في كتاب بعنوان «زيارة السادات وبؤس السلام العادل».

وإذا كانت كتاباته ومؤلفاته الأولى باستثناء كتاب «نقد الفكر الديني» ذات طابع سياسي، فإن كتبه اللاحقة تميزت بالعمق الفكري والفلسفي كما في كتابه «في الحب والحب العذري»، وهو كتاب على صغر حجمه، يعتبر من أهم ما كتب في شأن الحب في التراث العربي الاسلامي، ومن منظور نقدي لمفهوم الحب العذري في التراث، ودحض هذا المفهوم الميتافيزيقي.

ومن بين مؤلفاته في هذه المرحلة كتاب «الاستشراق والاستشراق معكوسا»، وهو نقد شديد لإدوارد سعيد بشأن كتابه الاستشراق الصادر في سنة 1978، وبتقديري يعتبر هذا النقد من أفضل وأقوى النقودات التي وجهت إلى استشراق سعيد.

ومن بين أهم الكتب التي جاء بها صادق العظم كتاب «دفاعا عن المادية والتاريخ»، وهو كتاب فلسفي مهم يعيد أسلوب المحاورات القديم في الفلسفة اليونانية، كما في محاورات أفلاطون. والكتاب يحلل بأسلوب حواري فلسفي، مختلف القضايا الحديثة والمعاصرة عالميا ومحليا. ويحاول العظم في هذه المحاورات أن يعيد الاعتبار للفهم المادي في قراءة الأفكار والحوادث.

طبعا القائمة طويلة. فقط يمكن الإشارة إلى كتابه المهم «ذهنية التحريم» 1992 أو «سلمان رشدي وحقيقة الأدب»، وهو الكتاب الذي يتناول فيه الدفاع عن سلمان رشدي بخصوص آيات شيطانية في بعض فصوله. ثم كتاب «ما بعد ذهنية التحريم»، وهو عبارة عن سجال فكري فلسفي بين العظم ومنتقديه بشأن رواية آيات شيطانية.

أما الكتاب الأهم فهو «الاسلام والنزعة الانسانية العلمانية» والصادر العام 2007، وفيه يتناول العظم إمكانية تصالح الاسلام مع العلمانية، وتغليب منطق التسامح والتعايش والديمقراطية.

يبقى أن نشير إلى أن صادق جلال العظم تخرج من قسم الفلسفة في الجامعة الأميركية، كما حصل على الدكتوراه من جامعة ييل الأميركية وذلك عن أطروحته «فلسفة الأخلاق عند بيرغسون» ولديه أيضا كتاب فلسفي من البدايات تحت عنوان «دراسات في الفلسفة الغربية».

نشير أخيرا إلى أن صادق العظم كان من بين أكثر المثقفين والمفكرين السوريين حضورا في المشهد الثقافي على الصعيدين السوري والعربي. وكان يمثل بمواقفه وطروحاته الفكرية والفلسفية شخصية إشكالية، ومثار جدال واختلاف واتفاق.

وأيضا كان من بين أهم المثقفين الذين يجاهرون بمواقفهم ضد النظام العربي وضد نهج القمع، وهذا ما انعكس في مواقفه ضد النظام في سورية، ومساندته الثورة السورية منذ انطلاقتها الأولى، معتبرا أن ماحدث هو ثورة بكل معنى الكلمة، إلا إنها تعرضت لتجاذبات وصراعات اقليمية ودولية. وكان يرى الحل في سورية يقوم على إلغاء العلوية السياسية مثلما حدث في لبنان إلغاء المارونية السياسية في مؤتمر الطائف سنة 1989.

أخيرا لا شك في أن رحيل صادق العظم يمثل خسارة كبيرة للفكر العربي. لكن ما تركه للأحياء من تراث فكري ثقافي وفلسفي سيظل معينا لاينضب ينهل منه الحاضر والمستقبل. تحية إلى صادق جلال العظم وهو في الضفة الأخرى.

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"

العدد 5220 - الأربعاء 21 ديسمبر 2016م الموافق 21 ربيع الاول 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 6:21 ص

      مقال جيد ، ونشكر الأستاذ يوسف مكي،ولكن: من هو الذي يحدد ويطلق الألقاب ويقول هذا فيلسوف وهذا غير فيلسوف؟أعتقد يا أستاذ يوسف أخطأت حينما أطلقت لقب أو صفة فيلسوف على هذا المفكِّر ، والسؤال بكل وضوح:ماهو معيار الفيلسوف عندك؟ أو تحديد اسم الفيلسوف عندك طبقا على ماذا؟!هو مفكِّر وكاتب وناقد ومدرس فلسفة لا غير ، أمّا فيلسوف وتزيد عليها كلمة (حقًّا) فهذا خطأ وليس حتى مبالغةلكثرة علمه في الفلسفة وإن كان مُتبحِّرا فيها، الفيلسوف هو من يمتلك فلسفة خاصة به ضمن معايير عقلية ومنطقية، والعظم لا يمتلك ذلك.

    • زائر 1 | 10:49 م

      ممتاز

      مقال ممتاز استاذ يوسف و شكرا على تذكير القراء باهمية هذه القامة الفكرية

اقرأ ايضاً