العدد 5227 - الأربعاء 28 ديسمبر 2016م الموافق 28 ربيع الاول 1438هـ

ختامها مِسك

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

كنتُ في جلسة ارتشاف علمٍ وأدبٍ مع واحد من ألمع أساتذة اللغة الإنجليزية والترجمة الأدبية. إنه محمد رياض جزّار أحد قامات جامعة البحرين، والذي تعتز بلادي أن يكون مُعلٍّماً ومربياً لأجيالها. ومن المسائل التي كنا نتحدث فيها هي البر بالوالدين، فحدَّثني جزّار قصة أستاذه بجامعة دمشق (الذي سأذكر اسمه لاحقاً) قبل ما يزيد عن نصف قرن.

يقول جزّار: عندما كنتُ في السنة الجامعية الأولى في جامعة دمشق وفي يوم من الأيام، انتهت محاضرتنا في علم الاجتماع، وكانت عن «روح الجماعات» وأطروحات غوستاف لوبون في سيكولوجيا الجماهير، لكن جمعاً من الطلاب والطالبات تجمَّعن حول أستاذ المادة كما هي العادة يتبادلون أطراف الحديث في المادة الأكاديمية المطروحة.

وعندما كانت إحدى الطالبات تسأل الأستاذ المذكور نَهَتها زميلتها قائلة بأنكِ قد تُؤخِّرينه عن بيته، فتطفّلت ثالثة سائلة إيّاه: هل أنتَ متزوّج يا دكتور؟ فبدا الإحراج عليه إلى الحدّ الذي احمرّت وجنتاه، فردّ قائلاً: لا! فما كان من تلك الطالبة وزميلاتها إلاّ وقد زادوا في فضولهم مبتسمين لمعرفة السبب، فقال لهنّ أستاذهنّ بهدوء: والدتي مريضة جداً، وأنا وحيدها، فأخشى إنْ أنا تزوَّجت الآن أن أقصِّر في خدمتها، فآثرت أن يكون اهتمامي خالصاً لها. فوقع جوابه على الجميع وقعاً مختلفاً.

كان ذلك الأستاذ هو فخر الأدب العربي الحديث وعلوم الفلسفة والاجتماع (ليس في سورية فقط بل في العالم العربي كله) العلامة عبدالكريم اليافي (1919 – 2008) الذي لم أدرِك حقيقته إلاّ بعد أن دلَّني على اسمه جزّار مشكوراً بتلك الحادثة فصرت أبحث فيه بتركيز واهتمام.

في مسيرة البحث عن اليافي، وجدتُ أنني ضيَّعتُ شطراً من العمر دون أن أنهَلَ مما كَتَب ومما أفاضَ لغة وعلماً. كيف لا وهو موسوعي بامتياز. ففي اللحظة التي نال فيها الإجازة في العلوم الرياضية والطبيعية قبل 76 عاماً نال إجازة أخرى في الآداب ثم ختمها بدكتوراه الفلسفة في العام 1945.

وعلى رغم أنه شغل منصب أستاذ الفلسفة في جامعة دمشق، ورئيساً لتحرير مجلة التراث وخبيراً في علم السكان لمركز الديموغرافيا بمعهد العلوم الاجتماعية بدمشق، وكذلك عضواً في كل من مجمع اللغة العربية بدمشق، واتحاد الكتاب العرب، وغيرها من الهيئات خارج سورية سواء في العالم العربي وخارجه، وأستاذاً زائراً في عدد من الجامعات إلاّ أن قلمه ظلّ يسيل أحباراً لا تنتهي.

لقد ألّف الكثير من الكتب، في الفيزياء وعِلْمَيْ الاجتماع والسكان فضلاً عن الفلسفة وعلم النفس والأدب العربي الذي أبدع فيه بما لا يُوصَف. وكان كتابه «دراسات فنية في الأدب العربي» واحداً من أكثر الكتب التي شدَّتني للعلامة اليافي، وخَتَمتُ به قراءاتي في هذا العام الذي نقضي يوميه الأخيريْن، وكان هذا الكتاب أهمها وأكثرها متعة.

كان اليافي عاشقاً للغة العربية وعلومها. وكان يقول: «وكما يحلو شعاع الشمس حين يتلألأ في الضحى والأصيل على لازورد السماء الصافي كذلك يتلألأ اللفظ العربي الشريف في خاطري وفي سمعي وبصري، فأنعمُ بطلاوته وأقتات من حلاوته وأرشف من معين رُوائه وأحلمُ في آفاق جَرْسِهِ».

كان اليافي يؤمن بأن العربية هي من أقدم اللغات على الإطلاق. وكان يعتقد بأنها «نشأت وعاشت واكتملت وعُمِّرت واستمرت الأحقاب الطوال وهي لا تزال في ريعان القوة والنمو» والسبب في ذلك لأنها «تحوي فضائل ضمنية ليست للغاتٍ ماتت وانقرضت كاللغة اليونانية واللاتينية وأمثالها».

لذلك تراه سنداً لكل الذين يمخرون في بحر العربية ويعتنون بها، مشجعاً لهم عطوفاً عليهم، لا يذكرهم إلاّ بالإشادة، لكنه وفي نفس الوقت غيورٌ على هذه اللغة حين يجد مَنْ يعبثون بها بالصَّلف والغرور وادعاء العلم، مشبهاً إياهم بأنهم كالأطفال «إذا تركهم إخوانهم الكبار يمشون أمامهم حسبوا أنهم سبقوهم، وإذا حملوهم على الأكتاف توهّموا أنهم يرون أبعد منهم».

في كتابه الذي يزيد عن الـ 430 صفحة والذي حاز جائزة الدولة، يأخذنا اليافي من القيم الجمالية حيث الرقة والروعة والجمال والضحك، إلى ملامح من أطوار الشعر العربي من الطورَيْن الاتباعي والبراق إلى ارتباط التعبير الشعري بالمجتمع وأحواله، وارتباطه بفكرة الزمان، معرجاً على رموزه الصوفية وموقف الحلاج وابن الفارض والفلاسفة منه، فضلاً عن مدرسة ابن عربي الذي يسمّيه بـ واحد عصره.

من أهم ما يُميِّز هذا الكتاب أن قوّة بحثه ولفظه لا تتبخَّر كلما طوَيْتَ أوراقه بعد أن استنفد المؤلف في اندفاعته الأولى ما كان يريد أن يقوله، بل يزداد قوة وعمقاً لا حشو فيه ولا زيادة غير لازمة بل أفكاراً وقراءات ونبشاً في الجديد. فمثلاً، حين يتحدث عن موضوع كـ الفكاهة وارتباطه بالتطورات الاجتماعية تراه يكتب فيه بشكل عميق جداً، يمزج فيه الجانب الفلسفي بالاجتماعي والأدبي.

لقد وظف العلامة اليافي شهاداته العليا الخمس، ونبعها السوربوني وفطنته وجِدِّه في أن يكتب لنا النافع من الرؤى، وفي ذات الوقت الأسفار المواكبة لحركة أمته العربية. فهو لم يغفل توصيف الاعتداء عليها، ومحاولات إنهاضها والذود عنها من منطلق الاعتناء بهويتها حتى قال: «لقد فتح أصحابها جفونهم على ظلمه وظلامه فقاوموا شبا السِّنان بسنا البَنان، وحديد الحراب بحداثة الإهاب، وقابلوا النار بالنور والبغي والاصطلام بالصبر وأمَلَ انطواء الظلام».

الحقيقة أن الإطلاع على إرث العلامة عبد الكريم اليافي رحمه الله هو ضرورة لكل أبناء هذه الأمة، وتحديداً لمثقفيها، فهو زادٌ تستلذ به العقول ويقوى به البنان، ويتّسع على أثيره الأفق والخيال.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5227 - الأربعاء 28 ديسمبر 2016م الموافق 28 ربيع الاول 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً