العدد 5248 - الأربعاء 18 يناير 2017م الموافق 20 ربيع الثاني 1438هـ

قبل 368 عاماً

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

للمسعودي نصّ جميل بشأن السفر إلى البُلدان. يقول: «لكل إقليم عجائب يقتصر على علمها أهله. فليس مَنْ لَزمَ جهة وطنه، وقَنَعَ بما نمَا إليه من الأخبار من إقليمه كَمَن قسّم عمره على قطع الأقطار، ووزع بين أيامه تقاذف الأسفار، واستخراج كل دقيق من معدنه، وإثارة كل نفيس من مَكْمَنِه». أستحضر هذا النص، وبين يدي يوميات الرّحالة الفرنسي فرانسوا دو لا لابولي لوغوز، بعد تحدثنا في وقت سابق عن رحلة الرّحالة البرتغالي بيدرو تيخيرا.

أهمية رحلة لوغوز تكمن في أمرين. الأول أنها ترصد جغرافياً وسياسياً وسوسيولوجياً مواقع عِدَّة في القارتيْن الآسيوية والأوروبية في القرن السابع عشر الميلادي، ما يعني أنها بمثابة الكاميرا الراصدة، والتي افتقدها ذلك العصر. والثاني أن هذه الرحلة من الشمول الذي جعلها تتعرض لأدق الأشياء بما فيها معتقدات الناس وأوصافهم والأعراف الاجتماعية القائمة في تلك الفترة.

أمر آخر يلتفت إليه قارئ الرحلة، وهي سمات لابولي لوغوز وقناعاته ونزعته الشخصية. فهو وإن أهدى مخطوط الرحلة في العام 1650م إلى أمين مكتبة الفاتيكان والداعية بمجمع نشر الإيمان الكاردينال لويجي كابوني إلاّ أن لوغوز كان متسامحاً في ذكره الواقع، وتحديداً تجاه المسلمين. وهذا الأمر حَرِيّ بأن يُبحَث كوننا نتحدث عن حقبة سَبَقَت التمرد الحقيقي على البابوية بسنوات.

فنحن نتحدث عن فترة لم يصل إليها لا جاك روسو ولا مكسميليان روبسبيير كي يطرحا عبادة الكائن الأسمى. كما تأتي قبل السان سيمونيون الذي قال للأوروبيين إن هناك إمكانية لقيام دين إنساني قادر على أن يعبر الإيكليروسية التقليدي، لذلك كان الوضع لايزال في أيدي رجال الدِّين المسيحيين، لكننا نجد في مواقف وآراء لوغوز وجهاً سبق كل ذلك لصالح التسامح.

كان سلوك لوغوز يشير إلى أنه شخص متحرِّر. فخلال حديثه عن رحلته من الهند «الشرقية» إلى البصرة والتي استمرت شهرين وثمانية أيام يتحدث بتهكم عن ملاح السفينة واصفاً بالأحمق حين قام برمي ثلاث تمرات في البحر باتجاه زوايا السفينة الأربع معتبراً إياها قرباناً يجب أن يُقدَّم كي تهدأ العاصفة لكن تلك «الخرافة لم تُوقِف مسار الطبيعة ولم تُوقِف هياج البحر» كما يصف.

لفتة أخرى بشأن هذه الرحلة وهي أن زمن الرحلة «فرنسياً» يعكس صورة مختلفة لهذا البلد. ففي تلك الفترة لاتزال فرنسا تحت الحكم الملكي، والفاصل بين رحلة لوغوز عن الثورة الفرنسية هو 140 عاماً، ما يعني أن الرؤية الفرنسية في السياسة والثقافة مستكينة وفق المنهج المحافظ، وهو ما كان منعكساً على أنشطة البلد كافة ومنها الرحلات التي كان يقوم بها فرنسيون في المشرق.

وعلى قلة رحلاتهم كان الفرنسيون من أهم مَنْ جالوا وسجَّلوا ما شاهدوه. وبعضهم ممن صار مستشرقاً أخذ في حفر أشياء من تاريخ العرب والمسلمون لم يطرقها أحد، أو ربما تم طرحها بشكل عابر، كما في حالة أشتور، الذي بحث في طبيعة المجتمع العربي خلال العصر العباسي، وما كانوا يتناولونه من طعام وربط ذلك بالأمراض التي سادت. لكنه أيضاً اعتمد في بحثه على الرّحالة.

تبدأ رحلة فرانسوا دو لا لابولي لوغوز من الهند بعدما استقل سفينة إنجليزية أبحرت من هرمز في 26 مارس/ آذار من العام 1648م بحسب أنيس عبدالخالق محمود مُراجِع ترجمة الرحلة من الفرنسية، لكن لوغوز نفسه يقول في اليوميات إنها كانت في بداية مارس/ آذار، ولا نعلم أيّ التاريخيْن أصوب. لكن في المحصلة الفارق هو أقل من شهر واحد، وهو يخصّ الرحلة «حتى» الهند فقط.

يُصوِّر لوغوز مشاهد دقيقة خلال وصوله إلى الهند من الناحيتين الجغرافية والإثنوغرافية. وعندما يبحر منها يُقدِّم لنا صورة تفصيلية ليس عما شاهده على اليابسة فقط بل حتى ظروف البحر وكيفية تعامل الإنسان مع الكوارث، وسلوكه في عَرْض البحر، وردات فعله على الحوادث الطارئة التي يواجهها، فضلاً عن أشكال القرصنة فيه، والتي كانت رائجة في تلك الفترة بشكل كبير.

وعندما يتنقل من منطقة إلى أخرى يصف لنا الأحوال السياسية ومراكز القوى في تلك الفترة. فعندما كان يتحدث عن البحار يشرح كيف كان العمانيون يتسيّدون على البحار، وكيف كانت جميع إيراداته تصل إليهم. وعندما يتحدث عن البصرة يشير إلى ديمغرافيتها، وكيف أن سكانها كان خليطاً يغلب عليه الصابئة، لكنْ بينهم هنود وفرس وأرمن كثيرون.

يتحدث في العراق كذلك عن الديانات الموجودة ويخص الصابئة، فيُسهِب في أمر ديانتهم ومسلكهم. كما يتحدث عن اليهود والسناطرة وعن اليعاقبة في نينوى والموصل واختلافهم عن الأرمن. تحدث كذلك عن بغداد وعن عرب البادية وعن كرمهم مع الضيوف وتعاملهم مع أزواجهم وتمايزهم عن الغرباء كما يسميهم. لكنه أيضاً يتحدث عن حالات السرقة التي كانت تجري هناك وعن بغداد والشاه عباس الأول (1571م - 1629م) الذي كان لوغوز معاصراً له في تلك الفترة.

في وصف عسكري مهم يتحدث عن المشهد اللوجستي للجيش العثماني الذي كان يجتاز الصحراء للوصول إلى بغداد، وأنه كان يُوظف 18 ألف شخص لنقل الماء للجند المنهكين، وأن يهوداً كانوا من ضمن 10 آلاف رجل في ذلك الجيش، بالإضافة إلى الطباخين والعمال. وفي ختام يوميات الرحلة وُضِعَ ملحق مليء بالرسومات والصور والرسائل المختلفة.

هي رحلة بيوميات جميلة تجعل القارئ وكأنه يشاهد فيلماً مضى عليه 368 عاماً بتدوين حقيقي وليس عبر خيال سينمائي. إنه جزء من تاريخنا الذي من المهم أن يُقرأ ويُناقش.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5248 - الأربعاء 18 يناير 2017م الموافق 20 ربيع الثاني 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 4:31 م

      العمانيون يستسيدون البحار وتصل إليهم جميع إيراداته
      ..

اقرأ ايضاً