العدد 5256 - الخميس 26 يناير 2017م الموافق 28 ربيع الثاني 1438هـ

محنة العقل مع التراث الإسلامي

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

عندما يشاهد الإنسان على شاشات محطات التلفزيون العربية الدينية، متحدثين ينشرون الفهم الخرافي والفتاوى المتزمتة للدين الإسلامي، ويقحمون الدين بصور مضحكة طفولية في مواضيع من مثل التاريخ والعلوم، فإنه يدرك مقدار تشويه روح ذلك الدين من جهة، ومقدار بلادات فصله كليا عن أحكام العقل ومتطلبات المنطق.

أحد المتحدثين يدعي بأن زيارة قبر أحد أئمَة مذهبه تساوي مليوني حجة، نعم مليوني حجَّة، وآخر يدعي بأن هتلر قد تلا آية قرآنية في خطبة له، وثالث يؤكد أن كل الاكتشافات العلمية والطبية موجودة في قرآن وأحاديث وفقه هذا الدين، وما على الإنسان إلا أن يبحث وسيجد.

سيل من السُخف والبلادات والتقوُل على الله الذي يخدر الإنسان العربي ويسلبه من كل قدرة على ممارسة العقلانية، واستعمال مقاييس المنطق والعلم ويدخله في عوالم الشعوذة والسحر والمعجزات والحكايات الخرافية.

من هنا، وبسبب الازدياد الهائل لمثل تلك المحطات التلفزيونية، ولأمثال بعض أولئك المتحدثين بهستيريا وصراخ وحركات بهلوانية، وبسبب انعكاس تلك الثقافة الدينية المتخلفة المتزمتة على مجمل أشكال الثقافة العربية من مثل تحريم البعض للغناء والتصوير والنحت ...إلخ، وبسبب استعمال تلك الثقافة الدينية استعمالاً انتهازياً من قبل الحركات الجهادية العنفية لتبرير ممارسات من مثل تفجير الانتحاريين أنفسهم في مختلف تجمعات الأبرياء في الأسواق والمساجد والكنائس والمآتم والمدارس بسبب كل ذلك يضطر الإنسان المرة تلو المرة للعودة إلى الحديث عن الأهمية الوجودية العربية القصوى لتحليل ونقد وتنقيح ساحة الأحاديث الموضوعة المنسوبة زوراً وبهتاناً وجهلاً إلى رسول الإسلام، وأيضاً ساحة الفقه المتخلف المتزمت المنتمي لأزمنة تاريخية غابرة، وبالتالي المتعامل مع واقع مختلف بصورة كلية عن واقع العصر الذي نعيش. وهي عملية يجب أن تهدف إلى أمر أساسي:

إرجاع مركزية الوحي الإلهي القرآني ليحكم بصورة كاملة إبداعية متجددة حقل التراث البشري الإسلامي، قديمه وحديثه.

ومن أجل توضيح ما نقول سنأخذ موضوع العقل والعقلانية لنبرز الفرق الهائل بين التعامل القرآني والتعامل الفقهي إزاء هذا الموضوع الخطير.

فأما القرآن فقد امتلأ بالآيات التي تحضّ على استعمال أدوات العقل من مثل يتفكرون ويفقهون ويعلمون ويعقلون ويتدبرون، أي أن الوحي اعتبر العقل حاكماً أساسياً في أمور حياة الإنسان الدنيوية، بما فيها فهم رسالة السماء فهماً صحيحاً وتطبيقها تطبيقاً لا يتعارض مع توجيهاتها القيمية والأخلاقية من مثل العدالة والكرامة والأخوة الإنسانية والعفّة والرحمة وشتى أشكال الفضيلة.

إلى هنا ولاتوجد مشكلة مفتعلة بين الدين والعقل. لكن محنة العقل والعقلانية تبدأ بتدوين ما عرف آنذاك بعلوم السنة من جهة، وعندما يبدأ زج الدين زجاً انتهازياً في أمور السياسة وصراعات الحكم من جهة أخرى.

أما السنة فكانت إشكاليتها تقع في التراكم الهائل لما اعتبر جزءاً من منطوقها. فالأحاديث النبوية، وهي جزء من السنة، قد بدأت بعدد الخمسمئة عند مالك بن أنس لتنتهي إلى عشرات الألوف عند هذا الإمام أو ذاك الفقيه.

ما يهمنا هنا هو العدد الهائل من الأحاديث التي نسبت إلى النبي محمد (ص) زوراً وبهتاناً، بل ونسبت إلى بعض الصحابة كذباً، وذلك من أجل مصالح سياسية، أو تبرير لعادات وسلوكيات قبلية، أو إلباس هذه الشخصية أو تلك لباس القدسية.

لكن السنة لم تقف عند حدود الأحاديث النبوية تلك، مع كل ما فيها من نقاط تحتاج إلى مراجعة، بل أضيف إليها أيضاً أقوال الصحابة والتابعين وإجماع العلماء وآليات الاجتهاد، بل وحتى عمل أهل المدينة عند البعض.

فإذا أضيف ما حاول البعض فعله، كما فعل الشافعي على سبيل المثال، من اعتبار السنة النبوية وحياً إلهياً، وبالتالي لا يجوز مسها بأية صورة من الصور، أدركنا كيف أن الأقوال والآثار سيطرت على الساحة، وادعى مروجوها بعدم الحاجة للرأي، أي استعمال العقل، إلا في حدود ضيقة إلى أبعد الحدود.

ليس الهدف هنا الدخول في دهاليز علوم الحديث والفقه المختلف من حولها كثيراً، لكن الهدف هو القول بأن التوسُع الهائل في الأقوال التي نسبت إلى الرسول وإلى أصحابه والتابعين وغيرهم من مسميات، والإصرار على إضفاء القدسية على الكثير من تلك الأقوال، جعل استعمال العقل في أهم ساحة ثقافية آنذاك، ساحة الدين ؛ جعل استعماله محدوداً ومشروطاً ومكبلاً، بحيث ساهم في تهميش الوهج العقلاني القرآني من جهة، وفي تهميش علوم الفلسفة القائمة على مناقشات العقل من جهة أخرى، وفي الادعاء بأن الأجوبة على الأسئلة الدينية، عبر العصور، موجودة في التراث الديني السابق وفي ما قاله السلف الصالح.

في هذا الحقل الثقافي المهم، الذي همش العقل فيه تاريخياً، ويهمش العقل فيه حالياً بصورة فجة كما هو واضح على شاشات المحطات التلفزيونية الدينية، أصبح موضوع تنقيحه، تحليلاً ونقداً وتجاوزاً وتجديداً، من جهة وموضوع العودة إلى إسلام القرآن، الوحي الآمر بالتفكُر والتمعن من خلال السمع والبصر والفؤاد من جهة أخرى.. أصبح موضوعاً بالغ الأهمية، وبالغ الحاجة لحل إشكالاته، لا من قبل جهود أفراد؛ وإنما من قبل جهود مؤسسات دراسات وبحوث رسمية وأهلية.

إن محنة العقل مع القراءات التاريخية للتراث الإسلامي تمثل اليوم محنة كبرى لا يمكن تجاهلها، بل ولا حتى تأجيلها.

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 5256 - الخميس 26 يناير 2017م الموافق 28 ربيع الثاني 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 32 | 8:13 ص

      منحه وليست فسحه
      ولا يقال اليوم أن الفساد في التدبير وأنما في التفكير الا عقلاني! فقد فقد عقله أو فقد صوابه أو لم يصب من الدنيا الّا نصيبه من الدنيا. ففي مرءات العقول قيل أن العلم تكليف وليس ترفيه أو كناية للمكلف.
      فيقال أن المحنه فتنة ليست من فتن الدجال وإنما إمتحان للعبد.

    • زائر 31 | 7:38 ص

      من القوانين قانون نفي النفي في "لا إلاه إلا الله" أما "الاء" الأولى فنافية ... فكم حارب النبي محمدا على التنزيل أما الإمام علي فعلى التأوبل

    • زائر 30 | 7:21 ص

      خطاك السوء أو خصمان لا يجتمعان أهل السعير وأهل . . نعم نهم . . . لا للعقل و لا للتفكير! لأن العاقل من لا يعمل للأولي أي الحياه الدنيا بل للأخرى.
      فهيهات جمع الضرتين في فرد أو نفر واحد

    • زائر 22 | 3:42 ص

      و لكن

      و لكن ما هو الدليل على صحة ما ينسب الى النبي انه فعلا قالها حيث ان الاحاديث نقلت شفاهة من جيل الى اخر قبل ان تسجل بعد حوالي مئتي سنة من وفاة النبي

    • زائر 16 | 2:07 ص

      ...ال... و ا... هم سبب تخلفنا عن بقية الامم متى ما تخلصنا من الأغلال التي يضعها ا... على العقل و التفكير عندها فقط نتقدم

    • زائر 12 | 1:05 ص

      رد على 35
      نزل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وكان النبي يباشر التوضيح (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)
      (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون). وآيات اخرى تدلّل على ان سنّة الرسول مبينة وشارحة لما في كتاب الله وما يحتاج لايضاح ....

    • زائر 29 زائر 12 | 7:16 ص

      اخي جاء القران مفصلا ومبينا لكل شي
      للاسف بزمنا ناخذ بالاحاديث وتركنا القران

    • زائر 9 | 12:30 ص

      مقال جميل
      للاسف ........ يقدسون الاحاديث وكانها القران
      ويقومون بتفسير القران بالاحاديث التي لا صحة لها
      والناس تركت عقولها ل.......... لسيطرة عليه

    • زائر 8 | 12:24 ص

      الزيارة بمليون حجة ليست موجهة للعقل لأن الحج نفسه لا يعرف بالعقل إنما هو مثال غير محايد كتبه ....، علينا غربلة التاريخ و الالتزام بمعايير المنطق و التحرك في الإطار المدني لمشروع العودة او ربما البعث لكننا يجب ان نعود.

    • زائر 20 زائر 8 | 3:19 ص

      كلام الكاتب صحيح للاسف البعض يغلوا لأسباب طائفية ..

    • زائر 7 | 12:13 ص

      زيارة الحسين عليه السلام تساوي مليون حجه هذا لا يعني أن نلغي حج بيت الله
      كما سورة التوحيد تساوي ربع القران يعني نقرأ
      سورة التوحيد ٤ مرات لا داعي لتلاوة القرآن.. كتاب الله. يا دكتور

    • زائر 6 | 11:45 م

      دعا الرئيس و بحضور شيخ الأزهر و كبار العلماء إلى مراجعة التراث و تجديد الخطاب الديني و صدقه اسلام بحيري الذي عكف بحماس على انجاز المهمة...وما هي إلا حلقات معدودة على التلفزيون ثم يختفي مقدم البرنامج وراء الشمس...يبدو أن هناك .. عميقة كثيرة و ليس فقط في مجال السياسة..

    • زائر 5 | 11:22 م

      فعلا

      لقد تحول الفقه و ما ينسب الى النبي زورا الى اداة لتعطيل العقل و التفكير الحر

    • زائر 4 | 11:20 م

      نعم الراي

      كل ما تقوله صحيح يا دكتور و لكن سيخرج لك الكثير من .... و اتباعهم الذين سيكفرونك بحجة عدم اعترافك بالاحاديث النبوية و هذه محنة العرب و المسلمين الذين صدقوا كل ما نسب الى النبي و بانوا في حالة من التخلف و التشرذم

    • زائر 3 | 10:53 م

      للاسف إغراق بعض..... في الطقس الديني عطل التطور الثقافي و الاجتماعي و العلمي ولا حياة لمن تنادي .

    • زائر 2 | 10:52 م

      كيف تحكم العقل مع اناس ينطقون عن النبي ص . و الناس الذين حولهم يكفروك قبل ان تكمل فكرة تعارضهم .

اقرأ ايضاً