العدد 5258 - السبت 28 يناير 2017م الموافق 29 ربيع الثاني 1438هـ

هل نحن مفسدون حقاً؟

جعفر الصائغ

باحث اقتصادي بحريني

في أمسية ثقافية في إحدى الجامعات المحلية، كنت أتحدّث أمام مجموعةٍ من أكاديميين وطلبة وموظفين ومدراء عن موضوع القيادي الناجح ودوره في التنمية. الموضوع بالنسبة لي كان تحدياً، لما له من أهمية في حياتنا العملية، ونهضتنا الاقتصادية ومستقبل الأجيال المقبلة، الأمر الذي يحتاج إلى إبداع وإنصاف وشفافية، حتى نعطي الموضوع حقه، خاصةً أن جمهور مثل هذه المواضيع يكون تواقاً لمعرفة المواصفات الفعلية للقيادة، والمدراء الناجحين، ودورهم في نجاح المؤسسات وتقدّم وازدهار البلدان.

تحدّثت أولاً عن مفهوم القيادة الناجحة، ومواصفاتها والكيفية التي يمكن بها للمرء أن يصبح مديراً وقائداً ناجحاً مبدعاً، وعنصراً مهماً لنجاح وتقدّم الآخرين. فقلت إن القائد هو الشخص الذي يعرف ويتقن كيفية تحقيق الأهداف، وإلهام الناس على طول الطريق، وهو الذي يتمتع بثقة كبيرة بنفسه، ولا تسيطر عليه آراء من يحيطون به، وأن شخصيته القوية الحاسمة تبعده عن الأنانية والاندفاع والتهور، فيكون قادراً على أن يلهم الآخرين، ويكسب ولاءهم بعلمه وخبرته وحنكته الإدارية وبرؤيته الثاقبة، ومن دون أي شرط أو قيد. المدير الناجح لا يفكّر بأسلوب الضحية الذي يحمل أتباعه من الموظفين مسئولية أخطائه، وقراراته غير الموفقة.

وذكرت إن ما يميّز القيادي الناجح هو العدالة والنزاهة والابتعاد عن العاطفة في اتخاذ القرارات، وأن التحدّي الأكبر أمام المدير والقيادي المبدع هو مقاومته لما تسوّل له نفسه في حب الشهوات والطمع والجشع الذي يعاني منه كثيرٌ من البشر، فهو مطالَبٌ بالعدل والإنصاف، وأن يرفض تفضيل الأقارب والأهل على الآخرين سواءً في التوظيف أو من خلال استخدام منصبه وموقعه الوظيفي خدمةً لنفسه وأهله. ولذلك يُقال إن من يسيطر على نفسه وعواطفه قادر على أن يقود العالم.

كان الحضور متفاعلاً ومتجاوباً مع مثل هذه الأفكار لأبعد الحدود، الأمر الذي شجّعني لأطرح سؤالاً جريئاً، وهو هل هناك من الحضور من لديه استعدادٌ بأن يتعهد إن نجح وأصبح مديراً وصاحب قرار، بأن لا يلجأ لاستخدام الواسطة لتوظيف أقاربه أو أحد من زملائه؟ لم أتفاجأ بالنتيجة وردة الفعل، حيث عمّ القاعة صمت رهيب، لا يمكن تفسيره إلا بحالة واحدة وهي مراجعة النفس في داخل كل واحد من الحضور. بتصوري أن كل واحدٍ منهم كان يسأل نفسه: هل أستطيع حقاً أن أتعهد بذلك؟ ولماذا لا؟ لم يفاجئني صدقهم مع أنفسهم أولاً، ومع الآخرين، فهذه صفة المجتمع البحريني.

وبعد صمت غريب، وقفت طالبةٌ في عنفوان شبابها، لتضع النقاط على الحروف، وتفسّر لنا سبب هذا الصمت المذهل. فقالت وبكل ثقة وارتجالية وحماس، إن المشكلة تكمن في بيئة العمل، وما تحتويه من اختلالات وفساد إداري وتمييز وتوظيف الأقارب وغياب الرقابة والمحاسبة. وقالت أيضاً إن ما نعانيه حقاً هو غياب العدالة في سوق العمل، فالتوظيف والتعيينات الإدارية لا تتم بناءً على الكفاءة والمؤهل، وإنّما على المحسوبية والقرابة، وبهذا الوضع لا يمكننا أن نسير خطوة إلى الأمام، وسنبقى متخلفين عن الأمم والبلدان الأخرى. سألتها وماذا عن سؤالي، لو أصبحت مديرة وصاحبة قرار في عملك، هل بإمكانك التعهد أمامنا جميعاً بعدم اللجوء إلى «الواسطة»؟ وأن تعييناتك ستكون بناءً على الكفاءة والخبرة وليس بناءً على القرابة أو العلاقات الاجتماعية؟ لم تتأخر في الإجابة أبداً وكأنها كانت تنتظر مني السؤال فقالت: «ولماذا أحرم نفسي وأحرم أقاربي، سألجأ إلى الواسطة مثل غيري بكل تأكيد طالما الجميع يعمل ذلك بلا رادع ولا عقوبة».

لا أعتقد أنها قد أخطأت في ما ذهبت إليه، فكانت تتحدّث بحسرة ومن القلب وبكل شفافية وإخلاص، فهي أرادت في الواقع توصيل رسالة تنبيه لنا جميعاً بخطورة الوضع الذي نحن فيه، أي الوضع المريض السائد في مجتمعنا، والذي يمثل عقبةً وتحدياً أمام تنفيذ رؤيتنا المستقبلية، وتحقيق أهدافنا الاستراتيجية، واستغلال مواردنا الاقتصادية في سبيل رقي وازدهار وطننا الحبيب، وضمان مستقبل أفضل لمجتمعنا والأجيال المقبلة. السؤال الذي يفرض نفسه هو: ما الذي أوصلنا إلى هذا الوضع؟ وما الذي يجب أن نعمله لتصحيح هذه الوضع؟

بعد أن سمعت حديث الطالبة أصبت بحالة نفسية غريبة، حالة خوف وقلق على مصير هذا الوطن الحبيب، من هذا الفساد المكلف واللامبالاة في استخدام خيراته ونموه، خوفاً من أن الأمم الأخرى ستسبقنا وتتركنا مع الجهل والتخلف. دعيت الله أن يحفظ هذا الوطن، وبعد أن أنهيت المحاضرة توجّهت في الحال إلى خارج القاعة، وأنا في حيرةٍ من خطورة الوضع وتفشّي الفساد في المجتمع. وجدت نفسي أفتح جهاز الموبايل، ومن ثم برنامج اليوتيوب لأستمع إلى أنشودة الفنان التونسي لطفي بوشناق الذي يقول في بعض من مقاطعها:

أنا مواطن وحاير أنتظر منكم جواب

منزلي في كل شارع في كل ركن وكل باب

وأكتفي بصبري وصمتي وفروتي حفنة تراب

ما أخاف الفقر؛ لكن كل خوفي من الضباب

ومن غياب الوعي عنكم كم أخاف من الغياب

ما يهم ولا أبالي الدنيا ديسها بمداسي

لكن خلولي بلادي

لن أكون في يوم منكم يشهد الله والزمن

أنا حلمي كلمة وحده أن ظل عندي وطن

لا حروب ولا خراب لا مصايب لا محن

خذوا المناصب والمكاسب لكن خلّو لي الوطن

يا وطن وأنت حبيبي أنت عزي وتاج راسي

أنت يا فخر المواطن

أنت أجمل أنت أغلى

أنت أعظم من الكراسي

إقرأ أيضا لـ "جعفر الصائغ"

العدد 5258 - السبت 28 يناير 2017م الموافق 29 ربيع الثاني 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 7:53 ص

      سلمت على هذا المقال الرائع

    • زائر 2 | 10:29 م

      الى أستاذي القدير الدكتور جعفر الصائغ أقول لن ينصلح حالنا إلا بحديدة علي إبن أبي طالب عليه السلام التي أحماها على النار حتى احمرت ثم قربها من أخيه عقيل حينما طلب منه أن يزيده في العطاء لكثرة عياله فلما ضج عقيل من حرارتها قال عليه السلام : ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ ، أَ تَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ ، وَ تَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ ، أَ تَئِنُّ مِنَ الْأَذَى وَ لَا أَئِنُّ مِنْ لَظَى " .
      أبو صادق الدرازي

اقرأ ايضاً