العدد 5259 - الأحد 29 يناير 2017م الموافق 01 جمادى الأولى 1438هـ

في التنوّع الثقافي وملحقاته

عبدالحسين شعبان comments [at] alwasatnews.com

كاتب عراقي وحقوقي عربي

إذا كانت المنطقة العربية تزخر بالتنوّع الثقافي بمختلف أشكاله ومضامينه، سواء كان تنوّعاًً دينياً أو إثنياً أو سلالياً أو لغوياً، فإن هذا التنوّع كان مصدر قوة وثراء وإبداع لا حدود لهما في الماضي، أمّا اليوم فإنه أصبح مصدر قلق ونزاعات وحروب، لا سيّما بصعود موجات التعصّب والتطرّف، التي نجم عنها عنف وإرهاب لا مثيل لهما.

وقد كان «التنوّع والمشاركة والتسامح» عنوان لقاء فكري وثقافي وحقوقي التأم في «البرلمان اللبناني» في بيروت، بمشاركة أربع جهات فاعلة: أولاها - «الاتحاد البرلماني العربي»، الذي سبق له أن قرّر في مؤتمره الثالث والعشرين المنعقد في القاهرة (10-11 أبريل/ نيسان 2016)، «ضرورة الوقوف بوجه التطرف وانعدام التسامح والتشجيع على ثقافة السلام والحوار».

وثانيتها - «مركز الديمقراطية وبناء السلام» الذي يتّخذ من إيرلندا الشمالية مقرّاً له ويترأسه اللورد الدردايس بصفته رئيساً لحزب التحالف في إيرلندا الشمالية، والذي قاد المفاوضات التي أدّت إلى التوصل إلى اتفاق «الجمعة العظيمة» الشهير العام 1998، وهو طبيب نفسي استشاري في بلفاست.

وثالثتها - «مؤسسة ويستمنستر حول الديمقراطية»، التي لها تجربة غنيّة في نشر الوعي بثقافة الديمقراطية.

ورابعتها - «الشبكة العربية للتسامح» التي تضم شخصيات عربية وازنة، ونظّمت على مدى أكثر من ثماني سنوات فعاليات وأنشطة متميّزة لنشر ثقافة التسامح واللاّعنف.

وإذا كان التنوّع لا يعني الاختلاف والتمايز بأنواعهما فحسب، بل إنه يشمل الإقرار بحق المغايرة، وهذا هو الأهم، إضافة إلى اعترافه بمبادئ المساواة والمواطنة والحقوق الإنسانية المتساوية. أما المشاركة، فتعني الإقرار بحق الاختلاف، أي أن الآخر هو إنسان يشترك في الإنسانية والحقوق مع غيره، لذلك لا ينبغي التمييز أو الإقصاء أو التهميش ضده، لأي سبب كان، سواء كان دينياً أو إثنياً أو لغوياً أو سلالياً أو بسبب اللون أو الجنس أو الأصل الاجتماعي أو غير ذلك. في حين أن إقرار مبادئ التسامح، هو اعتراف مسبق بوجود الاختلاف، وأن لا أحد يمتلك الحقيقة كاملة، وذلك وجه آخر للمساواة والتمسّك بالحقوق وقبول الآخر.

ويواجه التنوّع في العالم العربي اليوم تحدّيات كثيرة ومتنوّعة، فوجهه الأول إيجابي، والمقصود به التنوّع في إطار الوحدة، والآخر سلبي، وهو الانغلاق والتعصّب والميل إلى التباعد والعزلة، ويعود ذلك في أحد أسبابه إلى الاضطهاد والعزل الذي تعرّضت له مجاميع ثقافية، دينية أو قومية أو لغوية أو غيرها.

وهكذا يكون التنوّع مع الوحدة في مواجهة للتذرّر مع الانعزالية، مثلما تكون الشمولية والوحدة مع الحفاظ على الخصوصية، مواجهة الانقسامية وضيق الأفق، ذلك أن عدم إقرار التنوّع والتنكّر لأسس المشاركة وازدراء التسامح، سيؤدي إلى تهديد الوحدة مثلما يشجّع على الانغلاق، بإضعاف العناصر الجامعة لهويّة المجتمع وللمشترك الإنساني، وقد يقود ذلك إلى نزاعات وحروب تعود بالسلب على الجميع، مثلما تسهّل على القوى الخارجية استغلالها والتدخل بشئونها تحت عناوين مختلفة.

وحسب توماس هوبز يمكن للحرب الأهلية أن تتحوّل إلى نوع من التدمير الذاتي، لأن العنف لا يدمّر الآخر فحسب، بل يدمّر الذات، وإذا ما استفحل فإنه سيقوّض مقومات التنمية ويسهم في زعزعة السلام والأمن، ويكون بيئة خصبة لانتشار الجريمة والفساد المالي والإداري وكل ما يتعلّق بخرق حكم القانون وتعطيل الحياة المدنية والسلمية الطبيعية.

ولو عدنا إلى معرفة الكثير من أسباب الحروب والنزاعات الأهلية، لوجدنا أنها تكمن بالدرجة الأساسية بعدم الإقرار بالتنوّع الثقافي، والتنكّر لمبدأ الشراكة والمشاركة وعدم الاعتراف بمبادئ التسامح، وحسب الفيلسوف الفرنسي فولتير، إن البشر خطّاؤون، لذلك علينا أن نسامح بعضنا بعضاً، وعلينا القبول بمسافة منتصف الطريق، لأن التعصّب لن ينتج إلاّ منافقين وعصاة.

لقد قادت نزعة ادعاء الأفضليات أو الزعم بالتفوق أو احتكار الحقيقة أو غير ذلك من المبررات إلى التسلّط والهيّمنة وعدم قبول الحق في الاختلاف، وبالتالي عدم قبول الآخر، وأدّت هذه إلى انهيار العلاقات الإنسانية، سواء باسم الدين أو القومية أو المذهبية أو الآيديولوجية أو الجنس أو اللون أو اللغة أو الأصل الاجتماعي، في حين أن البشر يُخلقون متساويين، ولا سيّما في الكرامة الإنسانية.

لقد بيّنت الكثير من التجارب العالمية لبناء السلام ومنها تجربة إيرلندا الشمالية الغنيّة جداً، أن الحوار وسيلة فعالة وناجعة للوصول إلى السلام، حيث استمرت المفاوضات أكثر من 30 عاماً، حتى تم التوصل إلى الاتفاق بإنهاء النزاع المسلح، كما تعكس تجربة الحوار الكولومبي المضنية درساً مهمّاً على هذا الصعيد، فقد دام الحوار أربع سنوات حتى تم التوصل إلى وقف الحرب الأهلية التي استمرت 52 عاماً، لذلك استحق عليها الرئيس الكولومبي خوان مانويل سانتوس، جائزة نوبل، وكان النزاع المسلح قد أودى بحياة ما يزيد عن 220 ألف مواطن، وهدر طاقات البلاد وإمكاناتها، وتعطيل التنمية وتخريب البيئة.

لعلّ دراسة تجربة أميركا اللاتينية وجنوب إفريقيا وتجارب أوروبا الشرقية، بخصوص الانتقال الديمقراطي والعدالة الانتقالية، ستكون مفيدة للكثير من البلدان العربية التي تواجهها مثل هذه المشاكل، والهدف هو الاستفادة من هذه التجارب، مع أن لكل بلد خصوصياته، فتجربة المغرب للعدالة الانتقالية تختلف عن تجربة تونس، مثلما تختلف تجربتي بولونيا وهنغاريا عن تجربة ألمانيا الديمقراطية، وهكذا.

إن إقرار التنوّع يحتاج إلى توافق مجتمعي، سياسي أولاً وقبل كل شيء، ثم توافق دستوري وقانوني، إضافة إلى توافق قيمي، عبر المؤسسات التعليمية والتربوية والدينية وغيرها، وهو ما يوفر الأرضية المشتركة والمتوازنة لمبادئ الشراكة التي تحمل في ثناياها قيم التسامح والاعتراف بالآخر، وهو أمر يتطلّب إدماج الشباب فيه على نحو كبير، إضافة إلى تعميم فكرة التربية على الحوار وقبول الاختلاف والتنوّع، وكل ما له علاقة بالمصالحة مع الذات، قبل المصالحة مع الآخر، لأنها ستكون الجسر المؤدي للتفاهم مع الغير والمختلف.

لا أظن أن مثل هذه القضايا يمكن الحصول عليها من خلال الكتب والقراءة وحدهما، بل يحتاج المرء إلى التجربة العملية التي تفترض التعايش المشترك، إضافة إلى الحوار الهادف، ولذلك كان أحد قرارات الملتقى، هي التحضير لمؤتمر يشارك فيه برلمانيون وأكاديميون وتربويون ورجال دين ومؤسسات مجتمع مدني وفاعلون سياسيون، للبحث في قضايا التنوّع الثقافي، القومي والديني.

إقرأ أيضا لـ "عبدالحسين شعبان"

العدد 5259 - الأحد 29 يناير 2017م الموافق 01 جمادى الأولى 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً