العدد 5265 - السبت 04 فبراير 2017م الموافق 07 جمادى الأولى 1438هـ

خفض قيمة العملة... «نعمة» أحياناً

أحمد صباح السلوم

رئيس جمعية البحرين لتنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة

تخفيض قيمة العملة هو خفض سعر الصرف الرسمي لهذه العملة مقابل عملة دولية مرجعية (الدولار الأميركي أو اليورو مثلا)، بحيث يقل عدد الوحدات من العملة الأجنبية التي يمكن الحصول عليها مقابل وحدة واحدة من العملة الوطنية.

وهناك فرق بين تخفيض قيمة العملة (Devaluation) حينما يكون سعر الصرف خاضعا للإدارة المباشرة للدولة، التي تحدد هذا السعر عبر قرار حكومي.

أما عندما يكون سعر الصرف خاضعا لقوى العرض والطلب (تعويم العملة) ويحصل تراجع في قيمة هذه العملة، فالأولى هو الحديث عن انخفاض قيمة العملة (Depreciation)، بمعنى أن التخفيض هو فعل إرادي من الدولة، أما الانخفاض فهو نتيجة تلقائية للتفاعل الحر بين العرض والطلب في سوق النقد الأجنبي دون تدخل مباشر من الدولة.

هذا في الغالب هو التعريف الأكاديمي أو المصرفي لانخفاض العملة، والفرق بين تعمد ‏خفضها من عدمه.‏

لكن في الواقع ما يهمني هو تأثيرات خفض العملة على الدورة الاقتصادية والتصدير على وجه الخصوص. تصرفات الرئيس الأميركي المنتخب حديثا دونالد ترامب الأخيرة تؤكد سعيه لخفض قيمة الدولار نسبيا أمام العملات الأخرى؛ بهدف دعم التصدير والصادرات الأميركية في مواجهة البضائع الصينية أولا والأوروبية ثانيا المكتسحة السوق الأميركي نفسه وبالطبع السوق العالمي، وهذا بالطبع جزء من وعوده الانتخابية «المتطرفة» للناخب الأميركي، والذي انصب معظمها في الجانب الاقتصادي الذي يجيده ترامب كرجل أعمال، وبصرف النظر عن مدى صلاحية هذه الأفكار للتطبيق أو الموافقة من قبل القوى المسيطرة على القرار الأميركي وأهمها الكونغرس، إلا أنني أرى أن الرجل سيمضي قدما وبإصرار في محاولات تنفيذ وعوده الانتخابية ولو رفضت برمتها.

الجميع على دراية حاليا بأن الصين التي تعمل جاهدة على بقاء قيمة عملاتها منخفضة ليس من فراغ، ولكن لدواع اقتصادية بحتة يأتي في مقدمتها دعم بضائعها في أسواق العالم المختلفة، والحفاظ على أسعارها التنافسية في مواجهة البضائع الأخرى.

وكم من المرات التي حاولت فيها الإدارة الأميركية سواء بقيادة أوباما أو من قبله من رؤساء إثناء الصين عن سياسات خفض العملة، لكن الصين نجحت في تثبيت سياستها والمضي قدما في أهدافها.

ربما التعمد الصيني، لم يكن مثل «عدم التعمد» التركي أو المصري، ولكن في كلا الحالتين كانت النتيجة الواحدة، المسافرون إلى تركيا والمتعاملون معها يؤكدون خلال العامين الأخيرين أن البضائع التركية في ظل انخفاض العملة باتت أكثر تنافسية في الأسواق، وحققت مبيعات مرتفعة للغاية؛ بسبب جودتها وانخفاض سعرها مقارنة حتى بسعرها السابق.

الوضع في مصر على رغم أبعاده السلبية التي باتت ملموسة وخاصة من أشقائنا المصريين، إلا أن الميزة الأكيدة التي قد تبدو واضحة للجميع هي قدرات المنتجات المصرية حاليا على إيجاد أسواق أكبر بأسعار أكثر من تنافسية، وحركة الصادرات التجارية في الشهرين الأخيرين من مصر مبهرة بحسب معلوماتي، وللتوضيح فسعر كيلو الجبن الذي يقدر سعره بنحو 50 جنيها كان قبل شهور يساوي دينارين ونصف، أما الآن فهو يساوي دينارا واحدا فقط. وهذه بالطبع ميزة كبيرة للمستورد وللمصدر المصري الذي سيرتفع الطلب على بضائعه، وبالمناسبة من الطبيعي أن كافة المنتجات المصرية والتركية ايضا أسعارها تقل في السوق البحريني.

نفس الأمر ينطبق على أسعار العقارات في كلا البلدين بالنسبة للأجانب، وبكل تأكيد باتت أقل بالنسبة للمتعاملين بالدولار أو الدينار أو اليورو حتى ولو كان سعرها ثابتا بالعملة المحلية في بلادها، وقناصو الفرص سيجدون الكثير من الأهداف الرابحة والصيد المغري في هذه البلدان.

نموذج آخر هو بريطانيا... والانخفاض هنا كان رد فعل لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عقب الاستفتاء الشهير العام الماضي، وعندما انخفضت العملة باتت أسعار السلع البريطانية أرخص مقابل الدينار أو الدولار، وباتت العقارات البريطانية أكثر جاذبية للمستثمرين الأجانب، ولو هناك إحصاءات عن حجم التعاملات الخليجية والأوروبية في سوق العقار البريطاني خلال الشهور الست الأخيرة اعتقد أن الأرقام ستكون مذهلة للجميع.

وأحيانا تلجأ الدول إلى قرار تخفيض قيمة عملاتها الوطنية بشكل أساسي من أجل إعادة التوازن إلى موازينها التجارية التي تعرف عجزا مهما وبنيويا، أو على الأقل للتخفيف من حجم هذا العجز... تخفيض قيمة العملة الوطنية يؤدي إلى جعل أسعار السلع المستوردة أغلى بالنسبة للمقيمين، مما يُفترض أنه سيحد من شراء هذه السلع ويشجع الإقبال على المنتجات الوطنية.

وإذا حصل ذلك، فنتيجته الطبيعية هي تراجع حجم الواردات ونقص فاتورتها بالعملات الأجنبية (وليس بالضرورة نقصا لفاتورة الواردات مقومة بالعملة الوطنية، لأن أثر انخفاض قيمة العملة يمكن أن يكون أكبر من أثر تراجع حجم الواردات).

وبالمقابل، تصبح أسعار السلع المصنعة محليا أرخص بالنسبة للأجانب، مما يُفترض أنه سيعزز القدرة التنافسية للمنتجات الوطنية، ويرفع بالتالي من حجم الصادرات إلى الخارج... وإذا تراجعت الواردات وتضاعفت الصادرات بما يكفي، فإن ذلك يعيد الميزان التجاري إلى حالة التوازن.

وقد تلجأ بعض البلدان لقرار تخفيض قيمة عملتها بهدف تحفيز الإنتاج الوطني من أجل الرفع من نسبة النمو الاقتصادي، والحد من البطالة من خلال التوظيف وتوفير مناصب الشغل الجديدة المواكبة لزيادة الإنتاج.

لكن الأمر بالطبع ليس إيجابيا فقط، فأحيانا أخرى بدلا من أن يؤدي تخفيض قيمة العملة إلى تحفيز الإنتاج الداخلي ونمو الاقتصاد الوطني، يمكن لهذا الإجراء أن تكون له تأثيرات عكسية وسلبية تهوي بالاقتصاد إلى الانكماش، بسبب التضخم الجامح الذي قد ينتج عن ارتفاع أسعار المواد الأولية (مصادر الطاقة كالنفط والغاز مثلا) وكافة العناصر الداخلة في عملية الإنتاج.

وعلة ذلك أن ارتفاع أسعار هذه المدخلات ينعكس بشكل آلي على السعر النهائي للسلعة، مما ينعكس سلبا على الطلب فينكمش. وهذا يؤدي إلى تراجع المبيعات، ثم الإنتاج، فيقل الاستثمار ويدخل الاقتصاد في دورة انكماش.

وتشهد تجربة بعض البلدان النامية مثل المكسيك والأرجنتين على ذلك، فقد كان تخفيض قيمة العملة بهذين البلدين مصاحبا في أغلب الأحيان بتصاعد التضخم وتراجع الإنتاج.

خلاصة القول... ليس بالضرورة أن يكون انخفاض العملة عاملا سلبيا، بل في أحيان كثيرة يكون «نعمة» على الاقتصاد الوطني.. ولكن آثار تخفيض قيمة العملة تبقى عمليا وعلى العموم رهينة بطبيعة كل اقتصاد على حدة، وتخصصاته الإنتاجية، ومستوى انفتاحه واندماجه في التجارة الدولية، وتركيبة تجارته الخارجية... فالدواء الذي يناسب مريضا قد لا يناسب آخر بالمرة.

إقرأ أيضا لـ "أحمد صباح السلوم"

العدد 5265 - السبت 04 فبراير 2017م الموافق 07 جمادى الأولى 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 8 | 6:00 ص

      أحسنت ولد سلوم، معلومات مهمة ورائعة ونتمنى الأخذ بها في عين الاعتبار

    • زائر 6 | 4:37 ص

      مقال متوازن جدا وعرفنا بعض المعلومات المهمة ... والكاتب لم يقل أن خفض العملة في البحرين أمر ايجابي بل هو مرتبط بطبيعة اقتصاد كل دولة وخصوصياته

    • زائر 5 | 3:41 ص

      مقال رائع..

    • زائر 4 | 1:06 ص

      امريكا لا تستطيع ان تخفض عملتها بالساهل لعدة اسباب ، اولا لان دول كثيرة و منها دول الخليج ربطت عملاتها بالدولار الامريكي يعني اي تغير في سعر الصرف الامريكي راح ياثر على هذي الدول. ثانيا وهو المهم ان السبب الرئيسي لتخفيض العملة هو زيادة التنافسية مع الصين و المشكلة ان الصين تستخدم سلة عملات حيث يمثل الدولار على الاقل 75%. ثالثا الدولار له علاقة وطيدة بسعر النفط وليس من السهل تدخل البنك المركزي لتغيير سعر الصرف

    • زائر 3 | 12:51 ص

      الكاتب العزيز...فاتك شيء بسيط...الدول تلجأ إلى خفض العملة اذا كانت تواجه مشكلة في تصدير ماتصنعه....لا ينطبق الكلام على الدول العربية ومنها البحرين ألتي لا تصنع أي شي....بالعكس خفض العملة في هذه الدول سيكون كارثة لأنه سيرفع أسعار السلع المستوردة (تقريبا سعر كل شيء) ويفاقم التضخم...

    • زائر 2 | 10:59 م

      الا البحرين
      الاسعار في العلالي سواء منتجات او عقارات صموود ماشاءالله

    • زائر 1 | 10:45 م

      هدا للدول الصناعيه والمنتجه مو اللي تستورد اسلحه و بشر و و الهدف البقاء فقط

اقرأ ايضاً