العدد 5273 - الأحد 12 فبراير 2017م الموافق 15 جمادى الأولى 1438هـ

في الحاجة إلى فلسفة ما جرى ويجري في المنطقة العربية

يوسف مكي (كاتب بحريني) comments [at] alwasatnews.com

كاتب وباحث بحريني

في معمعات الحوادث والثورات والانقلابات التي تشهدها المنطقة العربية منذ 2011 وحتى الآن، بات من المؤكد أن الممارسة السياسية، وبالتالي المقاربة السياسية في معالجة وتحليل تلك الحوادث والوقائع هي الأبرز من بين المقاربات الأخرى.

وفي مثل هذه الحال يصبح الخطاب السياسي والإيديولوجي الدوغماتي هو الطاغي، مشفوعاً بالممارسات الأمنية من قبل الحكومات على اختلافها في اتجاه معاكس للحوادث ولسنن التغيير والتاريخ.

ولا شك أن الخطاب السياسي مُهمٌّ جدًّا في كيفية التعامل مع تلك الحوادث الكبرى، من قبيل ما بات يطلق عليها بثورات الربيع العربي، وما نتج عنها - يتساوى في ذلك الأنظمة والمعارضات - أما أهمية الخطاب السياسي فتتجلى في أن هذا الخطاب إما أن يساهم في إيجاد الحلول السياسية المناسبة لتلك الحوادث، وخاصة إذا ما اتخذ طابعا رشيدا وعقلانيا، وهذا النوع من الخطاب السياسي غائب تماما، أو أن يكون عائقا في إيجاد الحلول السياسية المناسبة، لا بل يساهم في تعقيد الأمور واستمراريتها، وإثارة النعرات بين المكونات الاجتماعية من كل لون وصنف، ودون وجود أفق للخروج بحلول سياسية جامعة تدشن الأرضية المناسبة لبناء الدولة المتوافق عليها، والاتفاق على مبادئ التداول السلمي للسلطة وحيادية الدولة تجاه مواطنيها، وهو الخطاب السياسي السائد.

قلنا إن الخطاب السياسي مهمٌّ في كل الأحوال. لكنه ليس كافياً بذاته، ولا يغني لوحده عن مقاربات أخرى من قبيل المقاربة الفلسفية، وهذه من مهمات رجال الفكر والفلسفة والثقافة عموماً.

ويمكن القول إن الخطاب السياسي وبعد مرور أكثر من ست سنوات على الربيع العربي الذي تداخلت فيه الفصول، أثبت فشله الذريع مما يعني الحاجة الماسة إلى مقاربة عقلانية فلسفية، لا بل يعتبر ذلك الفشل سبباً كافياً لإعمال التفكير الفلسفي/ الفكري لتحليل ما جرى ويجري في هذه المنطقة من العالم، والبحث عن الخلفيات والأسباب والمآلات لما يجري من حراك. وإذْ نؤكد أهمية المقاربة الفلسفية للربيع العربي، فإنما لكون التفكير الفلسفي ينظر إلى الأمور من منظور آخر يتسم بالعقلانية والبرود، وبعيداً عن سخونة الواقع وحوادثه ودهاليز السياسة ومتاهاتها.

فالتفكير الفلسفي بحكم طبيعته العقلانية ومنهجيته الصارمة يتعامل مع الحوادث بحيث يضع بينه وبينها مسافة معينة، يستطيع من خلالها رؤية تلك الحوادث على البارد، وليس على الساخن، كما هو الأمر بالنسبة إلى رجل السياسة، حيث إنه طرف فاعل في الحوادث نفسها، ومنفعل بها كذلك.

ووفقاً لهذه الرؤية وإلى الآن، فإن ما حدث في المنطقة العربية لم يحظَ بذلك الاهتمام الفلسفي المطلوب. بمعنى آخر لم تتم مقاربة أسئلة جوهرية من مثل: لماذا حدث ما حدث؟، لماذا هب الشعب العربي من المحيط إلى الخليج باتجاه التغيير الشامل وفي لحظة تاريخية فارقة؟. لماذا أفرغت التحركات الشعبية من المحيط إلى الخليج من محتواها؟ أو لماذا هذا العنف المنفلت من عقاله الذي ووجهت به تلك التحركات والذي يفوق الخيال؟ وأيضاً لماذا هذا العنف المهول والمنفلت من عقاله ممن يحسبون أنفسهم على الثورة، ومن دعاة التغيير؟ وأخيراً لماذا يتم اختطاف تلك الحركات الشعبية من قبل الاسلام السياسي في أكثر تجلياته تطرفًا وظلامية، كما في داعش والقاعدة وأخواتهما؟

أسئلة يمكن الاجابة عليها بمنظور السياسة أو الاقتصاد، لكنها بحاجة إلى مقاربة أخرى غير السياسة. إنها المقاربة الفلسفية. وعليه فإن الفكر الفلسفي العربي مطالب اليوم أكثر مما مضى بأن يجيب على الأسباب الحقيقية لما جرى وما يجري.

وإذْ نعول على أن المخرج لما يعيشه العرب من انسداد الأفق السياسي يكمن في السياسة، أي ضرورة وجود مخرج سياسي في التحليل الأخير، بحيث يجلس الفاعلون السياسيون للحوار بشأن مخارج؛ لكي يتم تجنب التدمير المتبادل، فإننا ايضا نتساءل: لماذا تؤخر السياسة حصول الاستحقاقات التاريخية على صعيد بناء الدولة والسلطة والتداول السلمي لها. والتي خرج الشعب العربي من أجلها؟

إن هذا التلاعب بالسياسة والاستعصاء على إيجاد مخارج سليمة وأقل كلفة بتقديرنا يحتاج إلى مقاربة فلسفية، وخاصة بعد مرور هذه المدة، وما يظهره الواقع العربي من مؤشرات على أنه عصي على التغيير السياسي والانتقالات السلمية من حال أسوأ إلى حال أفضل. كلها عوامل بحاجة إلى أن نعيد النظر في المقاربة السياسية من أجل مقاربة فلسفية جادة.

إنَّ الوضع العربي بحاجة إلى التعرف على ما هو خاص وراكد في بنية الاجتماع العربي، ومن شأنه أن يمنع التغيير المطلوب من جهة، وما هو عام يتوافق مع المجتمعات الأخرى وقابل للتغيير من جهة أخرى.

كل تلك الأسئلة هي جوهرية وعامة، منها ما يتعلق بطبيعة بنية الدولة العربية العميقة والسلطة في هذه البلاد، ومنها ما يتعلق ببنية الثقافة والمجتمع بشكل عام، وهي ثقافة ذات طابع استبدادي، وسلطوي متوارث وعميق.

من المؤكد أننا نحتاج إلى السياسة من أجل الخروج من عنق الزجاجة مرحليًّا، لكننا نحتاج في الوقت ذاته إلى مقاربة فلسفية أكثر شمولاً تتناول الثابت والمتحول في بناء الدولة والمجتمع العربيين، إلى مقاربة لحوادث كبرى واستحقاقات تاريخية مجهضة لا تفيد فيها سوى المقاربة الفلسفية العامة التي تأخذ ما حدث بكل أبعاده، وعادة ما تكون الفلسفة هي المنظور الأهم والأنسب في تحليل وتفسير ثم التنظير إلى الحوادث والقضايا المصيرية.

وهنا بالضبط يأتي دور العقول الإنسانية الكبيرة في تحديد الاتجاه السليم للخروج من التيه السياسي الذي تعيشه الشعوب العربية منذ أكثر من ست سنوات.

إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"

العدد 5273 - الأحد 12 فبراير 2017م الموافق 15 جمادى الأولى 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً