العدد 5277 - الخميس 16 فبراير 2017م الموافق 19 جمادى الأولى 1438هـ

بل هناك حاجة ملحة للأيديولوجيات

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

منذ أن بدأت الأطروحات السياسية القومية العربية والإسلامية العربية بالتراجع، وأحياناً بالفشل الذريع، وذلك بسبب أخطاء وعدم كفاءة المنادين بها في بعض الأحيان، أو بسبب عدم تهيئة وإنضاج الظروف المطلوبة لإنجاحها، انبرت أفواه وأقلام حاملي رايات الإحباط واليأس والفذلكات الفكرية بطرح المقولة التالية: انتهى عصر الايديولوجيات.

ولكن، هل حقاً أن الحاجة لطرح الايديولوجيات في المجتمعات العربية لم تعد له مبرراته الذاتية؟ الجواب هو العكس تماماً.

دعنا أولاً نستحضر مكونات الايديولوجية الثلاث: إجراء تحليل ونقد موضوعي علمي للمجتمع، ووضع أهداف عليا وتصورات شاملة لما يجب أن يكون عليه ذلك المجتمع في المستقبل، وتحديد الأدوات والوسائل اللازمة للقيام بالمهمتين السابقتين. وتهدف تلك المكونات للايديولوجية إجراء تغييرات وتحولات اجتماعية وسياسية كبرى في المجتمع من خلال استعمال العقل والمنطق والاستعانة بمنجزات العلوم والثقة الكاملة في قدرة الإنسان على تغيير محيطه، وتحسين مستوى معيشته، وتصحيح مسارات حياته.

دعنا نستذكر ثانياً أن الايديولوجيات الشهيرة في الغرب الأوروبي، من مثل الليبرالية والاشتراكية والمحافظة، قد كانت حصيلة دخول الغرب في حداثته. فأفكار الحداثة، من مثل الحرية والمساواة والمواطنة والتقدم وحقوق الإنسان، كانت بحاجة لتنظيمها وإدماجها في مشروعات سياسية واجتماعية كبرى شاملة. من هنا ولد مفهوم الايديولوجية.

والأمر نفسه ينطبق على بلاد وأمة العرب: فإذا كنا نتحدث عن بناء حداثتنا الذاتية، المستفيدة بالطبع من حداثات الآخرين ولكن الآخذة بعين الاعتبار لخصوصيتنا، فهل ندخل حداثتنا بمشاريع سياسية اجتماعية صغيرة ومجزأة وغير مترابطة ومتعاضدة، أم ندخلها بأفكار ايديولوجية كبرى، الناقدة للمجتمع والمحددة للأهداف والبانية للأدوات والوسائل في آن واحد؟

نحن هنا تتحدث عن ايديولوجيات متعايشة ومتفاعلة مع بعضها البعض في أجواء من الحرية والديمقراطية والتنافسية الشريفة، وليس عن ايديولوجيات متزمتة واستئصالية للآخر وفارضة نفسها بالقوة والبطش كما شاهدها العالم الغربي طيلة القرن الماضي وكما شاهدناها نحن العرب منذ الاستقلال.

دعنا نستذكر ثالثاً أن الشكوك التي تحيط بجدوى ايديولوجيات في المجتمعات الغربية هي حصيلة للأزمات الكثيرة التي حلًّت بالحداثة الغربية من مثل الحروب العالمية الكبرى وممارسة الاستعمار وتفسخ الديمقراطية وممارسة الرأسمالية المتوحشة الظالمة وغيرها كثير.

أما بالنسبة لأمة ووطن العرب فالأمر يختلف. فنحن أمة مجزأة، مسلوبة الإرادة السياسية، منهوبة الثروات، لم تخرج بعد من صراعات الولاءات الطائفية والقبلية والعرقية البدائية، ولم تصل بعد إلى شواطئ الأمان في أوضاعها السياسية والاقتصادية. وعليه فإن حاجتها لتصورات سياسية واجتماعية شاملة ومترابطة هي حاجة ملحة، وذلك من أجل أن تواجه أهوال مشاكلها بايديولوجيات نقدية وعقلانية متكاملة وبالشروط التي ذكرناها.

نحن على علم بالأطروحات السياسية والاجتماعية، التي طرحها مفكرون غربيون من أمثال فوكو الفرنسي، والقائلة بأفضلية تبني المشاريع السياسية والاجتماعية الهادفة لحل إشكاليات محددة وخاصة بفئة من المواطنين، من مثل مساواة المرأة في الأجور أو معالجة موضوع الأقليات أو تحديث هذا الحقل أو ذاك، وذلك بسبب الويلات التي واجهتها المجتمعات الغربية من جراء الايديولوجيات الشمولية العنيفة التي طرحت في الغرب. إنها أطروحات قد تصلح لمجتمعات تنعم باستقلالها الوطني ووحدتها الوطنية وبنظامها السياسي المستقر وباندماجها في مسيرة الحضارة الإنسانية.

لكن ذلك لا ينطبق على مجتمعاتنا العربية التي تصارع من أجل الخروج من تخلُفها التاريخي، ومن أجل وحدة أوطانها واستقلالها الوطني ومن أجل الانتقال إلى نظام سياسي ديمقراطي معقول ونظام اقتصادي انتاجي غير ريعي.

والواقع أن هناك أصواتاً قوية وكثيرة في الغرب تعتقد أن أخطاء الماضي يجب أن تؤدُي إلى تصحيح أخطاء الايديولوجيات السابقة وليس إلى رفض أهمية تواجد الايديولوجيات في مجتمعاتهم. إن هؤلاء لا يتصورون غياب الايديولوجية الليبرالية أو الاشتراكية أو المحافظة، وإنما ينادون بتعديل بعض ممارساتها الخاطئة.

في بلاد العرب، ونحن نعيش جحيم الحاضر المليء بالأخطار الكبرى التي ليس لها مثيل في تاريخنا كله، نحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى طرح الايديولوجيات، سواء الرافعة لألوية القومية أو الليبرالية أو الاشتراكية أو الإسلامية.

من حق البعض أن يطالبوا بتصحيح بعض جوانب أطروحات وممارسات الماضي، فهذا واجب وضرورة، ولكن ستكون كارثة لو اقتصرت الحياة السياسية والاجتماعية العربية على الانشغال بحل مسائل جزئية متناثرة بدلاً من محاولة النضال السلمي الديمقراطي المستمر لإجراء تحولات وتغييرات كبرى في حياة الإنسان العربي.

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 5277 - الخميس 16 فبراير 2017م الموافق 19 جمادى الأولى 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 8:13 ص

      اكبر مشاكلنا هي بسبب تيار الاسلام السياسي و بسبب تدخل رجال الدين في السياسة يجب ابعاد رجال الدين السنه و الشيعه عن السياسة

    • زائر 6 | 2:57 ص

      الآيديولوجيات والفلسفات والأفكار والعقائد الوضعية 3
      وإلا فكل فكر صواب وكل فكر خطأ. و لا يريد صناع الآيديولوجيات والفلسفات والأفكار وضع معيار لها ؛ ليبقى كل فكر مقبولا و كل فلسفة إنجازاًبشرياً! وليبقى سوق الآيديولوجيات والفلسفات والأفكار مزدهراً و معينه فائضاً لا ينصب !

    • زائر 5 | 2:56 ص

      الآيديولوجيات والفلسفات والأفكار والعقائد الوضعية 2
      فهل على البشرية أن تنتظر خمسين قرنا آخر لتعرف أنَّ الحاجة للأيديولوجيات فعلاً ملحة؟
      فهل عليها أن تبقى في صراع آيديولوجي قد يتسبب بصراع عسكري لتخرج بالفكر الآيدلوجي الأمثل؟
      الآيديولوجيات والفلسفات والأفكار والعقائد الوضعية ظلت وستبقى جعجعة طحناً في الهواء ؛ إلى أن تتفق البشرية على معيار لهذه الآيديولوجيات والفلسفات والأفكار لمعرفة الصحيح والسقيم.

    • زائر 4 | 2:55 ص

      الآيديولوجيات والفلسفات والأفكار والعقائد الوضعية 1
      اللآيديولوجيات هي الصوت المعبر عن ضياع الحقوق و تحقيق العدل والمساواة. فلا تظهر اللآيديولوجيات إلا في حالة إنعدام الحقوق وغياب العدل ، حقق العدل واعط الناس حقوقهم ؛ تنعدم الحاجة للأيديولوجيات. و أي آيديولوجية.
      أما اللآيديولوجيات التي تحاول الإجابة عن مخاوف الإنسان و تفسير وجوده والغاية منه ، و معرفة القانون الأمثل لرقي البشرية و منع العداوة والحروب بينها ، فضياع وقت و حسرة وندامة. و التاريخ و الواقع المعاش هما الشاهد.

    • زائر 3 | 2:54 ص

      ظاهره تستحق البحث والدراسة من قبل المثقفين والمفكرين مثل د.علي فخرو وغيره إلا وهي لماذا تتراجع الايديولجيات اليسارية سواء القومية او الليبرالية او الاشتراكية بينما تتسيد الايديولجيات ذات الطرح الديني الإسلامي المتطرف في الوطن العربي؟

    • زائر 2 | 11:57 م

      كل العالم سيتقدّم وسيتطوّر وسينمو الا العالم العربي طالما تسيطر عليه ........... البرجوازية الانتهازية الديكتاتورية والتي تقتل الفكر قبل ان يتبلور والمفكّرين قبل ان يولدوا ستظل الأمّة قابعة في تخلّفها فجزء كبير من الشعوب لا زالت تحارب من اجل البقاء في بوتقة عبوديتها

    • زائر 1 | 10:41 م

      يجب تغيير الإيديولوجيات العربية والاسلامية

اقرأ ايضاً