العدد 5285 - الجمعة 24 فبراير 2017م الموافق 27 جمادى الأولى 1438هـ

بعد 107 أعوام على الوفاة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

وَصَفَ الراحل محمد حسنين هيكل عائلة الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة والدبلوماسي المصري بطرس بطرس غالي بوصفٍ لم أستسغه. قال هيكل عن غالي وعائلته إنه: «مسيحي في بلدٍ مسلم، وهو من عائلة اشتهرت بالخيانة في تاريخ مصر. ثم هو متزوّج من يهودية». وقد ذكر هذه العبارة في كتابيْن من كتبه على الأقل، أحدها: خريف الغضب، والثاني: كلام في السياسة.

وعلى رغم أن بطرس بطرس غالي لم يُعاتِب محمد حسنين هيكل على ذكره ذلك الوصف في حقه وحق عائلته، بل اعتبر أن ما ذكره هيكل هو «حقائق موضوعية» إلاّ أن الكثيرين لا يميلون إلى تسجيل «العبارات الصادمة» في الحياة الخاصة بهذه الطريقة. في العموم هو أمر جرى بين شخصين هما أقرب مني إلى بعضهما حتماً بعد أن تزاملا طيلة 17 عاماً في الأهرام، وعاشا كأصدقاء مدة طويلة، ولم يعودا بيننا اليوم.

وقد ذكرتُ سابقاً أن الفارق بينهما في صورة الأقدار يكاد يتشابه بشكل كبير. فـبطرس بطرس غالي توفي في الـ 16 من شهر فبراير/ شباط سنة 2016م، ومحمد حسنين هيكل توفي الـ 17 من شهر فبراير سنة 2016م، أي أن الفارق بين رحيلهما هو يوم واحد لا أكثر. ثم في حساب العمر، مات غالي وعمره 93 عاماً، ومات هيكل وعمره 92 عاماً. أي أن الفارق بينهما هو عام واحد. وهو أمر لافت فعلاً.

في كل الأحوال اخترت اليوم أن أتناول شيئاً من حياة غالي الأب الذي صادف رحيله بداية هذا الشهر (فبراير/ شباط) كي ألتقط خيطاً لصورة النخب في تلك الفترة تجاه القضايا الاجتماعية والسياسية. فقبل قرن وسبع سنوات أي في العام 1910م قام شاب مصري يُدعَى إبراهيم الورداني بإطلاق النار على بطرس غالي (باشا) الذي كان حينها رئيساً لوزراء مصر. وقد كان لذلك الحدث أثر بالغ على الأوضاع الداخلية والتي كان حينها النفوذ الإنجليزي كبيراً جداً على القصر والحكومة.

إبراهيم الورداني لم يكن شخصاً عادياً أو أمّياً، بل هو أحد مُخرجات التعليم الصيدلي في سويسرا، والكيمياء من إنجلترا وكان عضواً بالحزب الوطني. لذلك، اعتُبِرَ كشخص نابِه ومُدرك لما فعله من ذنب. وربما قام بذلك الفعل طبقاً لتفكير سياسي كان يراه دون أن تكون وراءه أطراف قد استغلته من أجل تصفية بطرس غالي، الذي كان له عدد كبير من الخصوم في داخل مصر.

عندما تمّ استجواب الجاني لتسجيل دوافعه التي جعلته يرتكب جريمته قال: بأن مواقف بطرس غالي من الحركة الوطنية كانت سلبية. كما أنه وقّع سراً مع إنجلترا اتفاقية العام 1899م التي جعلت حكم السودان ثنائياً بين القاهرة ولندن. ثم زاد على ذلك اتهامه لبطرس غالي بأنه معني بالمحكمة التي قادت 92 مصرياً إلى الاتهام فيما عُرِفَ حينها بقضية دنشواي التي أدت إلى وفاة ضابط إنجليزي، فضلاً عن موقف غالي من قانون المطبوعات وامتيازات قناة السويس وغيرها.

وللعلم فإن حادثة دنشواي كانت من الحوادث التي أثرت بشكل كبير على سمعة بطرس غالي، فهي مسّت كرامة المواطن المصري، الذي رأى في تواجد مجموعة من الجنود الإنجليز وسط حيّ فقير وهم يرمون الرصاص كيفما اتفق بهدف الصّيد، وما أفضى إليه من قتل واشتعال النيران أمراً مهيناً لكرامة الإنسان المصري. وقد وصّف محمد رشيد رضا في تفسير المنار المحاكمة بشكل دقيق.

على كل حال، استثمر الإنجليز حادثة قتل غالي من قِبَل الورداني بطريقة تخدم أهدافهم. فأخذوا يُصوّرون الجريمة على أنها مزيج ما بين السياسي والدِّيني، وأن الجاني (الورداني) كانت لديه دوافع طائفية وراء ذلك العمل كونه مسلم وبطرس غالي مسيحي. وقد لاقى ذلك «التحريض» استجابة من البعض مع الأسف إلاّ أن الكثير من المصريين واجهوا ذلك التحريض بمزيد من العقل والحكمة، وكان من بينهم سياسيون وصحافيون وكتّاب وشعراء.

فقد أنشد علي الغاياتي (وهو أحد شعراء تلك الحقبة المرموقين، وأبرز مناضلي مصر) في ذلك شعراً جميلاً نقله أحمد هيكل في أحد كتبه قال فيه:

وما أمّة القرآن في مصر أمة ... ترى أمة الإنجيل أبغض جيلا

فإنّا وأنتم إخوة في بلادنا ... أقمنا على دين السلام طويلا

أما إسماعيل صبري فقال:

دين عيسى فيكم ودين أخيه ... أحمدٍ، يأمراننا بالإخاء

مصر أنتم ونحن، إلاّ إذا قا ... مت بتفريقنا دواعي الشقاء

وقال شاعر النيل حافظ إبراهيم:

قد ضمنا ألم الحياة وكلنا ... يشكو فنحن على السواء وأنتم

إنى ضمين المسلمين جميعهم ... أن يخلصوا لكم إذا أخلصتم

أما الصحافيون المسئولون والوطنيون الحقيقيون فقد كان لهم دور مماثل في إخماد الفتنة الطائفية في ذات الوقت الذي كان هناك من يعتاش على إشعالها. كان هؤلاء الوطنيون يرون أن الكلمة يمكن أن تكون قنبلة تُرمَى وسط تجمع شعبي، وقد تكون يداً دافئة تصافح الجميع.

والحقيقة أن قياس ذكاء الناس والمجتمعات عادة ما يكون في الأزمات. فحين تخدعهم آلة السياسة الموجهة يكونوا قد فشلوا في الاختبار، أما إذا ردّوها على أعقابها خاسئة وفهم مراميها التي تهدف إلى إبعاد الاهتمام عن مركز القضية الوطنية والانغماس في التوافه فهم في غاية النضج. والتاريخ والحاضر شاهد على ذلك النجاح أو الإخفاق.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5285 - الجمعة 24 فبراير 2017م الموافق 27 جمادى الأولى 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 1:32 ص

      مقال مفيد وخلاصه ممتازة للعبره، فهل يعتبر القائمون على هدا الجيل؟

    • زائر 1 | 11:12 م

      ان قياس ذكاء الناس والمجتمعات عادة ما يكون في الأزمات. فحين تخدعهم آلة السياسة الموجهة يكونوا قد فشلوا في الاختبار

اقرأ ايضاً