العدد 5297 - الأربعاء 08 مارس 2017م الموافق 09 جمادى الآخرة 1438هـ

اللغات والعلوم الحية والميتة عند اليابانيين

جاسم الموالي feedback [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

لو بحثت في القاموس عن تعريف اللغة الميتة لوجدت تعريفه بأنها هي «اللغة التي لا تستخدم الآن كلغة أولى»، ووفقاً لهذا التعريف فإن عدد اللغات الحية حالياً هو قرابة 600 لغة، بينما عدد اللغات التي ماتت هو قرابة 400 لغة. ويتوقع باحث أنه بعد ثمانين سنة من الآن ستموت كل اللغات ما عدا خمس عشرة لغة، من بينها العربية. ولا تحتاج حصافة لاكتشاف أن هذا الباحث عربي!

لكن المعنيين بالتخطيط الاستراتيجي في اليابان لهم رأي مخالف، فلقد قَسَّموا اللغات إلى لغات حية وأخرى ميتة. فاللغات الحية - من وجهة نظرهم - هي اللغات التي تُنشر من خلالها بحوث علمية تؤدي إلى براءات اختراع لِفِكَر، لإنتاج خدمات وسلع تطرح في الأسواق. فمن بين اللغات الحية عندهم تأتي اللغات الإنجليزية والألمانية والفرنسية والصينية والروسية والإسبانية والإيطالية وما شابهها من لغات تنشر بها بحوث مثمرة، وبالطبع فإن من بينها لغتهم اليابانية. ومن بين اللغات الميتة تأتي اللغة العربية، وغيرها من اللغات كثير.

لقد ظلت اللغة العربية لغة العلم العالمي لأكثر من عشرة قرون، إليها ترجمت المواريث الثقافية والحضارية السابقة، ولكنها اليوم ماتت - بحسب تصنيف الخبراء الاستراتيجيين اليابانيين - ويضيف البعض قوله: «إن كرامة الميت تعجيل دفنه».

وتسأل ألا تُدَرَّس هذه العلوم الميتة في اليابان؟ والجواب نعم ولكن بقدرٍ محدود. أما اللغات الحية فيتم التركيز عليها وتعليمها بكثرة.

وكذلك الحال بالنسبة للعلوم، فقد قسَّمها اليابانيون إلى علوم حية ينتفع بها، ومن بينها الطب والفيزياء والكيمياء والحاسوب والإلكترونيات والهندسة وغيرها كثير. أما العلوم الميتة بحسب تقسيمهم فهي العلوم التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تنتج بحوثاً تؤدي إلى إنتاج سلعٍ وخدمات تطرح في الأسواق.

ومن بين العلوم الميتة يأتي علم التأريخ والجغرافيا والفلسفة وعلم النفس والآثار والقانون وغيرها كثير. (مع احترامنا الشديد لمن هذه تخصصاتهم)، نعم علم القانون يُعد في اليابان من العلوم الميتة، وهناك مقابل كل تسعة طلبة يدرسون القانون في أميركا طالب واحد فقط يدرس القانون في اليابان، والقياس نسبة وتناسب يقضي بأن يوجد ثلاثة يَدرسون الحقوق في اليابان مقابل كل 9 يَدرسون القانون في أميركا. حيث إن عدد سكان الولايات المتحدة هو قرابة 325 مليون نسمة، بينما عدد سكان اليابان هو قرابة 125 مليون إنسان.

ويقول ستيفن كوفي في كتابه «البديل الثالث»: «في الولايات المتحدة وحدها - قبل خمس سنوات - يتقاضى 1.2 مليون محامٍ نحو 71 ‏مليار دولار سنوياً في مقابل خدماتهم، وهذا الرقم لا يتضمن الأحكام المالية التي يكسبونها في المحاكم».

فالعلوم الميتة في اليابان تُدَرَّس ولكن بنسبة قليلة جداً وبحسب حاجة المجتمع الياباني، ويتم التركيز على العلوم الحية والمنتجة. ولعل المواطن البحريني يتذكر مشكلة خريجات «الجغرافية التطبيقية» قبل بضع سنوات، وكيف تعاونت وزارة العمل ووزارة التربية والتعليم وجامعة البحرين في إعادة تأهيلهن ليجدن فرص عمل مناسبة.

ووظائف المستقبل بالطبع لن تكون هي وظائف الأمس واليوم، فوفقاً لدانيال إتش بينك مؤلف كتاب «عقل جديد كامل» - وهو كتاب قَيِّم، اقترح عليك أيها القارئ الكريم قراءته إن لم تكن فعلت -، فإن الوظائف التي كانت تدرُ دخلاً عالياً في القرن العشرين مقارنة بغيرها - وهم من سماهم المفكر الإداري بيتر دراكر «العاملين بالمعرفة» وهم من يتقاضون أجراً نظير تطبيق ما تعلموه في المدرسة والجامعة، وليس نظير قوتهم البدنية أو مهاراتهم اليدوية، وما ميزهم عن بقية قوة العمل هو قدرتهم على اكتساب وتطبيق المعرفة النظرية والتحليلية (أي أنهم قد تفوقوا في التفكير الموجه بالجانب الأيسر من المخ) - هذه الوظائف قد تغيرت وخبا نجم الكثير منها، ويقول مؤلف الكتاب إن تحولاً يحدث الآن في أميركا من الوظائف التي تعتمد على الجانب الأيسر من المخ، كالطب والمحاسبة وإدارة الأعمال إلى الوظائف التي تعتمد على الجانب الأيمن من المخ كالفنون والتمريض. ويعزو المؤلف هذا التحول لثلاث نقاط هي: الوفرة وعمال آسيا والأتمتة، فهل يزيد راتب الممرضة مستقبلاً عن راتب الطبيب؟ ربما، ولا عجب.

ويورد مؤلف الكتاب في كتابه «بينما يَقْبَلُ قسم الدراسات العليا في إدارة الأعمال في جامعة هارفارد الشهيرة نحو 10 في المئة من المتقدمين، لا يقبل قسم الدراسات العليا في الفنون بجامعة كاليفورنيا لوس أنجليس إلا 3 في المئة فقط من المتقدمين. لماذا؟ السبب أن ماجستير الفنون الجميلة Master of Fine Arts هو الآن أحد الشهادات المهمة جداً في عالَمٍ في ظله حتى شركة جنرال موتورز اعتبرت نفسها تعمل في مجال الفن».

ويضيف مؤلف الكتاب المذكور هذه الحقيقة «يزيد اليوم عدد الأميركيين الذين يعملون في مجالات الفنون والترفيه والتصميم عن عدد الذين يعملون في مجالات المحاماة والمحاسبة والتدقيق».

فهل تختار أيها القارئ الكريم أن يَدْرسَ ابنك او ابنتك الفنون الجميلة والتصميم على ماجستير إدارة الأعمال؟ أما أنا وإن كنت مقتنعاً عقلياً بهذا الخيار، لكني عاطفياً لا تطاوعني نفسي باختيار الفنون على إدارة الأعمال أو المحاسبة، ربما لأني ممن يُصنَّف بأنه يعتمد على الجانب الأيسر من المخ.

إن عدد كليات إدارة الأعمال في أميركا في انحدار بينما عدد كليات الفنون في تزايد. ما يعني ترجيح المجتمع الأميركي للذكاء العاطفي على الذكاء العقلي، وتوقعهم لتفوق وظائف الفنون على وظائف العلوم الإدارية والمحاسبية. فهل تتوقع أيها القارئ الكريم أن يحدث مثل هذا التحول عندنا في الشرق الأوسط؟

إقرأ أيضا لـ "جاسم الموالي"

العدد 5297 - الأربعاء 08 مارس 2017م الموافق 09 جمادى الآخرة 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 4:29 ص

      ادا 1 مقابل 9
      التناسب يقتضي 3 مقابل 27

    • زائر 4 | 3:02 ص

      نحن مجتمعات تحارب الإبداع وتقتل الأفكار الجديدة...سنظل نجتر العلوم القديمة لأننا لا ننتج أي شي فلا نحتاج إلى مبتكرين ولا علاقة لنا بالتقدم المذهل في العالم....فنحن في آخر الركب...لا نمشي بأنفسنا ولكن أشرعتنا مفتوحة لتأخذها رياح الآخرين إلى أي مكان مجهول...

    • زائر 3 | 2:41 ص

      انت عرضت تقسيم اليابانيين للعلوم واللغات ولم تبد رأيك وبنيت المقال على هذا الاساس مما يوحي بأنك مقر بهذا التقسيم.
      مما يبدو لي أن هذا التقسيم بني على نظرة مادية رأسمالية بشكل فاقع ولذا أصبحت -عندهم- علوم الفلسفة واللغة العربية من الأموات. اذن هذا التقسيم فرض من قبل الهيمنة المادية والرأسمالية ولا يعني بأنه هو الصحيح. فلا غنى عن العلوم الفلسفية والعقلية -وبالنتيجة العلوم الدينية- لضبط كل ما سموه بالعلوم الحية. أما بالنسبة للعربية فهي حية باقية مخلدة ما بقي القرآن رغم أنف من أرادوا دثرها.

    • زائر 2 | 1:04 ص

      لغة القرآن لا تموت

    • زائر 1 | 12:08 ص

      موضوع شيق يختلف عما سبقه من موضوعات لكننا كاباء وأمهات عقولنا غير متحررة ولا نطلق لها العنان في التفكير بحيث نسمح لأبناءنا بأن يدرسوا الفنون ونعتبر أن مثل هذا التخصص غير مجدي وغير لائق من حيث البريستيج طبعا اعني مع أنه في حقيقة الأمر اذا ابنك يحب مثلا الرسم فلماذا لا نقدم له ألفرصة للابداع في هذا المجال ودراسته أشك بأننا ماسورون ضمن مورثاتنا الثقافية العديمة الفائدة متى سنتحرر من هذه الأفكار لا اعلم

اقرأ ايضاً