العدد 5300 - السبت 11 مارس 2017م الموافق 12 جمادى الآخرة 1438هـ

ماذا يعني إفلاس دولة؟

جعفر الصائغ

باحث اقتصادي بحريني

حين تعلن شركة ما عن عدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها المالية أمام الدائنين فهذا يعني أنها في حالة إفلاس تام (Bankruptcy)، عندها تضع المحكمة المختصة يدها على ممتلكات الشركة، ولا يبقى أمام تلك المؤسسة إلا خيار واحد وهو التوقف عن الإنتاج وتصفية كل أملاكها وحساباتها المصرفية، وذلك لتسديد أكبر قدر ممكن من الديون المتراكمة عليها، وتبدأ بتسريح العاملين لديها قبل أن تجد طريقها إلى خارج السوق.

حدث ذلك مع المئات من الشركات الدولية والمحلية. فعلى سبيل المثال قبل عشر سنوات أعلنت شركة «روفر» البريطانية لصناعة السيارات عن غلق أبوابها بعد أن تعرّضت إلى انتكاسة مالية ماحقة، أدّت إلى إفلاسها ما أجبرها على تسريح أكثر من 5000 عامل. وكذلك شركة «كوداك» العريقة في صناعة الكاميرات والأفلام التي أعلنت إفلاسها بعد أكثر من مئة عام من النجاح. وفي دول مجلس التعاون، وليس ببعيد، اختفت من الوجود كل من شركة طيران البحرين وشركة طيران سما السعودية بعد أن لحقت بهما خسائر مالية كبيرة ما جعلهما غير قادرتين على الوفاء بالتزاماتهما المالية.

وعادةً ما يكون السبب وراء إفلاس الشركات هو الاقتراض لعدم توافر السيولة، أو انخفاض في الطلب على منتجاتهم بسبب ركود اقتصادي أو تدهور في الوضع الاقتصادي للدولة.

ولكن ماذا عن إفلاس دولة؟ هل يمكن للدولة أن تعلن إفلاسها؟ وهل ينطبق عليها ما ينطبق على الشركات والمؤسسات التجارية والاستثمارية؟ هل تقوم الدولة المفلسة بتسريح موظفيها؟

الدول لا تفلس بمعنى الإفلاس (Bankruptcy) الذي نراه في الشركات الاستثمارية، ولا يوجد كما هو الحال في الشركات محكمة دولية يمكن أن تضع يدها على أصول وممتلكات الدولة لبيعها وتسديد مستحقات الدائنين. فالدولة لها سيادتها الخاصة ولا يسمح القانون الدولي بتجاوزها. إن حالة الإفلاس في الدولة هي عندما تكون عاجزة عن سداد ديونها (Default) وغير قادرة على الوفاء بالتزاماتها المالية الأخرى مثل دفع الرواتب والأجور ودفع ثمن ما تستورده من البضائع والسلع. في مثل هذا الوضع تكون الدولة ضعيفةً مالياً، لا تستطيع تسيير الأمور الاقتصادية والاجتماعية. ولكن وبطبيعة الحال، لا تعلن الدول إفلاسها بنفس الطريقة التقليدية التي تعلن بها الشركات إفلاسها، لاسيما أن النظام أو الحزب الحاكم يخشى فقدان الثقة الاقتصادية والسياسية مما قد يضر بمستقبله السياسي. فقبل أن تصل إلى درجة الإفلاس تلجأ الدولة إلى اتخاذ إجراءات صعبة للغاية مثل زيادة الضرائب وخفض النفقات العامة ووقف التوظيف في القطاع العام، كما قد تلجأ إلى البلدان الصديقة أو المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي أو نادي باريس لإقراضها وإنقاذها من الوضع المالي الصعب. ومن أهم أسباب إفلاس الدولة هو انخفاض حاد في الإيرادات العامة مما قد يؤدي إلى ارتفاع في المديونية أو لسبب أزمة اقتصادية خانقة نتيجة لسياسات وقرارات خاطئة، أو لسبب خسارة الدولة للحرب مع دولة أخرى، وقد حصل ذلك لدول أوروبية بعد الحرب العالمية الثانية.

إفلاس دولة يعني انهياراً تاماً للاقتصاد الوطني، وتدهوراً في الوضع المعيشي، وارتفاعاً في معدل البطالة بشكل يهدّد الأمن الاجتماعي والسياسي، وحالة من الفوضى في المجتمع. فثقة المستثمرين في المناخ الاستثماري للدولة المفلسة قد تصل إلى الصفر، مما قد يشجّع الأموال المحلية والأجنبية على الهجرة إلى أماكن أكثر أمناً. كما أنه ومنعاً من الانهيار التام وحمايةً للقطاع المصرفي، قد تلجأ الدولة لوضع قيود مؤقتة على عمليات السحب النقدي من البنوك، مثل وضع سقف أعلى لعمليات السحب، أو السماح بالسحب في أوقات محددة، وقد يصل الوضع إلى إغلاق أبواب المصارف إلى أن تتراجع حدة الأزمة.

والأخطر من ذلك عندما تكون للإفلاس تداعيات خطيرة على سيادة الدولة والنظام القائم، فعندما تضعف الدولة اقتصادياً وتكون عاجزةً عن حماية نفسها والدفاع عن شعبها، يكون البلد معرَّضاً إلى استعمار من قبل دول أخرى أو لوصاية دولية، أو انقسامها لأكثر من دولة، فيصبح البلد دون سيادة فعلية. وقد حصل ذلك لدول كثيرة مثل اليونان التي أصبحت تحت رحمة ووصاية صندوق النقد الدولي والإتحاد الأوروبي.

السودان، وقبل أن يتجزأ إلى دولتين، كان في حالة قريبة جداً من حالة الإفلاس، حيث كانت الدولة المركزية ضعيفةً مالياً بسبب تراكم الديون عليها، وغير قادرة على الوفاء بالتزاماتها المالية، فأصبح البلد بأكمله في حالة فوضى مما شجّع بعض الأقاليم على طلب الانفصال.

إن تداعيات وخطورة الإفلاس تختلف من بلد إلى آخر، فطبيعة النظام الحاكم تحدّد بشكل كبير حجم تلك التداعيات وخطورتها. فعلى سبيل المثال في البلدان الأكثر ديمقراطية والتي بها مؤسسات ديمقراطية أكثر، يؤدي الإفلاس إلى احتجاجات واعتصامات شعبية تجبر الرئيس أو الحزب الحاكم على الاستقالة، ومن ثم انتخابات مبكرة فيدخل البلد في حالة فوضى وشلل تام في الحياة السياسية. الأرجنتين وبعد أن أعلنت إفلاسها العام 2001 تعاقب على رئاستها أربعة رؤساء خلال أقل من سنة، وهذا يكفي للتدليل على مدى قوة الأزمة المالية التي وقع فيها هذا البلد. عدد من الدول أعلنت إفلاسها أكثر من مرة، الأرجنتين مثلاً أعلنت إفلاسها مرتين خلال 13عاماً، إسبانيا أعلنت إفلاسها 4 مرات خلال سنة واحدة وذلك في القرن 16 وكان السبب هو التبذير والإنفاق العسكري المفرط لحماية تجارتها مع أميركا. ومن الدول التي أعلنت إفلاسها أيضاً روسيا العام 1998 عقب الانهيار الكبير في اقتصادها.

أما في البلدان غير الديمقراطية فتكون نتائج الإفلاس أكثر خطورةً على كيان الدولة وسيادتها، وعلى الاستقرار الأمني والاجتماعي، حيث أن البلد يكون معرَّضاً للتفكّك والتقسيم، وإلى حرب أهلية طاحنة قد تستمر لفترة زمنية طويلة، ما قد يشجّع دولاً أخرى على التدخل في هذا البلد لتعجيل تقسيمه إلى دويلات صغيرة.

كم من الدول العربية على شفا الوقوع في الإفلاس إما بسبب سياسات اقتصادية خاطئة، أو ترهل الشركات والمؤسسات العامة من جراء نخر الفساد لها وهدر الأموال العامة؟

إقرأ أيضا لـ "جعفر الصائغ"

العدد 5300 - السبت 11 مارس 2017م الموافق 12 جمادى الآخرة 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 45 | 5:36 م

      بصراحة نحن دائماً نضع اللوم على الدولة ولكن في الجهة المقابلة لا نشاهد استهتار المواطنين البحرينيين في اداء عملهم (من الوزير الى الموظف البسيط) المواطن اثبت كثيراً انه ليس بقدر المسئولية الملقاة على عاتقة والدليل ان لو عندك شغلك بسيطة في وزارة او هيئة او مؤسسة او شركة راح تشوف شلون هالمواطن البحريني اللي ياخذ اوراقك يعطلك ويأذيك روح شوف ظلم ..... اللي يلعبون بالقوانين وروح شوف اذية... التي يتسبب بها الموظفين لك والأسكان وغيرها .. لازم نعي ان المواطن البحريني ايضاً هو جزء من المشكلة.

    • زائر 44 | 3:54 ص

      اذا ظل الحال على ما هو عليه من تجنيس وفساد ومحسوبيه وانغلاق سياسي واحلول الامنية نحن ذاهبون للافلاس لا محالة ولا تتفاجئون اذا الدوله قالت ماعندها تدفع رواتب موظفي الدوله وهذا اليوم ليس ببعبد ....

    • زائر 43 | 12:14 ص

      مقال موضوعي وشامل وتفصيلي وموجز في نفس الوقت حقق افادة كبيرة لتعريف يتم تداوله بكثرة دون الوقوف على مضمونه .شكرا جزيلا للباحث جعفر الصائغ على تلك المقالة

    • زائر 42 | 7:08 ص

      الوضع الاقتصادي السيئ ايضا مناخ اقتصادي ممتاز للشركات القادرة على انتاج منتجات رخيصة ومقبولة مما يرفع الطلب عليها بسبب سلوك المستهلكين الادخاري علاوة على انخفاض الرواتب الجزئي ومدخلات الانتاج احيانا

    • زائر 40 | 6:52 ص

      طيب سؤال و التصنيف الائتماني ويش،معناه؟

    • زائر 35 | 3:02 م

      شكرا دكتور جعفر
      انا اعلم انك مفكر اقتصادي كبير ولديك من العلم الكثير
      ولاكن هذا الشرح المبسط للقراء يجعل فيك ميزة أخري نتمني من كل الاخصاءين في كل مجال الي النزول والتبسيط في فهم الأمور حتي تعم الفائدة علا كل طبقات المجتمع
      جزاك اللة خيرا دكتور

    • زائر 33 | 11:52 ص

      مقال رائع يستحق القراءه والتأمل فيما ورد فيه.

    • زائر 31 | 8:33 ص

      من الافعال فعل :حكم احكم احكاما و فعل اخر افلس يفلس افلاسا. فاهماز الفعل يحوله إلى اسم للفعل. فاعلان اليونان افلاسها يعني تسليم البلد إلى البنك لكى يتصرف بها كما يحلو لملاك البنك. وهذه من طرق الاستعمار الجديده، فلاتحتاج البلد الواقع تحت تهديد هذا النوع من الابتزاز الا تسليم أعضاء الحكومات وقياداتها ومستشاروها إلى البليس الدولي لكي يحاسبهم قبل يم الحساب ..

    • زائر 25 | 5:59 ص

      ماذا يعني إفلاس دولة؟ الجواب ما في معاشات يعني فيه فوضى . هههههه

    • زائر 23 | 5:45 ص

      وكأني بالافلاس بدأ يتسرب لديارنا
      وكأن سنوات العجاف قد بادرت لطرق أبواب بلادنا

    • زائر 22 | 5:40 ص

      اعتقد ان الازمة المالية في البلدان العربية سببها التبذير في المال العام من خلال صرف الأموال الطائلة من الميزانية العامة على الحالة الأمنية والعسكرية من حيث تستهلك الكثير من الميزانية من أجل الاستقرار السياسي المزعوم.

    • زائر 21 | 4:48 ص

      مقال جيد و جريئ في الطرح

    • زائر 41 زائر 21 | 1:20 ص

      صحيح، الوضع لا يسمح بالمزيد من التصبيغ والصراحة راحة !

    • زائر 20 | 4:32 ص

      تمنيت من الكاتب أن يتطرق لعملة البلد المفلس ماذا سيكون مصيرهه الشواهد كثيرة في البلدان العربية والأجنبية

    • زائر 19 | 3:22 ص

      الازمة المالية اشبه بالخلايا السرطانية التي تنتشر تدريجيا اذا لم يتم تداركها حتى تصل لحد لا ينفع معها اي علاج, وهذا يحتاج لوعي و ادراك من السلطة ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب وكذلك معالجة اسباب الازمة الحقيقية كتجنيس البغال وهذر الاموال لshow وارجاع الاموال والثروات المسروقة لخزينة الدولة وايقاف منابع الفساد والاجرام وغيرها

    • زائر 18 | 1:55 ص

      مشكلتنا في البحرين السبب الاول التجنيس والاجانب وتحويلات الاموال العمالة الوافدة للخارج والفساد الاداري والمالي وعدم مشاركة المواطنين في صنع القرار وزيادة الدين العام !

    • زائر 32 زائر 18 | 9:20 ص

      اهم شي الوافدين

      ما تنامون الليل وانتوا تفكرون فيهم

    • زائر 16 | 1:25 ص

      هذا ما كان سيحدث في ايران لولا تدخل اوباما

    • زائر 15 | 1:20 ص

      السر في بنوك سويسرا
      التنمية شئ وما يخزن في بنوك سويسرا شئ آخر

    • زائر 14 | 12:45 ص

      حنا يا استاذ وقعنا بالفخ اياه تماما وبكرة ستسكر البنوك وتحجز اموال المودعين بحجة دعم اقتصاد فاشل وسؤ استغلال وطمع وجشع الكمبردور المسيطر يعني الواقعة وما ادراك ما الواقعة فوقعتها صاعقة ستجرف الاول والتالي ولكم فيها عبرة يا اولي الالباب لكن هم متعضون ولكنهم للحق منكرون

    • زائر 13 | 12:42 ص

      كم من الدول العربية على شفا الوقوع في الإفلاس إما بسبب سياسات اقتصادية خاطئة، أو ترهل الشركات والمؤسسات العامة من جراء نخر الفساد لها وهدر الأموال العامة؟

    • زائر 9 | 12:00 ص

      شكرا لتوضيح الأمر بلا مصطلحات ثقيلة ومعقدة.

    • زائر 7 | 11:57 م

      ... ، البحرين تعيش على مساعدات و منح دول الخليج و الدين العام تجاوز 10 مليار دينار و العجز السنوي لهذا العام قد يتجاوز 3 مليار و التأمينات الاجتماعية بها عجز اكتواري و الدعم الحكومي انتهى و الوضع الاقتصادي على وشك السقوط و الوضع الاجتماعي مخيف و لازال الكثيرين و التجنيس يأكل الأخضر و اليابس، .... ؟

    • زائر 6 | 11:53 م

      الفساد وما ادراك ما الفساد

    • زائر 3 | 11:04 م

      المستقبل مظلم وخاصة ما بعد التقشف وهبوط اسعار البترول والغلاء المعيشي الفاحش الله يستر على الاجيال القادمة ..

    • زائر 2 | 10:55 م

      التبذير وسوء الادارة السياسيةوالاقتصادية وقت الرخاء والمدخول العالي بالتأكيد ستكون احدى اسبابه الإفلاس وهذه هي الحقيقة والواقع الذي تعيشه اغلب البلدان العربيةفمشكلة الإفلاس ومابعدها تحتها من تبعات هي على شفا الوضوح شيء فشيء على الساحة العربية وهذا واضح من خلال المعطيات

    • زائر 1 | 9:44 م

      التعليق صعب جدا...!!!

    • زائر 24 زائر 1 | 5:58 ص

      متخول البلد كان 16 مليار والآن منقول 8مليار الميزانية المخصصة 4مليار زين البقية 4 مليارات أين تذهب.

    • زائر 30 زائر 24 | 7:46 ص

      أخطر ما إفلاس الدوله، انهيار العمله ي...،

اقرأ ايضاً