العدد 5307 - السبت 18 مارس 2017م الموافق 19 جمادى الآخرة 1438هـ

الدولار والنفوذ الأميركي

جعفر الصائغ

باحث اقتصادي بحريني

لعب الدولار دوراً جوهرياً في نمو وتطور الاقتصاد الأميركي، وكان أحد الأدوات الرئيسية التي اعتمدت عليها أميركا في بسط هيمنتها على الاقتصاد العالمي، حيث ساهم بشكل مباشر في بناء عظمتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية. وقد فرض الدولار نفسه ولعقود من الزمن، كعملة عالمية بلا منافس، فهو عملة المعاملات الدولية وعملة الاحتياطي العالمي من العملة الصعبة ويستخدم كمقياس اقتصادي عالمي. وحسب البيانات الإحصائية، فإن الدولار كعملة عالمية يضيف 100 مليار دولار كل عام كقيمة إضافية للإقتصاد الأميركي، وبفضل عالميته تستطيع أميركا الاقتراض بتكلفة منخفضة.

الدولار الآن يواجه تحدياً خطيراً يهدد استمراره كعملة عالمية، حيث تسعى دول عدة ومنها دول كبرى مثل الصين وروسيا، إلى إلغاء هذه الميزة كوسيلة لإنهاء الهيمنة الأميركية على الاقتصاد العالمي. حيث تطالب بتغيير العملة الاحتياطية للعالم من الدولار إلى عملة أخرى، وتعمل جاهدة على تحقيق ذلك الهدف. وتشتكي هذه الدول من أن الاعتماد المفرط على الدولار يجعل النظام المالي- النقدي العالمي في وضع غير مستقر وغير قابل للإستمرار. كان الدولار قبل عشر سنوات يهيمن بنسبة 90 في المئة من تعاملات الصرف الأجنبي في العالم، إلا أن هذه النسبة تقلصت إلى 63 في المئة .

كيف استطاع الدولار فرض هيمنته على العالم؟ وهل يستطيع الاحتفاظ بقوته وهيمنته على الاقتصاد العالمي؟ وهل تتمكن الصين وروسيا من إلحاق الهزيمة بأميركا؟

لقد مهّدت الحرب العالمية الثانية، وما تبعها من دمار سياسي واقتصادي لأوروبا، الطريق للدولار ليظهر كعملة عالمية. فمع انتهاء تلك الحرب كانت أميركا، المُكشّرة عن أنيابها، قد بدأت تخطط بإنشاء نظام عالمي جديد به نظام اقتصادي يتناسب مع الطموح الأميركي كقوة عسكرية اقتصادية عظمى. كان العالم آنذاك مديناً لأميركا بمليارات الدولارات، فكانت أوروبا تقترض منها لدفع التعويضات وبناء اقتصادياتها.

في العام 1944 اجتمع 44 بلداً من حول العالم في الولايات المتحدة الأميركية ولمدة 22 يوماً، لغرض مناقشة هيكل النظام الاقتصادي العالمي، وخرجت المُفاوضات بما عُرف بنظام «بريتون وودز» (Bretton Woods)، الذي هو عبارة عن خطة أميركية لإعادة هيكلة النظام المالي العالمي. فقد تم إبرام عدة اتفاقات ومعاهدات دولية وضعت أسس النظام الاقتصادي العالمي، ورسمت مبادئ العلاقات التجارية الدولية. فقد وافق المجتمعون على إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وكذلك اتفاقية التجارة الدولية. والأهم من ذلك أنه تم اعتماد الدولار الأميركي كمرجع رئيسي لتحديد سعر عملات الدول الأخرى، فكان ذلك بدايةً لتمكين الدولار من بسط هيمنته على الاقتصاد العالمي، فأصبحت الدول ترجع إلى الدولار لتحديد قيمة عملاتها. وحسب الاتفاق العالمي تلتزم أميركا بتعويض الدولار بالذهب حسب سعر ثابت: 35 دولاراً مقابل أونصة من الذهب (28 غراماً).

الأمر الآخر الذي ساعد الدولار في تعزيز هيمنته، هو أن أميركا وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كان اقتصادها مستقراً وقوياً، وتمتلك نحو 75 في المئة من ذهب العالم (نحو 17.848 طن من الذهب)، وكانت عملتها العملة الوحيدة المُغطاة بالذهب، بينما كانت بقية الدول قد تخلّت ولأسباب اقتصادية مختلفة، عن تغطية عملاتها بالذهب، فأصبحت تستخدم الدولار كاحتياطي النقد الأجنبي، كما قامت كثير من دول العالم بتكديس الدولارات بغية استبدالها مكان الذهب لاحقاً كاحتياطي.

خلال حرب فيتنام ونتيجة لحاجتها إلى السيولة لتغطية نفقات الحرب، واجهت أميركا تحديات خطيرة كانت تهدد استمرار عملتها كعملة عالمية، حيث كان مخزون أميركا من الدولارات لا يكفي لتمويل نفقات الحرب، كما أن مخزونها من الذهب لم يكن كافياً لتغطية الدولار، الأمر الذي دعا البيت الأبيض إلى السماح بطبع دولارات جديدة غير مغطاة بالذهب، فأغرقت به أسواق العالم ما دفع الدولار بالصعود وهبوط الذهب. إلا أنه وفي العام 1971 انتبهت فرنسا إلى اللعبة الأميركية، فأرادت أن تخرج من تبعية الدولار وتستبدله بالذهب، رفضت أميركا ذلك بقوة ففقدت ثقة العالم بالدولار، وبدأت قيمته تهبط بشكل كبير وكادت أن تدخل الاقتصاد الأميركي في أزمة خطيرة جداً. وفي العام نفسه فاجأ الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون العالم باتخاذه سلسلة من التدابير الاقتصادية الاحترازية، عُرفت لاحقاً بصدمة نيكسون (Nixon Shock)، أهمها كان إلغاء التحويل الدولي المباشر من الدولار إلى الذهب. بهذا القرار ألغى نيكسون أحد المكوّنات الرئيسية لنظام «بريتن وودز»، ما جعل النظام غير قابل للتنفيذ. وفي العام 1973 تم استبداله بنظام تعويم العملات الورقية الذي لا يزال العمل به قائماً إلى يومنا هذا.

كان قرار الرئيس الأميركي صدمةً لكثيرٍ من الدول، وبمثابة تهرّبٍ من المسئولية وعدم اكتراث بالأضرار التي لحقت باقتصاديات الدول الأخرى، وعلى ذلك استمرت الدول باستخدام الدولار في تعاملاتها التجارية. بدأت أميركا تبحث عن حلٍّ لإنقاذ عملتها من الانهيار إلى أن جاء ارتفاع أسعار النفط العام 1973 حيث نجحت أميركا من إقناع أغلب أعضاء أوبك (الدول المصدرة للنفط) ببيع صادراتها النفطية بالدولار، واعتبر ذلك الإنقاذ الفعلي للدولار حيث استرجع قوته وكسب ثقة العالم.

الصين وهي الأكثر عداءً للهيمنة الأميركية، والأكثر رغبةً في إقصاء الدولار عن الأسواق العالمية، قد حقّقت أحد أهدافها الاستراتيجية بعد أن وافق صندوق النقد الدولي (IMF)نهاية 2016 على إدراج عملتها «اليوان» ضمن وحدة حقوق السحب الخاصة (SDRs) التي يصدرها الصندوق وبنسبة 10.92 في المئة من إجمالي عملات الاحتياط الخاصة. إن دخول اليوان نادي سلة عملات الاحتياط لصندوق النقد الدولي، يعني أن الاقتصاد العالمي قد تغيّر لصالح الصين والدول الناشئة، وأن الاقتصاد الصيني قد أصبح أحد دعائم الاقتصاد العالمي، وسيسهم ذلك في تحويل النظام النقدي العالمي إلى نظام متعدد الأقطاب. الآن يمكن للبنوك المركزية العالمية، خاصةً في البلدان الناشئة التي تربطها علاقات جيدة مع الصين وتعمل على فكّ ارتباط اقتصادها بالدولار، أن تحصل على بديل آخر للدولار واليورو والين الياباني والجنيه الإسترليني في معاملاتها التجارية والاستثمارية.

لن يقف طموح الصين عند بوابة حقوق السحب، ولن تنتهي حملتها التي دشّنتها منذ سنين لوقف هيمنة الدولار وهيمنة الولايات المتحدة الأميركية على العالم، فلدى الصين رؤية واستراتيجية بعيدة المدى، فهي تطمح دائماً بأن تكون الأقوى عالمياً، وعملتها تغزو الأسواق العالمية. وبمساعدة روسيا ودول أخرى مثل الهند والبرازيل والأرجنتين وإيران، تأمل الصين أن تنجح في إنهاء الهيمنة الأميركية، واستبدال الدولار باليوان أو بعملة أخرى.

إن قرار اختيار عملة الاحتياط لدى صندوق النقد، يكون بناءً على قوة اقتصاد الدولة التابعة لها العملة، فالعملة تفرض نفسها على العالم عندما يكون الاقتصاد قوياً مستقراً، ويلعب دوراً مهماً في الاقتصاد العالمي، وهذا ما تفعله الصين من بناء قوة اقتصادية عالمية. في السابق مثلاً عندما كان الاقتصاد البريطاني الأقوى عالمياً والمصدر الرئيسي للبضائع، كانت غالبية الدول تتعامل بالعملة البريطانية وأكثر من 60 في المئة من فواتير التجارة العالمية كانت تُسدّد بالجنية الإسترليني.

الاقتصاد الصيني اليوم هو ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الاقتصاد الأميركي، وهي أكبر منتج ومصدر للسلع التجارية وثاني أكبر مستورد لها، وثاني أكبر مصدر للإستثمارات الأجنبية المباشرة بعد الولايات المتحدة، حيث تقدّر استثماراتها المباشرة غير المالية بـ134 مليار دولار، كما تتفوق الصين على أميركا في استقطاب الاستثمارات الأجنبية حيث وصل حجمها في العام 2014 إلى 128 مليار دولار مقارنة بـ86 مليار دولار في أميركا. وتقول الصين إن لديها أعلى احتياطي من العملة الأجنبية في العالم بمقدار3.011 تريليون دولار نهاية 2016. بهذه الأرقام أصبحت الصين قادرةً على تقديم عملة تستطيع لعب دور مكمل للدولار وربما الأقوى.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الصائغ"

العدد 5307 - السبت 18 مارس 2017م الموافق 19 جمادى الآخرة 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 8 | 9:36 ص

      شكرا.
      مقال مفيد جدا.

    • زائر 7 | 1:10 ص

      ملاحظة للاستاذ جعفر الصائغ
      أليست أونصة الذهب تساوي 31.1 جرام والمعروفة بالأونصة الطروادية وليست الأونصة العادية التي تساوي 28.3 جرام كما ذكرتم في مقالكم ؟

    • زائر 5 | 12:35 ص

      أمريكا كشخة في كل شيء؛ حتى في استعمارها و هيمنتها على العالم ... أمريكا حكمت الجزء الغربي من العالم و جعلت من قوة اقتصادية؛ بينما روسيا حكمت الجزء الشرقي فلم تقدم له سوى التخلف و الفقر.

    • زائر 6 زائر 5 | 1:02 ص

      قصدك الاتحاد السوفيتي سابقا وليس روسيا الان هو الذي سيطر على الدول الشيوعية .

    • زائر 1 | 12:07 ص

      كيف

      "فأغرقت به أسواق العالم ما دفع الدولار بالصعود وهبوط الذهب" كيف ؟

اقرأ ايضاً