العدد 5313 - الجمعة 24 مارس 2017م الموافق 25 جمادى الآخرة 1438هـ

أدب السيرة الذاتية ومفهوم الزمن الثقافي في سرد "شيماء الوطني"

 

يرتفع أدب السيرة الذاتية في مفهوم بول ريكور، لأن "يصبح مشروعاً للذات"، فيه تكتسب ديمومتها ومن خلاله أيضاً تتشكل حياة نابضة في الزمن تنموا رويدا رويدا لكن بشكل لا خطي.

المنعطفات الحادة والنتوءات على جسد السيرة المسرودة هي ما تتميز به شخصية مهمة عن أخرى عادية بضميمة الفاعلية الثقافية والتأثير على الحراك الاجتماعي.

لكن ماذا يميز سيرة كتبها صاحبها أو أملاها مباشرة، عن أخرى كتبت وهي تتمثل ذات أخرى غير شخصيتها، وهل تتسع مساحة البوح لأن تكشف عن مشاعر ما برحت ملازمة للحظة التي أنتجتها ولم تتلاشى كحدث حققت فيه الذات مكسباً، أو إخفاقا تخلت فيه قوى الحظ عنها لبرهة؟

من خلال هذه الجدلية تحاجج "شيماء الوطني" بأنها ليست محايدة في سردها لسيرة والدها، فهي منحازة لعواطف تعتاشها في كل لحظة وتبرز في كل موقف حتى لتقيس عليها مستجدات أمورها اليومية العادية.. تلك روح والدها ورؤيته. هي ذات حاضرة تماهت في ذاتٍ لا تنعتها بالغياب. ففي نهاية السيرة تقف على قبر والدها وتشاغب حزن والدتها بماذا عساه سيفعل في مثل هذه اللحظة؟ فيكون جوابها: »سيلتقط صورة لقبره«!

هذا على الصعيد الشخصي، أما مقدرتها ككاتبة فهي تستوعب السرد كقيمة ثقافية وتتمثله كأسلوب حياة من خلاله لا تمر على الأشياء كأحداث تفرضها حتميات الحياة، بل تؤلها إلى معانٍ وجودية كبيرة تكون الذات فيها فاعلة ومتفاعلة في صراعٍ وجودي. فللسرد لديها معنى يتجاوز الفن والإبداع إلى الوجود، ووعدها لوالدها مبكراً بأن تكتب تجربته مع الحياة، حيث حققت ذاتها من خلال رؤيته واختلطا حتى كأنك تقرأ الفكرة بثيمتين: أناة واصفة ملؤها الإعجاب، وذات إنسانية تعالت على الصعاب يكسوها التواضع والبساطة. وبين تلك الذاتين تأخذ اللغة السردية طريقها في الكشف عن محطات تتقاطع فيها الساردة مع الموضوع وتجعل من لحظة النهاية (المستشفى) مدخلاً لتناول السيرة بذاكرة استرجاعية. حينها يتجرد المكان عن كينونته: »وتنعدم قوانين الجاذبية مبقية الأرواح معلقة بخيوط واهية بين الأعلى والأسفل، وتظل الموازين مترددة ما بين النجاة والهلاك... مكان موحش، باهت الملامح يفصلك عن أحبائك«. هنا لا تستطيع هي إلا أن تتقدم بذاتها مفصحة عن هواجسها لأن الموقف يشي باقتراب نهاية تخشاها وتمسها من العمق، فالموت تراه وحشا متجسدا: »يمشي الموت منتقياً بغرور فريسته التالية؛ لينقض عليها منتزعاً منها الروح دون أن يرف له جفن ودون أن يكترث لأحباب لها سيتألمون لرحيلها«.

رهبة المكان وصعوبة الموقف لا يفقدها الموضوع السردي (سيرة والدها)، فسرعان ما تتماسك وينتظم السرد إلى اختلاجات دقيقة ترى فيها صورة والدها وعزيمته كما عهدتها: »قسم العناية المركزة، المكان الذي يعتقد الجميع أنه نهاية المطاف، أما هو فقد اعتبره جسر النجاة الذي يتوجب عليه اجتيازه ليصل إلى نقطة بداية جديدة يستأنف بها حياته«.

هي لا تنطق هنا مدفوعة بعواطف مجردة، إنما بسيرة حافلة بالصعاب تجاوزها والدها محققا سجلاً مشرفاً في كتاب وطنة وسمعة عائلته. فكل محطة قاسية مرت به راكمها وارتقى عليها متطلعاً نحو قمة أخرى: »المصادفة التي تكررت أن في كل منعطف من حياة عيسى كان ثمة صخرة جاثمة تنتظر منه الصبر حتى تتكسر«.

عصامي هو، انطلق من أسرة بسيطة إلى قمة المجد الإنساني بمشاركته مبكراً في ارساء مفاهيم مغايرة عن مفهوم الإعاقة الجسدية في مجتمعه وإبراز ذاته الجسورة كمثال على التغلب عليها: »كسر عيسى الصورة النمطية للمعاق المنكسر في بيته والمتواري عن الأنظار، شكلت حياته نموذجاً ناجحاً يحتذى به بالنسبة إلى المجتمع البحريني«.

بقيت روحه في أشد حالات صفائها في جميع المواقف الصعبة مدفوعاً بحب خالص من زوجته، وبشغفه للكاميرا التي وصف تأثيرها على حياته حسين المحروس: »الناظر في صوره سيجد ما يشير إلى نية حاضرة للمشي لديه، صوره كلها تثبت أنه كان يمشي بما تتسع له الصورة«. أما الساردة فتصف حضور الكاميرا في حياته بأن »للناس عينان، أما عيسى فكانت له ثلاث عيون.. كانت عدسة الكاميرا عينه الثالثة«.

لقد حقق ذاته من خلال أمرين: فاعليته في التصوير ومشاركته في المعارض الدولية وإصدار كتاب وضع فيه صوره، والامر الآخر هو بمساهمته في استصدار العديد من الأنظمة والقوانين التي ساعدت المعاق الحركي ليعيش بشكل طبيعي. أما أبنته، فقد حققت ذاتها بانتسابها إليه وحضورها في حياته أولاً، ثم في إبراز مقدرتها كمبدعة تمتلك نفساً سردياً مذهلاً بكتابتها لسيرته.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً