العدد 5322 - الأحد 02 أبريل 2017م الموافق 05 رجب 1438هـ

في أرجنتين العسكر كان الناس يختفون في الحرب القذرة

ملاحظات وهوامش ريتشاردسون ذات لقاء مع بورخيس:

خورخي لويس بورخيس
خورخي لويس بورخيس

بعض الذين أتيحت لهم فرصة لقاء الكاتب والقاص والشاعر الأرجنتيني الراحل خورخي لويس بورخيس (24 أغسطس/ آب 1899 - 14 يونيو/ حزيران 1986)، انشغلوا بالطريق إليه. الاشتغال على التفاصيل ما قبل وأثناء وما بعد اللقاء به. عُرف عنه تواضعه حد نكران الذات. كثير من الصحافيين سجَّلوا ملاحظاتهم في هذا الشأن تحديداً. الفضاء... المكان... الوجوه... البشر... الغرباء. يمكن القول، إنه الانشغال بجانب من المادة الخام التي تشكِّل عوالم القاص والروائي والشاعر، وكل ذلك يجتمع في صاحب البصيرة بورخيس.

الكاتب والصحافي باتريك ريتشاردسون ترك نفسه حرة لتسجيل ملاحظاته على ما ذُكر سابقاً، من خلال تقرير نشره في صحيفة «الإندبندنت» البريطانية. التقرير قديم - نسبياً - ويعود إلى العام 2014، وتحديداً إلى 30 أبريل/نيسان.

من بين ملاحظاته عن الأرجنتين يوم أن كانت تحت هيمنة العسكر في سبعينات القرن الماضي، يكتب ريتشاردسون «سبقتنا الشائعات بأنه في ظل المجلس العسكري في الأرجنتين، والذي أطاح بالرئيس المنتخب إيزابيل بيرون، كان البشر يختفون، غير مدركين أننا كنا نخطو في منتصف الطريق إلى حيث (الحرب القذرة)».

من بين الملاحظات التي كتبها وسبقت اللقاء، ما سجَّله عن بورخيس، شكره، قبل البدء بمحاضرة في بوينس آيرس، لجيش بلاده، قائلاً: «هذه الليلة، أريد أن أهدي هذه المحاضرة إلى جيشنا، الذي خاض بشجاعة حروباً لإنقاذنا من الطغيان الذي هدَّدنا بالدمار في هذا البلد».

بقيت الإشارة إلى أن الانطباعات التي سجّلها ريتشاردسون حول بورخيس، الذي عدّه كاتبه المفضّل، مستوحاة من فترة متقدمة تعود إلى ريعان شبابه، يوم أن كان في الخامسة والعشرين من عمره، حين قرر في العام 1976 لقاء بورخيس. كان مفلساً، يعيش في غرفة متواضعة في أمستردام، وكانت فرصة بالنسبة إليه أن يفر بجلده من قسوة الشتاء في هولندا، عبر السفر مع صديق له إلى أميركا اللاتينية. كان ذلك في سبتمبر/أيلول 1976

في منتصف العام 1970 كان السفر إلى أميركا الجنوبية محفوفاً بالمخاطر، كانت الأنظمة العسكرية - عملياً - مهيمنة على السلطة هناك. الإيقاف المستمر عبر الحواجز المليئة بالجنود المدجّجين بالسلاح بات أمراً مألوفاً هناك.

كان مألوفاً رؤية الجنود وهم يسطون على الحافلات. وقتها كنا على متن شاحنة مالت بنا إلى منحدر طريق ستأخذنا إلى شمال الأرجنتين عبْر بيرو وبوليفيا.

في رصد المذبحة

يضيء ريتشاردسون تلك الحقبة المظلمة في التاريخ الأرجنتيني بقوله: «في وقت لاحق بدأت المعلومات تتدفق: 30 ألف طالب وعدد من المثقفين والنقابيين تم قتلهم. قررنا أن نستمر في طريقنا إلى الجنوب. استقر بنا الحال في مقهى بالقرب من سكة الحديد في خوخوي. اشتريت تذكرة لرحلة منتصف الليل ستأخذني إلى العاصمة (بوينس آيرس).

لم يكن بورخيس أيقونة إبداعية وقتها كما هو الآن... لكنه لايزال يعتبر على نطاق واسع كاتباً عظيماً. بعد تفحّصي للأوراق التي معي، علمت أنه سيقدم محاضرة في ذلك المساء حول «دور الأسطورة في الأدب العالمي» في قاعة وزارة الرعاية.

وفقاً للخريطة التي أحملها، يفصل بيني وبين مكان المحاضرة أربعة مجمّعات، يحيطها مشهد مثير للجبال، قدّرتُ أنه بإمكاني اللحاق به والاستماع إلى محاضرته، وأن أتناول وجبة، وسيظل هناك متسع من الوقت للحاق بموعد القطار.

صديقي لم يكن مهتماً بحضور اللقاء، دلفت لشراء التذكرة، مكان المحاضرة يشرف على الشارع الرئيسي، وتصطف على جانبيه أشجار البرتقال. حين وصلت، لم يكن ثمة أحد في مكتب التذاكر ولا الردهة. وفي محاولة مني لتعقب شخص ما لمساعدتي، متجاهلاً لافتة «ممنوع الدخول»، فتحت باب المسرح الذي سيقدم فيه بورخيس محاضرته.

كان الداخل يعجّ بالظلام، على رغم وجود اثنين من الفنيين عند منصة المسرح يساعدان رجلاً ضريراً يتكئ على عصاه البيضاء. انتابتني حالة من الإثارة، لابد أنني أدركت أن ملامح الشحوب تلك يمتاز بها هو أينما حل، لقد كان هو، بورخيس نفسه، يقوم بعملية تهيئة تجريبية قبل بدء المحاضرة.

جهاز عرض الصور كان مضيئاً عبر شاشة في الخلف، إضافة إلى ترددات يصدرها مكبر الصوت. كنت آمل ألاّ يلاحظني الفنيّان، أخذت طريقي إلى المقاعد الأمامية لضمان رؤية أفضل.

إنه هناك مستوٍ على كرسيّه أمام الطاولة. كان في أواخر السبعينيات، بدا أصلعاً، وبدا جلْده أبيض وطيفياً. وكما قال ذات مرة، يكشف فمه عمّا يبدو صفاً من الأسنان زائفة الكمال، بينما مقلتاه تحدّقان إلى الأمام بشكل اعتباطي. (Uno, dos, tres) بالإسبانية (واحد، اثنان، ثلاثة)، مختبراً الميكروفون.

لم أكد آخذ مكاني على المقعد، حتى صاح صوت: «Luces» بمعنى «أضواء» بالإسبانية، فانغمس المسرح في الضوء. أحد الفنييْن استدار ورصد حضوري.

صاح بي: أنت!

لم أستطع تخيل ما تملّكني وأدهشني، أنني وجدت نفسي أمشي متخطياً أسلاك الميكرفون، خطواتي كانت تتسارع إلى المسرح: مرحباً سنيور بورخيس، قلتها بالإنجليزية. ومن خلال مقابلة أجرتها معه هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، أدركت أنه يتكلم الإنجليزية بطلاقة.

الجانب الكالفيني من أوروبا

ساد صمت، وبدرت ملامح ابتسامة وامضة على وجهه الشاحب. «لن يكون إنجليزياً ذلك الذي يتحدث. هل هو؟». متسائلاً عن الإنجليزية الصارمة لغير الناطقين بها.

أجبت: لا في الواقع ولدت في ساسكس، على رغم أنني ترعرعت في أدنبره». أجبت، في محاولة لتجاهل الفنييْن اللذين علا صوتهما في وجهي.

- آه، أنا أعرف ذلك جيداً!

وتابع، وهذه المرة باللهجة الأيرلندية.

- أدنبرة وجنيف، وهما من أجمل المدن في الجانب الكالفيني من أوروبا (الكالفينيّة، والمعروفة أيضاً باللاهوت المصلح، هي مذهب مسيحي بروتستانتي يعزى تأسيسه للمصلح الفرنسي جون كالفن) هل تعلم أن اسم ادنبره ربما يكون أصله في نورثمبرلاند؟ (مقاطعة في أقصى شمال شرق إنجلترا. تحدها كل من مقاطعة كامبريا إلى الغرب ومقاطعة دورهام في الجنوب، ومقاطعة تاين أند وير في الجنوب الشرقي. ويحدها من الشمال الحدود الأسكتلندية).

- لا، لم أكن...

- حسناً، يقول البعض أن إدوين، ملك نورثمبريا (616 - 632)، بنى مدينة عليها أصبحت تعرف باسم بورغ إدوين.

- حقا! سأفشي أمراً من دون سابق تفكير؛ لقد اشتهر بورخيس بسعة اطلاعه لكنه لايزال.

لحسن الحظ، فإن الفنييْن، اقتنعا بأنني لا أمثل أي خطر، تراجعت إلى الصف الأمامي لتفريغ المعدات السمعية.

- كيف وجدت لهجتي الأسكتلندية؟» أكمل بورخيس.

- كان ذلك الأيرلندي، وليس الأسكتلندي! ضحكتُ.

- اغفر لي.

قبل أن أعرف ما الذي يحدث، بدأ بقراءة مقتطف من قصيدة بلغة لم أتمكن من التعرف عليها. وكان صوته يتردد صداه متهدجاً من خلال القاعة. توقف الفنيون عن عبثهم وبعثرتهم الأشياء من حولهم وساد صمت مرعب.

عندما انتهى، اتكأ عليّ.

- أتساءل عمّا إذا كان يمكنك أن تقول لي ما هي اللغة التي قرأت بها؟» مستفسراً.

«العبرية»؟

- لا، إنها السكسونية، وكانت من بيولف (ملحمة شعرية وطنية إنجليزية قديمة)، وذلك غني عن القول، أنت تعرف بلا شك أن الساكسون ينحدرون من فريزلند بهولندا؟

- نعم، في الواقع، أومأت برأسي موافقاً.

- لقد كانوا يعيشون هناك على مدى السنوات الأربع الماضية، و...

- آه، الكثير من الأسكتلنديين على ما يرام! وقال هاتفاً من دون مقدمات: «هيوم، وآدم سميث، والذي كتب «اعترافات آثم مبرّرة».

كنت أقوم بعملية ترتيب لذاكرتي عندما رصدت تهديداً يسم ملامح جنديين سائرين في الممر تجاهنا.

- هل تعلم أنه في كل مرة أرى اسم الأرجنتين يذهب تفكيري إليك»، تطوعت بسرعة، مرتجلاً الكلمات الأولى التي حضرت في رأسي.

- أنت لطيف جداً. هل قرأت قصصي؟»

- جميعها!

- لقد بذلت جهدي، على رغم أنني يجب أن أعتذر لضعف جودتها.

لقد عرف عن بورخيس، على رغم شهرته، تواضعه وأصالته الحقيقية.

- لا، حقا، أنت في غاية التواضع.

- دار حديث طويل انتهى بقصة غوته يوم تردد على أحد بيوت الدعارة...

في الساعة السابعة والنصف، كنت مرة أخرى في القاعة التي سيلقي فيها بورخيس المحاضرة، كنت قد تمكنت من الحصول على واحدة من آخر التذاكر للحدث. كان لايزال هناك نصف ساعة قبل البدء، ولكن حركة توافد الجمهور تتضاعف، على رغم انزعاجي من أن معظم الجمهور من كبار ضباط الجيش، والبعض الآخر بالزي المدرسي.

لقد وجدت في منتصف الطريق من القاعة مقعداً في الصف الأخير. في الخلف، وقف جندي ببندقية كلاشنيكوف عند أحد الأبواب، وتطلّع لي بحذر. على فترات، يتأرجح الباب فتحاً، عندئذ فقط اعتبرت أنه بورخيس، استدرت، لأكتشف أنه كان مجرد ضابط آخر.

ظللت جالساً هناك لمدة 10 دقائق عندما سمعت صوتاً مشئوماً: «أنت؟ تعال معي وخذ معك الحقيبة»!

حملقت. ووقع بصري على شخص قصير القامة، في ملابس مدنية يحوم في نهاية الصف، ملوحاً ببطاقة هويته، سترته محكمة حتى المنتصف، لمحت مسدساً يتدلى جزء منه في جيبه.

يا إلهي، ليس مرة أخرى.

انتابتني حمرة خجل... حرج شديد، أخذت طريقي إلى الممر. خارج القاعة، ثمة اثنان من رجال الشرطة ينتظران. أومأ الرجل قصير القامة إلى المرحاض. «اذهب إلى الداخل وأفرغ حقيبتك»! انه أمر.

فتحت الباب بتردد، وظل يخبط وراءنا، ترك أربعة منا يقفون وحدهم بالقرب من أماكن التبول.

تجاهلت أجراس الإنذار... الرنين يشبه الخشخشة في رأسي - قد يقوم بمهاجمتي، وقد يعمد إلى إطلاق النار عليّ.

- انظروا، أنا صحافي أعمل لدى «تايمز أوف لندن»!

صدقوني، سأصف تماماً كل شيء سيء وقميء في هذا البلد!

بعد جدال طويل سلّمني الرجل حقيبتي وجواز السفر. قائلاً: «يمكنك العودة إلى القاعة، سنيور ريتشاردسون».

شعرت بإهانة كبيرة، وعدت إلى قاعة المحاضرة. كنت في منتصف الطريق من طول الصف، عندما ظهر بورخيس من الباب الجانبي المؤدي إلى المسرح رفقة رجل لاحظت وجوده مبكراً في بزته. وبالكاد خطا بورخيس خطوته الأولى إلى القاعة ضجت بالتصفيق الحاد والمتكرر بطريقة مفعمة بالنشوة، مرة أخرى وقف جميع الضباط على المسرح، ركّزت كاميرات التلفزيون، والكاميرات، على الرجل. فلاشات الكاميرات أضاءت المكان.

وبعد دقيقتين، تم اقتياد بورخيس إلى المنصة، رفع يديه. شكر الجمهور الذي طلب منه أن يهدأ، وقال: «هذه الليلة، أريد أن أهدي هذه المحاضرة إلى جيشنا، الذي خاض بشجاعة حروباً لإنقاذنا من الدمار الذي هدّدنا بالطغيان في هذا البلد».

ينقطع ريتشاردسون عن ذكر ما احتوته المحاضرة، ويعمد إلى الاحتفاء ببورخيس عبر المقدمة التي كتبها حوله.

لزمن طويل، خمّن عالم الأدب أن كثيراً من آراء بورخيس لم تبرح الرجعية، وكان على التصاق بجزء كبير منها على أقل تقدير، وربما لذلك السبب وغيره من الأسباب هو ما حال دون حصوله على جائزة نوبل للآداب.

في الواقع، في محل للحلاقة، وقبل سبعة أيام فقط، اطلعت على مقابلة - بالمصادفة - أجرته معه إحدى المجلات، نقلت عنه دعوته للقيام بانقلاب عسكري في الولايات المتحدة «لوقف هيمنة الشيوعيين».

ضوء

ولد باتريك ريتشاردسون، في 27 مارس/ آذار 1946. كاتب جال عدداً من دول العالم لأكثر من أربعين عاماً، تخصص في كتابة المقالات وأدب الرحلات. وقد كتب لصحيفة «الغارديان» و «الديلي تلغراف»، و «صنداى تلغراف»، و «صنداي تايمز»، و «هيرالد».

أقام عدة معارض للتصوير الفوتوغرافي تتضمن موضوعات أسفاره ورحلاته. أطل من خلال راديو بي بي سي 4 وراديو بي بي سي اسكتلندا، وشارك في كثير من المهرجانات الأدبية المرموقة، بما في ذلك مهرجان أدنبره الدولي للكتاب في دورة العام 2009.

يتابع أسفاره إلى أجزاء بعيدة من العالم، مستكشفاً الثقافات التقليدية وتلك التي يبدو أنها منسجمة مع عزلتها.

بورخيس في بوينس آيرس العام 1943م
بورخيس في بوينس آيرس العام 1943م




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً