العدد 5323 - الإثنين 03 أبريل 2017م الموافق 06 رجب 1438هـ

إميل برهييه قارئاً بيرلمان

شاييم بيرلمان
شاييم بيرلمان

من المعروف عن الفيلسوف شاييم بيرلمان التزامه الدقة والإحكام في تحليلاته للمفاهيم المستعملة في الفلسفة، ولاسيما المتعلق منها بعلم الأخلاق تحديداً. وهو إذ يأتي اليوم على البحث في تاريخ العلاقة الملتبسة بين البلاغة والفلسفة، أود من خلال هذه المقدمة توضيح الأهمية الراهنة لمعالجة مثل هكذا موضوع، بتسليط الضوء على بعض من الاعتبارات التاريخية.

في العصور القديمة، وعلى غرار معلمه الفيلسوف أفلاطون في كتابه القوانين «Lois»، قال الفيلسوف أفلوطين لمرات عديدة، إنه ينبغي على المتكلم المخاطِب بعد الاستدلال على صحة أو خطأ قضية معينة بالحجج العقلانية الكافية، أن يكون قد أنجز تثبتاً منطقياً convaincre إلى حد الإقناع persuader لدى المستمع أو القارئ بخصوص تلك القضية. لقد حصل هذا التحول إلى بلاغة الإقناع مع تغيير بوصلة الاهتمام في الخطاب من المتلقي المخاطَب التجريدي الذي يستند التوافق معه نظرياً بواسطة الاستدلال ألرياضي البحت، إلى المخاطَب المحسوس والملموس في الواقع اليومي. وهو منعرج لم يكن له الحدوث لولا ذلك الصرح التعليمي الذي شيّده معلمو البلاغة والفلسفة ورسخوه بوصفه ممارسة ثقافية عند تلاميذهم خلال عصور اليونان القديمة. غير أنه سرعان ما أخذت تلك الممارسة بالاندثار حتى لم يعد لها وجود يُذكر إلا على نحو مُسْتَتِر ومُتحجِّب، ولاسيما مع صعود الفلسفات التجريبية empirique والعقلانيةrationnelle ، ووصلنا إلى الحد الذي نتوجه فيه بخطابنا، مثل الفيلسوف رينيه ديكارت، إلى واحد من المخاطَبين دون تعيين (وكثيراً ما جرت الإشارة إلى هذا الواحد بالضمير المفرد الغائب هو lui (1)، بل ونطلب منه أن يتبع طريقنا نفسه في الاستدلال ونحن نُلقي عليه، مثل الفيلسوف فرنسيس بيكون، تعاليم محددة في الملاحظة والتجربة تتسم بكونها مبوبة ومفيدة كما ينبغي لها أن تكون عليه. في الواقع، إن إهمال المخاطَب بهذا الشكل، أدى إلى إحداث حالة من القصور والتأخر الكبير في الحِجَاج l’argumentation، وكانت له عواقب وخيمة اتضحت من خلال ظاهرة الحرص المتزايد لدى الفلاسفة في تحقيق أعلى درجات الإحكام العقلاني، والذي قادهم في كثير من الأحيان إلى الاعتماد في عروضهم الفلسفية وبصورة حصرية على الشكل الرياضي الإقليدي الذي إما أن يكون متسماً بالتجريد التام (كما نجده عند ديكارت في ردوده على الاعتراضات، وعند الفيلسوف باروخ سبينوزا في كتابه «الأخلاق») أو أن يستحيل إلى مطلب صعب المنال مثلما نجده عند الفيلسوف غوتفريد ليبنتز. اتسع هذا التوجه بعد ذلك وخرج عن توقعات الفلاسفة أنفسهم وأخذ مناحٍ أخرى لم تكن في الحسبان، بدءاً من الاتجاه العقلاني للفيلسوف كريستيان فولف ونظامه المنطقي الذي يسعى إلى إحكام سيطرته على كل ما هو ممكن ومتغير بواسطة استدلالات تحليلية رياضية واضحة وصارمة، وصولاً إلى الفيلسوف هيغل الذي لم يتجاوز البتة هذا المفهوم المثالي للفلسفة العقلانية بحسب رأي عدوه اللدود الفيلسوف شيلنغ. وهكذا، تصاعدت نبرة الإعلاء من شأن العقل التجريدي والحفاظ على كنوزه الثمينة، من خلال ضبط إعدادات تصنيفاته واستعمالاتها اللغوية المبوبة بعناية واتساق تام، حتى أمسى فيها كالحُجُب تفصل بيننا وبين الواقع، ينبغي علينا الخضوع لما يفرضه من صورٍ ومعانٍ، لا مجال لنا فيه حتى للتعبير عن الرأي سواء كان بالرفض أو القبول.

الفلسفة المنعزلة

لقد ساهم فلاسفة القرن الثامن عشر في إشاعة فكرة باثولوجية غير سليمة بالمرة عن الفلسفة المنعزلة التي تفتقر للمؤيدين المتحمسين لأفكارها والى جمهور مؤهل لاستيعاب خطابها. ولنا في مطالب الفيلسوف جان جاك روسو المعروفة في جلّ كتاباته خير دليل، وأيضا في هذه الفقرة العابرة للفيلسوف دنيس ديدرو حول الكتاب المتواضع للغاية للفيلسوف نيكولا بولانجيه والموسوم بالطغيان الشرقي le Despotisme oriental ، والتي انتقده لعدم استعماله (شكلاً لغوياً يكون أكثر إيجازاً وأقلّ قطعية، كي يكون غير مقتصر فحسب على إثبات القضايا القابلة للبرهان على صدقها أو كذبها. فلابد من أن يوضع في الاعتبار، أن هناك قضايا تتعلق بالشعور والانفعالات لا يمكن معالجتها وفق منطق العقل المجرد، وهذا ما يدعونا إلى إعادة الاعتبار إلى ملكة الخيال l’imagination لدى المتلقي المخاطَب والتعويل عليها أكثر من الاهتمام بقوة وصلابة الأدلة والبراهين. عليكم أن تمنحوا مجالاً يسيراً للقراءة وان تفسحوا فضاءً واسعاً للتفكير... فربّ وجهة نظر سامية ورائعة أو فكرة عميقة مطروحة بشكل سريع وغير مبالٍ، يمكن لها أن تصل إلى المتلقي أكثر بكثير من حقيقة vérité جرى إثباتها بعناية فائقة من لدن كاتب دوغمائي) (2). بهذه الطريقة غير التجريدية تماماً يمكن أن يحدث تأثيرا في مشاعر المخاطَب إلى حد كبير، وكل ما يقع خارجها فلا يتعدى أن يكون مجرد استجابة آلية.

اتجه البروفسور شاييم بيرلمان في بحثه الدؤوب عن أصول البلاغة la rhétorique صوب العصور الكلاسيكية القديمة، وسعى إلى إعادة إحياء وتجديد ذلك التقليد في علوم البلاغة والمنطق والحجاج. مستنداً في مفهومه للجدل على كتاب الفيلسوف أرسطو الطوبيقا Topiques القائم في الأصل على قيمة ما هو احتمالي probable وبالطبع، لم يكن طريقه باليسير، فسؤال الحِجَاج لا يتعلق بعلم المنطق فحسب، وأبعد من أن يكون واضحاً بالدرجة الكافية في عهد اليونان القديمة، ولاسيما إذا علمنا انه ليس بكيان أو مادة محددة قابلة للانكشاف والدراسة وإعادة القراءة بكل سهولة. ففي البدء وقبل كل شيء، علينا أن نفرق اولاً بين فن الفصاحة l’éloquence وبين مفهوم الجدل la dialectique، فهو تمييز ضروري ورئيسي إلى حد قاد فيه ومنذ البدايات المبكرة لتاريخ الفلسفة والبلاغة إلى مجادلات بين علماء الجدل وعلماء الكلام البلاغي، كانت عنيفة في كثير من الأحيان.

عالِم الجدل وعالِم البلاغة

وعلينا أن نذكر هنا، أن فن الخِطابة L’art oratoire والتحدث أمام الجمهور لم يقتصر في واقع الأمر على مجالاتها الطبيعية المعتادة في السياسة والقضاء. بل اتسع مداه منذ القرن الخامس قبل الميلاد، مع ظهور السفسطائيين وانتشار مدارسهم في تعليم علوم البلاغة والحِجَاج والفلسفة والأدب في أرجاء اليونان، لتغدو معهم البلاغة علم متاح للجميع وليس لأحد. وقد بدا تأثيرهم واضحاً في محاورات أفلاطون لا سيما في محاورتي بروتاكوراس وكورجياس، عندما جرى التشديد على توضيح ذلك التباين الكبير بين ذلك الخطاب المتضمن على الصور البلاغية والأسطورية والتقنيات الحِجَاجية في سعيه للحصول على موافقة وتأييد الجمهور، وبين جدل الفيلسوف سقراط الذي يستند على طرح مجموعة محددة من الأسئلة القصيرة على محاوِر واحد ينبغي عليه فقط أن يجيب على كل سؤال بالموافقة أو العكس. ومن الملاحظ انه على رغم جميع ما مرت به المحاورات الأفلاطونية من تحولات في الأجناس الأدبية وسيادة الطابع والشكل السقراطي عليها، فقد بقيت الروح الخطابية بملامحها الحِجَاجية البلاغية ومؤثراتها الواضحة في تغيير مسار تشكل المعاني وتحديد المفاهيم، هي الأكثر تعارضاً ومغايرة عن تلك الروح الجدلية البرهانية المستندة على عدد من الأسئلة القصيرة quaestiunculae والمحددة التي تدفع بالمحاوِر كثيراً إلى الخلط والالتباس، ليعود أدراجه خائباً غير راضٍ على الإطلاق.

وقد ميّز الخطيب والفيلسوف شيشرون هو الآخر بين عالِم الجدل وعالِم البلاغة، ولاسيما في محاورته أكاديميك (Académiques) غير أنه حافظ على ذلك الشكل من الانفصال والحدود القائمة بين الفلسفة والبلاغة، وكان هذا واضحاً في نقده الشديد لاستعمال القائد الروماني لوكولوس الأسلوب البلاغي في الفلسفة. وهو أسلوب ومنهج يستند على الحُجج المشتركة lieux communs وهي تعبر عن مجموعة من المتصورات والمفاهيم والاعتقادات لدى جمهور معين بوصفها المعايير والقيم التي تتأسس عليها مجمل الأحكام الأخلاقية، لذلك يستوجب على المتكلم المخاطِب أن يتوفر على تلك التقنيات الحجاجية إضافة إلى معرفة كيفية استعمال كل نوع فيها بالشكل المنسجم مع كل قضية مطروحة للنقاش. وذلك لان هذه الحُجج المشتركة تماثل الأجناس genres المبوبة والمصنفِة لمختلف الحالات التي تدعو المخاطَب إلى اللجوء إليها حين الحاجة. في الوقت الذي لا يفسح فيه الجدل مكاناً لاستعمال مثل تلك التقنيات، بل إنه أقرب إلى عملية تفكير تصاعدية تنتقل بنا من فكرة إلى أخرى غيرها حتى نصل إلى المقولات التي تقوم بتصنيف الأشياء وتسنُد إليها الأسماء والصفات المعدة مسبقاً في الإجابة على كل سؤال.

وقد حقق علماء البلاغة في روما نجاحاً كبيراً ولافتاً، تمكنوا فيه من معالجة الكثير من القضايا بأسلوب بلاغي فصيح للغاية كما نجده في عرض البلاغي ماكسيم دو تير Maxime de Tyr لسؤال صحة النبأ والنبوءة divination وكذلك، بعد وفاة سقراط بقرون عديدة، جاء البلاغي إيليوس أرستيدس على معالجة موضوع الجدل بطريقة تفتقر للعناية والدقة الكافية. غير أن العلاقة بين الفلسفة والبلاغة بقيت رهينة التنافر والتعارض والانفصال، أي لم تكن جيدة في كل الأحوال. ولم تكن هناك ثمة إمكانية في عقد تقارب بما يكفي لردم الفجوة بينهما. وربما كان أحد أهم عناصر الاختلاف بينهما، هو الجمهور المخاطَب l’auditoire. حيث نلاحظ انه في الوقت الذي يتوجه فيه الخطاب البلاغي نحو شريحة عامة وواسعة تلتزم الإصغاء والإنصات لغرض تبادل الآراء في حوار يناقش القضايا المطروحة للمداولة. نجد أن خطاب الفيلسوف يقتصر على طُلاَّبه ويدفعهم قسراً إلى التسليم والخضوع لأفكاره من خلال التزامه بطرح الأسئلة ذات الشكل الجدلي البرهاني الصارم، لأنه لا يهتم بشيء أكثر من اختبار القوة الذهنية. بينما تسعى البلاغة إلى الحصول على الاتفاق العام حول قضية معينة بالانطلاق من قاعدة المعارف الإنسانية العامة المتضمنة على خصائص الشخصية والانفعالية والشعورية الأساسية في تكوين ثقافة الفرد والمجتمع برمته، وذلك ليس لغرض دحض رأي الآخر وإنما لأجل تحقيق التوافق بين جماعة معينة على تأويلات جديدة لمجمل القيّم والأحكام الأخلاقية العامة. وهنا تقع أهمية فلسفة البلاغة الجديدة والمنعرج الحِجَاجي الهائل الذي تمكنت بفضله التحرر من قبضة المنطق ثنائي القيمة ونزعته المركزية حول النتيجة الواجب الوصول إليها بعد تلاوة المقدمتين الصحيحتين، لتفسح المجال أمام بناء ثقافي يتأسس على إعادة قراءة المفاهيم والمبادئ وكل المتصورات الإنسانية والقول بضرورة التحقق من المنتج القيّمي واللغوي والتشريعي والقانوني والاجتماعي بأكمله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*مقدمة الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي إميل برهييه Émile Bréhier (1876- 1952) لكتاب «البلاغة والفلسفة... من أجل نظرية حِجَاجية في الفلسفة» للفيلسوف البلجيكي ومؤسس نظرية البلاغة الجديدة شاييم بيرلمان Chaïm Perelman (1912- 1984 بالاشتراك مع زميلته عالمة السوسيولوجيا البلجيكية لوسي اولبرخت - تيتكا Lucie Olbrechts-Tyteca (1899- 1987).

Chaïm Perelman et Lucie Olbrechts-Tyteca : Rhétorique et philosophie … Pour une Théorie de l’Argumentation en Philosophie, Paris, Presses Universitaires de France, 1952, VII-X.

وقد عثر الفيلسوف الفرنسي رايموند باير (1898-1960) على صفحات هذه المقدمة غير المكتملة، بين مخطوطات برهييه بعد وفاته التي صادفت قبل الانتهاء من طباعة هذا الكتاب بفترة وجيزة.

(1) De la recherche de la vérité.

(2) Cité par Venturi, La jeunesse de Diderot, p. 74.

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
أنوار طاهر- باحثة ومترجمة من العراق
أنوار طاهر- باحثة ومترجمة من العراق




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً