العدد 5328 - السبت 08 أبريل 2017م الموافق 11 رجب 1438هـ

تجربة سنغافورة... من دولة معدومة الموارد إلى «نمر آسيوي»

أحمد صباح السلوم

رئيس جمعية البحرين لتنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة

في الظروف الاقتصادية الاستثنائية يبحث الجميع عن حلول للخروج من الأزمات، أحياناً تكون الحلول التقليدية، وفي أحيان أخرى يجب أن تكون غير تقليدية للخروج بنتائج إيجابية وفعالة. تتشابه ظروف البحرين الجغرافية من حيث المساحة وطبيعة الأرض، والاقتصادية من حيث الموارد وعدد السكان، مع اثنتين من دول «النمور الآسيوية» هما سنغافورة وهونغ كونغ، وأعتقد إن إلقاء الضوء على ملامح التجربة الاقتصادية في كلٍّ منهما، ربما يساعد عدداً كبيراً من صنّاع القرار وحتى القراء، على استلهام أفكار جديدة ربما تكون في المستقبل مرشداً لهم في طريق إيجاد الحلول الاستثنائية، والمشروعات المتفردة خدمةً للاقتصاد الوطني.

تبلغ مساحة سنغافورة قرابة 700 كم مربع، وخُمس تلك المساحة لم تكن موجودةً عند التأسيس، بل تم ردم المياه لتوسيع مساحتها. لاحظ هنا الشبه مع ما تشهده البحرين حالياً وسابقاً من عمليات تمدّد ودفان، أنتجت أحياء لم تكن موجودةً بالكامل على الخريطة البحرينية قبل عقود قلائل، مثل الجفير وأمواج وديار المحرق والسيف وغيرها. لكن تجربة سنغافورة أثبتت أن المساحة ليست عاملاً مهماً في نهضة الدول، حيث نجحت في أقل من أربعة عقود، بدءًا من الستينات وحتى مطلع الألفية الثالثة، في تحقيق قفزة تنموية شاملة.

يبلغ عدد سكان سنغافورة نحو 5.5 ملايين نسمة، لكنها شهدت في غضون 50 عاماً تحولاً كبيراً من بلد فقير يبلغ متوسط دخل الفرد فيه قرابة الـ500 دولار، إلى بلد متقدّم أغلب شعبه متعلم، ويبلغ متوسط الدخل فيه الآن نحو 65 ألف دولار وفق آخر إحصائيات 2016، وجاءت في المرتبة الثالثة عالمياً بعد قطر ولوكسمبورغ، وقبل دول عملاقة اقتصادياً مثل الولايات المتحدة وسويسرا وألمانيا والنرويج وأستراليا وكندا وجميع دول الخليج وأوربا!

فعندما يزيد دخل الفرد 130 ضعفاً فى غضون 50 سنة، فهذا إنجاز يستحق الدراسة عن كثب، لاستنباط مواضع القوة الحقيقية لهذه التجربة وكيفية الاستفادة منها، علماً بأن سنغافورة كدولة، تندرج ضمن الدول الفقيرة في الموارد الطبيعة (بترول، معادن). والسؤال هنا: كيف تحوّلت هذه الدولة الصغيرة المساحة، الضئيلة الموارد، إلى نمر آسيوي ذي مخالب اقتصادية حادة؟

في كتاب رئيس وزرائها الشهير، لي كوان يو، «من العالم الثالث إلى الأول... قصة سنغافورة»، يحكي كيف واجه الظروف الاقتصادية الصعبة لبلاده بعد جلاء الاحتلال البريطاني، وكيف استطاعت سنغافورة أن تضع نفسها على الخريطة كمركز مالي ولوجيستي عالمي، واستطاعت التركيز على الصناعات التكنولوجية، ما أدى إلى زيادة إنتاجية ودخل الفرد بشكل كبير، لتصنّف ضمن النمور الآسيوية الأربعة إلى جانب كوريا الجنوبية، وتايوان وهونغ كونغ، حيث 90 في المئة من نمو الاقتصاد العالمي يحدث في قارة آسيا.

ويقول لي كوان يو، إن‏ البداية كانت مع قطاع السياحة في مطلع الستينات، حيث كان هو الخيار الأول أمام صانعي التاريخ في سنغافورة لإحداث طفرة في معدلات النمو والدخل. ووفّرت السياحة فرص عمل ليست بالقليلة، إلا أنها كانت غير كافية بالمرة لابتلاع حجم البطالة المرتفع، خاصةً مع انسحاب القوات البريطانية التي كانت توظّف ما بين 40 إلى 50 ألف عامل محلي.

على رغم نجاح الكثير من الإصلاحات الإدارية والمالية ومحاربة الفساد، وتدارك العجز المالي للحكومة، إلا أن هذه الجهود كانت غير كافية، فكان الخيار الثاني هو قطاع الصناعة، إذ تم إنشاء المصانع والتركيز على الصناعة التحويلية في البداية، وتأمين احتياجاتها من الطاقة بواسطة أربعة مفاعلات كهروحرارية يصل إنتاجها إلى نحو 25 مليار كيلو واط، وقد أقنع لي كوان البريطانيين قبل رحيلهم بعدم تدمير أحواض سفنهم بغرض تحويلها للاستخدام المدني.

وفي هذه الأثناء ضاعفت سنغافورة من جهودها، وقامت بتحسين بيئة العمل، وأمّمت شركات القطاع الخاص التي عانت من نقصٍ في رأس المال أو الخبرة مثل بنك سنغافورة وخطوط الطيران، ثم عملت على فتح أسواق جديدة وإعادة هيكلة منظومة الاقتصاد بأكملها، لاسيما بعد ظهور أسواق تجارية ذات تكلفة أقل لدول نامية مجاورة، وقد كانت أولى بوادر النجاح لهذه الخطة دخول شركة تكساس انسترومنت في العام 1968 لتصنيع الترانزستور.

ولتعزيز القطاع الصناعي تم تأسيس مجلس التنمية الاقتصادي في الستينات، ساهم مباشرةً في بناء اقتصاد حديث ومتطور عن طريق إقامة صناعات وطنية مملوكة للدولة، ويخلو المجلس من أي توجيه أو سيطرة حكومية، فهو مكون من رجال الأعمال والخبراء ذوي الرؤية، مما ترتب عليه بالتبعية اتخاذ قرارات تنموية بناء على مدى جدواها الاقتصادية، ورؤاها بعيدة المدى.

إلا أنه بعد سنوات من التجربة قرّر لي كوان وحكومته، أن أفضل وسيلة لتعزيز الاقتصاد بجانب كل ما سبق من جهود، هي جذب استثمارات الشركات المتعددة الجنسيات، لذا كان المسلك الثالث والمكمل للخطوات السابقة. وللمضي في هذا الاتجاه كان لابد من تدعيم بنية تحتية تنتمي للعالم الأول، وتستوعب حجم الاستثمارات المرجو اجتذابها في مطلع الثمانينات. وبالفعل، تمكّنت الدولة من إقناع الأميركيين واليابانيين والأوروبيين من تأسيس قاعدة للأعمال بالبلاد في منتصف الثمانينات، فتحوّلت سنغافورة إلى واحدٍ من أكبر مصدّري الإلكترونيات في العالم، خاصةً مع إصرارها على دخول القرن الجديد بصناعات تكنولوجية متطورة تغنيها عن الاعتماد على الصناعات التقليدية التي تعاني منافسةً شديدةً من قبل الدول ذات الأجور المنخفضة نسبياً كالصين وباقي دول جنوب شرق آسيا.

لذلك لجأت سنغافورة إلى رفع كلفة العمالة الأجنبية في الصناعات القائمة على الأجور المنخفضة لإجبارها على التحوّل نحو الصناعات ذات القيمة المضافة العالية، بيد أن هذه السياسات لم تثمر عن نتائج فعلية إلا في نهاية الثمانينات، أي بعد عشرين عاماً على الإصلاح الاقتصادي والتعليمي، حيث تعد أحد كبار مصدري التكنولوجيا في العالم مثل أجهزة الكمبيوتر ومستلزماتها.

أما الخطوة الأخيرة في إرساء هذه الجهود التنموية فكانت دعم القطاع الخدمي، متمثلاً في إنشاء قطاع مالي قوي يستوعب كافة التطورات الداخلية، وحجم التعاملات البنكية والمصرفية لتلك الاستثمارات الأجنبية الجديدة. وارتفعت نسبة مساهمة القطاع المالي ليصل إلى 27 في المئة من دخلها القومي، وأصبح بها أكثر من 80 مصرفاً تجارياً، ونحو 700 مؤسسة مالية أجنبية تتخذ سنغافورة مقراً لها، بالإضافة إلى بورصة مزدهرة لتبادل العملات الآسيوية وبفوائد تشجيعية، ما أسهم في ديناميكية الصناعة المالية في سنغافورة.

إقرأ أيضا لـ "أحمد صباح السلوم"

العدد 5328 - السبت 08 أبريل 2017م الموافق 11 رجب 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 12 | 6:49 ص

      نماذج اقتصادية كسنغافورا ودُبَيْ ستسيقظون يوما وقد أصبحت نسيا منسيا. أي نهضة اقتصادية لا تكون الزراعة محورها الأساسي هي نهضة وهمية و قلاع مبنية على الرمال تزول مع العاصفة الأولى! طبعا عندما أقول الزراعة و الأمن الغذائي فأنا لا أستثني النشاطات الإقتصادية المساندة لها (كالصرافة و الصناعات الكيميائية و الميكانيكية)... لديك النموذج الألماني الذي يعود إلى القرن الخامس عشر، نموذج تم بناءه على أن تكون الزراعة هي عصب الإقتصاد و تكون الصناعة (صناعة آلالات الري وإنشاء الطرق) مساندة لها.

    • زائر 11 | 4:03 ص

      احنا احسن منهم احنا اصل وفصل واعيونا اكبر من اعيونهم

    • زائر 10 | 4:02 ص

      نحن من اغنى دول العالم واقصد التعاون الخليجي لدينا البترول والغاز والمليارات يمكن شراء حتى العقول لحين تأهيل عقولنا ؟
      الآن وقد طارت المليارات نبكي على اللبن المسكوب ؟ ولكن ان تأتي متأخرا افضل ؟ نرجع للعقل الرشيد ونشوف باخلاص مصلحة الوطن ؟؟

    • زائر 9 | 3:03 ص

      سنغافورة اقل مساحة من البحرين وأكثر تعداد سكان من البحرين ومعدومة الموارد الطبيعية الفرق انها ردمت البحر ليس ليقسم ويباع قسائم سكنية بل لتنشأ علية موسسات اقتصادية ومصانع تخلق فرص عمل ل 5.5 مليون أنسان .شعوب مبدع حيةتستحق الحياة لا تقبل ان تعيش على الهامش.

    • زائر 8 | 2:42 ص

      الفرق كل الفرق في الارادة الصادقة .. يعني بالعامي ما عندنا إرادة سياسية للنهوض بالبلد على غرار التجربة السنغافورية .. ...

    • زائر 6 | 2:05 ص

      قبل 60 عاماً في الوقت الذي بدأت فيه سنغافورة معدومة الموارد كنا نحن دولة متعددة الموارد والمصادر ، فبعكسهم تماماً كان لدينا تاريخ وحضارة - شعب متعلم - زراعة وموارد مائية - بترول وموقع استراتيجي وسط محيط من الغاز والنفط !!
      فلماذا إذاً !!!؟؟؟

    • زائر 4 | 12:20 ص

      لقد اوضحت ان جهاز مجلس التنمية الإقتصادي هو جهاز مستقل عن الحكومة ويضم رجال أعمال وإقتصاديين مو ناس ..... وهنا مربط الفرس

    • زائر 3 | 11:34 م

      الفرق أنهم استثمروا في العقول والابداع البشري ونحن هنا نقتل العقول والابداع ونكسّر المجدايف

    • زائر 2 | 10:26 م

      عزيزي قبل اكثر من 25 سنة كانت وفود رسمية من البحرين تزور سنغافورة للإطلاع على تجربتها و تحويل البحرين سنغافورة الخليج . ولكن طلعة دبي و الحين قطر و بعدنا نكتب عن تجربة سنغافورة .

    • زائر 7 زائر 2 | 2:10 ص

      قبل 30 سنة صدعوا راسنا بشعارات سنحول البحرين الى سنغافورة الخليج (زين بعد ما قالوا سويسرا الشرق).
      أصبحنا ولله الحمد سنفورة الخليج (تذكرونها زوجة بابا سنفور؟)

    • زائر 1 | 10:11 م

      في سنغافورة ﻻتوجد ثقوب سوداء !!!!!

اقرأ ايضاً