العدد 5361 - الخميس 11 مايو 2017م الموافق 15 شعبان 1438هـ

التاريخ يكتبه الأقوياء

شبر إبراهيم الوداعي

باحث بحريني

التاريخ معادلة ومؤشر مهم في تشخيص محطات مسيرة التطور الحضاري للمجتمعات البشرية، وتلك المعادلة تؤكد فعلها الإيجابي في التوثيق المنهجي للحوادث التاريخية، وتقييم معطيات أخطائها وإيجابيات منجزها في التغيير والتنمية المجتمعية، بالارتكاز على معايير المنهج العلمي في البحث، ورصد الحوادث التاريخية وتقييمها، وفق مبدأ الشفافية والأمانة العلمية في توثيق الحوادث التاريخية، البعيدة عن ماكينات التزوير، وقلب وتحريف الحقائق والوقائع، وأن تبني ذلك النهج يساهم في تغيير المعادلة التاريخية (التاريخ يكتبه الأقوياء) التي تمثل مدرسة في تحريف ثوابت التاريخ، وينظر إليها المحققون التاريخيون بعين الريبة والحذر، وتؤكد حضورها في الحوارات الفكرية للباحثين والمهتمين بقضايا التاريخ والفكر الاجتماعي، إذ إن الثابت في حقائق طائفة من الحوادث التاريخية التي جرى توثيقها، بالارتكاز على منهج تلك المدرسة أنها تمثل السبب الفعلي في بناء الحقائق التاريخية المغلوطة، وحرف حقائق الحوادث التاريخية، وإنكار الحقائق والثوابت التاريخية قويمة الأصول المرجعية، والتسبب في عدم استخلاص المخرجات المفيدة في عملية التغيير والتنمية الاجتماعية.

المدرسة سابقة الذكر بَيّن واقع أضرارها التاريخية أحد الأصدقاء في الحوار الفكري الذي جمع مجموعة من المهتمين بقضايا الفكر والثقافة والمعارف الاجتماعية والإنسانية، وجرى طرح الرؤية بشأنها في سياق الجدل الذي دار بشأن صحة الثوابت التاريخية لبعض الحوادث، التي صارت تتصدر عدداً من المؤلفات الضعيفة في مناهجها البحثية، وغير الموثوقة في مصادر معلوماتها وقراءاتها للحوادث والمواقف التاريخية، وتبنيها منهج بهرجة الحوادث والأشخاص، وتسطير المعلومات المرسلة والضعيفة وغير الدقيقة في مضمون إحداثياتها، وغير المفيدة في الارتقاء بمنهج البحث، وإضافة الجديد والمفيد إلى الحصيلة المعلوماتية للقارئ، وجرى ذلك الحوار في سياق النبش في حقائق التاريخ ومسيرة المجتمعات في بعض المراحل المهمة من التطور الاجتماعي، وأثر التزوير في تخريب التاريخ وإخراجه في غير صوره الحقيقية، وواقع حوادثه وثوابت منجزه الفعلي في التغيير الاجتماعي، وإن ما دعا إلى ذلك الحوار، بروز مدرسة الحداثة في كتابة التاريخ، غير الملتزمة بالمنهج العلمي في البحث، واتخاذها نهج تزوير حقائق التاريخ، مستفيدة في ذلك من واقع تعاظم الأمية المعرفية لقطاع واسع من المجتمع، وشيوع مذهب الصنمية الفكرية في عبادة الفرد غير المُدرك أبعادها الفردية والمجتمعية، وتلك الحالة هي إفراز طبيعي لواقع تعزز شمولية الجهل الاجتماعي، وتغييب العقل، وتحفيز التصديق بقدسية الأفراد التي ترتقي إلى عبادة الفرد غير المدرك واقعها، واعتبارها جزء من الالتزام والواجب الذي تفرضه الطقوس والأعراف الاجتماعية.

الصنمية الفكرية تجعل الفرد؛ بل قطاع واسع من المجتمع مُسيراً في خياراته وفي قراراته وأحكامه، ويبقى خياره الأوحد الاستماع إلى مصدر وحيد واحد يُلتزم بتوجيهاته، وعندما نشير إلى ذلك، لا نعني فئة أو جماعة فكرية دون أخرى، إذ نرى أن ذلك المسار والمنهج مخرجاته السلبية على واقع المنظومة المجتمعية مسارها واحد، ويمكننا الجزم أن ذلك المسار مصدر خطر على الأمن الاجتماعي، إذ يجعل المجتمع يضل الطريق السوي في التشخيص، ويعيش حالة من الاتكالية، وانعدام روح المبادرة في البحث عن الحقيقة، ما يجعل المجتمع في حالة سُبات، ويدخل بذلك في عالم الخرافات والشعوذة الفكرية، وتصديق ما يقوله الصنم الفكري، وتنفيد توجيهاته وأوامره دون تمعن أو مراجعة وتقييم، وتحديد مدى واقعيتها وفائدتها، والتي يمكن أن تكون ذات بُعد خطير على الواقع الاجتماعي، إذا ما عمدت في استغلال وضعها الاجتماعي في تبني مسار بث الفتنة بين المكون الاجتماعي وتجزئته، مستفيدة في ذلك بواقع ظروف العرف الاجتماعي والقيم الأخرى، وذلك ما يدفع المجتمع إلى الانجرار خلف الفتاوى والمرئيات الوهمية وغير العاقلة، ويتسبب في تفتيت البناء المجتمعي، وهدم مقومات الأمن الاجتماعي، وذلك يمكن تبين واقعه في الحوادث المأساوية التي نشهدها في مناطق مختلفة من عالمنا العربي.

السموم الفكرية تمثل جوهراً رئيسياً في مؤلفات اجترار التاريخ وتحريفه، وذلك ما يمكن تبينه في المؤلفات الحديثة التي تقلب حقائق فهم معنى مسيرة الإنجاز، إذ يتصدر البعض مستفيداً من انتمائه إلى عائلة تتميز بخصوصية مكانتها في الحراك الثقافي والاجتماعي، في صف الإحداثيات، واجترار وترويج بعض المواقف والحوادث غير الصحيحة في زمن ما، والتي على رغم خطئها، وضعف قوامها وانعدام قيمتها الفعلية وفوائدها المجتمعية، يحرص على سردها ويضيف إلى قوامها المؤثرات المحفزة لمواقف فئة محددة من المجتمع، ويضع تلك المؤثرات في سيناريو الإنجاز، في محاولة تبييض المواقف غير الموزونة التي تبنتها فئة من المجتمع، دون أن يدرك ما يمكن أن يقدمه ذلك السرد وتأكيده على صحة قوام نهج تلك المواقف من إساءة وتخريب للبناء الثقافي للفرد والمجتمع، ويجري توصيف مساوئ ذلك المنهج في البحث، في كتاب «مقاربة في فهم البحث العلمي» للباحث «د.محمد باباعمي» الصادر عن دار وحي القلم - العام 2014، إذ يشير إلى أنه «كثيراً ما يُغلّف التعصُب والانتماء غيرُ المعقول بغشاوة من المعقولية، فيتحوّل إلى حقيقة في الظاهر، ثم مع تكرارها يصبح حقيقة مطلقة، لا يستطيع أحد أن يردُها، وإن فعل وُسِمَ بالجهل والتعنُت».

المجتمع في البحرين تاريخه ثري بالمواقف التاريخية، والفعل الثقافي والفكري المتعدد المشارب، والمنحدرات الاجتماعية والثقافية والفكرية، وتتميز المجتمعات المحلية في المدن والقرى بمساراتها التاريخية وبحصيلتها المعرفية والثقافية، وتنوع أنشطتها المهنية والتراثية، التي هي جزء رئيسي من الموروث الثقافي للمجتمع البحريني، إذ ازدهرت في القرى تقاليد حرفية دخلت ضمن الموروث الثقافي لكل مجتمع ضمن خصوصيته الاجتماعية، كما برزت شخصيات مهمة في بحور الثقافة والعمل الاجتماعي والفكر الإنساني، تبوأت مكانة مهمة في الوسط الاجتماعي بفعل نشاطها الفكري والثقافي والاجتماعي والأدبي، وتلك الظاهرة تمثل خصوصية مهمة في تاريخ المجتمع البحريني، لذلك من المفيد أن تبادر الفئة المتميزة بقدراتها المنهجية في حقول المعرفة والبحث العلمي في تصنيف وتدوين وقراءة حقائق ذلك التاريخ، ومدلولاته التاريخية والاجتماعية ليكون مصدراً علمياً يمكن أن تستفيد من حصيلته المعلوماتية والمعرفية، الأجيال الحالية والمقبلة لبناء معارفها الرصينة بشأن تاريخ التطور الحضاري للمجتمع البحريني.

التوثيق الدقيق المرتكز على ثوابت أسس منهج البحث العلمي في قراءة التاريخ والتراث الثقافي والاجتماعي، وجهود وإبداعات أعلام الفكر والعلوم الإنسانية، مطلب في حاجة إلى أن يتصدر مسيرته البحثية والإبداعية الباحثون الذين يمتلكون حصيلة ثقافية ومعلوماتية واسعة البحور المعرفية والأدبية، ويتميزون بقدراتهم العلمية والمنهجية والصدقية والشفافية، ويلتزمون بالأمانة الأخلاقية في البحث، البعيد عن التزامهم بمنهج الصنمية الفكرية، وذلك يمكن أن يساهم في بناء مادة علمية خالية من المغالطات التاريخية والصنمية الفكرية، ويمكن أن تشكل إضافة إيجابية في البناء الفكري الخالي من الشوائب والإضافات غير القيّمة، وبناء مدرسة مؤسسة الأصول في المناهج العلمية في البحث، يمكن أن تكون مصدراً مأموناً للغذاء الفكري الرصين للأجيال الحالية والمقبلة.

إقرأ أيضا لـ "شبر إبراهيم الوداعي"

العدد 5361 - الخميس 11 مايو 2017م الموافق 15 شعبان 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 4:29 ص

      ....... في احدى محاضراته تكلم عن احتكار كتابة التاريخ من خلال هيمنة الثلاثي عليه وهم ....

    • زائر 1 | 4:17 ص

      تحية لك استاذ شبر
      لم يكتب التاريخ الحقيقي المطلق و المجرد من الشوائب بعد و لن نعرف مكانها في اي وقت من الاوقات فالتاريخ مشوه و ممزوج بالشواءب و الشواظ و ربما الالغام
      سؤال: من كتب التاريخ هل هو
      الغني او الفقير القوي او الضعيف ...او ...المؤمن او الملحد الغربي او الشرقي
      كان من كان من كتب التاريخ ولو بلغة و بحث علمي لا يمكن الا ان تشوبه الشواءب و تتوارثه المواريث
      اما صانع احداث ااتاريخ فهو الكاتب الفعلي للتاريخ الحقيفي المطلق بسطورة و تفاصيلة وان لم يكتب على ورق
      ...

اقرأ ايضاً