العدد 2196 - الثلثاء 09 سبتمبر 2008م الموافق 08 رمضان 1429هـ

المعضلة الفلسطينية... إعادة إنتاج الأزمة

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

تتسارع في الأيام الأخيرة وتصطك، أفكار كثيرة وأطروحات مختلفة وربما متناقضة، حول حاضر ومستقبل القضية الفلسطينية، التي نرى أن كل الذئاب قد تجمعت على ما تبقى من أشلائها، للإجهاز عليها نهائيا!

ولعل أخطر ما يطرح من مثل هذه الأفكار القديمة المتجددة، يجري في اتجاهين يلتقيان في النهاية عند نقطة واحدة... الاتجاه الأول يقول بإرسال قوات عربية بقيادة وقوام مصري إلى قطاع عزة، بحجة حمايته أولا من الاجتياحات الإسرائيلية، وثانيا مساعدته في ضبط الصراع الفلسطيني - الفلسطيني بعد أنفراد حركة حماس بالسيطرة عليه منذ أكثر من عامين.

أما الاتجاه الثاني فيدفع في طريق تصاعدي أخطر، وخلاصته تقول أما وأن الفلسطينيين قد انقسموا سياسيا على نحو محزن، وانفصلوا جغرافيا بين غزة حيث سلطة حماس، وبين الضفة حيث سلطة فتح، فإن الأمر الواقع بعد تعثر مفاوضات عباس أولمرت، أصبح يقضي بإعادة وضع قطاع غزة تحت الإشراف المصري، ووضع الضفة الغربية تحت الإشراف الأردني، على نحو ما كان قائما قبل عدوان «إسرائيل» العام 1967 واحتلالها الكامل لكل فلسطين، امتدادا لسيناء المصرية والجولان السورية وبعض الأراضي اللبنانية.

وأحسب أن هذه الأفكار التي تطرح في الاتجاهين بهذا الشكل والسفور، إنما تعيد خلط الأوراق، مثلما تعيد إنتاج الأزمة لتبدأ القضية الفلسطينية من نقطة الصفر للمرة العاشرة، وهو أمر إذ نحذر من مخاطره باعتباره كمينا معاديا، فإننا نستدعي الوعي العام والقوى الوطنية والشعبية لمقاومته مبكرا، قبل أن تجر بعض الحكومات العربية في السير فيه هبوطا مرة أخرى إلى نقطة الصفر!

وأعلم أن ما أطالب به الآن يصطدم مع آراء بل مشروعات آخرين، وأعلم أن هذا كله إن كان يطرح الآن على استحياء، فإنه سيصبح غدا دعوة عامة، يحارب في صفوفها صناديد كثر يرفعون في وجه معارضيهم صواريخ قصير أو طويلة المدى، تعودوا توظيفها حسب الظروف والأهواء لاغتيال مخالفيهم في الرأي!

ولمزيد من التوضيح نبدأ بالاتجاه الأول الذي يدعو إلى إرسال قوات عربية بقيادة وقوام مصري إلى قطاع غزة، فنقول إن هذا كمين تاريخي لمصر أولا وأخيرا، إذا ما وافقت على مثل هذه الخطوة، التي استشعر معارضة قطاعات شعبية عريضة لها إدراكا واعيا لمخاطرها!

وهي معارضة ترى أن إرسال قوات مصرية خارج الحدود، وخصوصا إلى غزة على الحدود الشرقية، إنما يجب أن يكون للدفاع عن الشعب الفلسطيني في مواجهة العدوان الإسرائيلي القائم والدائم، وإنما يجب أن يساعد في تخفيف أمراض وأوجاع الشعب الفلسطيني وفك الحصار من حوله، وليس كما يتصور أصحاب المشروع «لضبط الأوضاع الأمنية»، والمعنى الكامن لهذه العبارة هو حماية «إسرائيل» من هجمات المقاومة الفلسطينية، وفي الوقت نفسه كبح جماح حماس وإيقاف سيطرتها المطلقة على غزة.

والمؤكد من وجهة نظرنا على الأقل أنه لا مصلحة عليا لمصر أن تتحول إلى ذراع حامية لـ «إسرائيل»، وبالتالي متصادمة مع من يقاوم «إسرائيل»، سواء حماس أو فتح أو الجهاد أو المنظمات الفلسطينية الأخرى... كما أنه لا مصلحة لمصر ولا لأي دولة عربية تدرك المعنى التاريخي للقضية الفلسطينية، أن تتورط في شق أو زيادة شق الصف الفلسطيني بالانحياز لطرف أو منظمة على حساب الأخرى، لقد كانت هذه أخطاء الماضي التي مارستها نظم عربية، تبينت حديثا كم من الجرائم ارتكبت بأسم الدفاع عن القضية الفلسطينية، وليت مثل هذه النظم ترفع يدها عن تشجيع حماس على مزيد من التشدد، أو دفع فتح نحو تصعيد مستمر ضد حماس وغيرها... ما يعمق الانشقاق الفلسطيني لصالح العدو الإسرائيلي...

إن خطوة إرسال قوات عربية مشتركة أو مصرية منفردة إلى قطاع غزة، لا يمكن أن تتم إلا في ظروف وضمن شروط واضحة، أهمها توافق واضح وطلب صريح من الأطراف الفلسطينية مجتمعة، وثانيا اتفاق عربي من خلال الجامعة العربية يلزم الأطراف العربية والفلسطينية بمثل هذه الخطوة، وثالثا غطاء دولي تضمنه الأمم المتحدة بكل قوة وفاعلية...

كل هذا جميل وظريف، ولكنه غير منطقي إذ من الصعب، ربما من المستحيل، توفير هذه الشروط مجتمعة، في غياب الشرط العملي الأصعب، الكامن في سؤال بسيط وهو، هل يمكن تحقيق ذلك من دون موافقة مباشرة وصريحة من «إسرائيل» الممسكة بأهم أوراق اللعبة وصاحبة أهم عناصر القوة، وهي قوة الاحتلال المباشر والحصار الدائم... قوة الأمر الواقع... أشك تماما في ذلك، إلا إذا حصلت «إسرائيل» على أقوى الضمانات الفلسطينية والمصرية والعربية والدولية بأن كل ما يتم يصب في مصلحتها، ويساهم في الدفاع عن أمنها، ويساعد في تدمير كل عناصر المقاومة الفلسطينية.

أما إذا ذهبنا إلى معالجة الاتجاه الثاني الداعي إلى إعادة وضع قطاع غزة تحت الإشراف المصري، ووضع الضفة الغربية تحت حكم الأردن، فسنرى أنه اتجاه حتى لو تردد على ألسنة عربية، إنما يترجم في النهاية المشروع الإسرائيلي القديم والمستمر، وهو «الوطن البديل» يمعنى أنه لا مكان للشعب الفلسطيني في وطنه، ولا حديث عن حق عودة اللاجئين، ولا مشروعات لإقامة دولة فلسطينية مستقلة حقيقية، إنما المكان والحديث هو عن الأردن وطنا للفلسطنيين، خصوصا وأن معظم أهله هم من أصول فلسطينية.

يبقى جيب غزة الصغير الذي لا تزيد مساحته عن 350 كيلو متر مربعا، لكنه يزدحم بأكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني، محاصرين محبطين مستعدين لتفجير أنفسهم في وجه قاتليهم ومحاصريهم، فالحل الجذري، كما يروج المشروع الإسرائيلي الأميركي الأوربي، هو إلحاق هذا القطاع الصغير المساحة المزدحم السكان بسيناء المصرية المتسعة المساحة القليلة السكان، وأن تتولى مصر مسئوليته كما كانت تفعل في الفترة ما بين حربي 1948 و1967.

ونرى أن كمينا دمويا وتاريخيا أخطر أمام مصر، فضلا عن الأردن بالنسبة للضفة، وما نقصده أن توكيل مصر، أو إغرائها بحكم غزة لا يشكل لها منحة سخية وإنما يشكل محنة قوية، لأن المراد منه وضع حاملة متفجرات في صدرها، فتاريخيا لا تقبل مصر أو غيرها أن تساهم في حرمان شعب يقوم دفاعا عن حريته لأستغلاله من الحصول على حقه في وطن مستقل!

فإن كانت ظروف 1948 قد فرضت وضعا معينا، فظروف اليوم وأستحاقات الغد مختلفة تماما، لعل أهمها أن حق إقامة الدولة الفلسطينية أصبح معترفا به عالميا، كما أن توكيل مصر بحكم غزة في هذا الوقت بالذات، يعني إعفاء الاحتلال الإسرائيلي من مسئوليته التاريخية، مسئولية القتل والإبادة والتدمير والاعتقال والحصار والتجويع ضد شعب كامل على مدى ستين عاما على الأقل، فلماذا نعطي شهادة حسن سير وسلوك لمحتل غاصب الآن، حتى لوكانت الحجة أن مصر ستكون أرحم على فلسطيني غزة من «إسرائيل»، بل لماذا نتخيل، مجرد تخيل، أن يقع صدام بالسلاح بين الشعب الفلسطيني الذي يقاوم «إسرائيل»، فيضطر إلى الاشتباك مع قوة مسلحة مصرية، تطبق الإشراف المصري على غزة، فإذا بالنتيجة الدموية معروفة، بل هي مرفوضة مكروهة، وخصوصا أنها لم تحدث تاريخيا كما حدثت في بلاد عربية أخرى. ضمن ظروف معروفة!

أدرك جيدا قوة وطبيعة ودوافع المخاوف الأمنية المصرية، من تنامي قوة حماس والتيارات الدينية المتشددة في غزة، ومخاطر إقامة إماراة إخوانية مرتبطة بحركة الإخوان المسلمين داخل مصر، أو بالتمدد الشيعي الإيراني خارجها، وأعرف أن أصحاب المشروع الإسرائيلي الأميركي الأوروبي والعربي أيضا، الذين يحرضون مصر إرسال قواتها للسيطرة الأمنية على غزة، يغرونها بفكرة ضمان أمنها الوطني من خطر التشدد الديني الذي يمكن أن يحاصرها من الداخل والخارج، ولكنه في اعتقادنا إغراء فاسد بثمرة فاسدة، ذلك أن الخطر الحقيقي الذي يهدد مصر استراتيجيا عبر غزة وفلسطين هو الخطر الإسرائيلي أمس واليوم والغد، وهو ما يجب التعامل معه والاستعداد له في كل حين.

أما خطر التشدد الأمني في غزة أو في غيرها، فما زال تحت السيطرة، ونظن أنه لن يستطيع الخروج من تحت السيطرة، وإلا كان قد نجح الأصل في الداخل، ونعني حركة الإخوان المسلمين، ولنا مع كليهما ملاحظات خلافية كثيرة.

والخلاصة... من الخطأ الجسيم أن نجري مندفعين وراء ترويج أفكار ومشروعات مشبوهة، من دون أن نتعمق حقيقة أهدافها، وأن نقع في خطيئة خلط الأوراق لنصل في النهاية إلى نقطة الصفر، حيث تبدأ إعادة إنتاج الأزمات، من دون أدنى وعي أو تعلم أو أعتبار، حتى لدروس التاريخ!

خير الكلام: بدم القلب قبل دمع العين:

ما كنت أحسب قل دفنك في الثرى

أن الكواكب في التراب تغور

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 2196 - الثلثاء 09 سبتمبر 2008م الموافق 08 رمضان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً