العدد 2155 - الأربعاء 30 يوليو 2008م الموافق 26 رجب 1429هـ

نقطة الجيم التي سقطت

خلّفت وراءها بوابة القصر ذات الخشب الفاخر، وألقت بخطاها خارج القصر، بيديها المرتعشتين لملمت أطراف خمارها تمسح بها عينين غائرتين في حدقتين تعصف بهما الدموع.

لعنت الجحود بصوت سرّها، وتنفست الصعداء وحرارة القهر تنبعث من أنفاسها، وكيف لهذا الحزن المضطرم أن يخمد أواره، الآن عرفت مقدار ما يملك هؤلاء السادة من وجوه متعددة الاستخدامات، كانت لا تبصر إلا الوجوه المثبتة في رؤوسهم. وجوه يجيدون إبرازها بالصورة المطلوبة، لا يشعر الآخرون بزيفها، ولا تتحرك ذرة شك فيهم بكذب ما يبرزون.

خطوة رجلها يثقلها همّ الصدمة وفي حنايا جسدها تحوم حرب القلق كأنها حرب البسوس تلتهم الرجال وتبقي الديار خالية، حرب قلقها تبتلع راحتها وتبقي طعم الانكسار مكابرا.

منذ سنوات فحسب قادها الحظ إلى البوابة الخشبية الفاخرة التي باتت خلفها, الحظ ذاك الذي مزج لها المرارة بالحلاوة، يقفل الأبواب حين تقبل لها مشرعة، ويعابث أملها المفتوح على آخره، ويضيق مدخله حتى لا ينفذ لها بصيص منه.

ويصوّب رميتها يوم يقودها بتصاريفه إلى هذا القصر الباذخ، ويذلل لها المستحيلات، لم يكن أملها في أكثر من عمل يبعث لها قوتا يسد رمق حاجتها.

أفاض الحظ في كرمه عليها، تقبّلها سيد القصر خادمة تقوم بتأدية حاجيات القصر التي لا تنتهي، ضمّها إلى مجموعة خدم القصر، ثانية تفضل عليها الحظ بإنعامه حين علم سيد القصر بإلمامها بالضرب على الآلة الكاتبة وأوعز إليها بإعداد رسائله المهمة، طبعا أفاض السيد عليها مزيدا من الإكرام شكرا منه لإنجاز رسائله.

جرت الأموال في كفها جري المياه المنحدرة من شلال، تأتي من جيب السيد فتمر في يدها مستقرة في جيبها، نعمت بدلال معاملة خاصة واعتقدت جازمة أن الحظ قد ابتسم لها مؤبدا، ولكن ما كل ظن بيقين وما كل اعتقاد بأكيد.

وجاءت لحظة الصفر التي تفيقها من لذيذ ما عاشت من مرحلة نعيم وهناء، رأت وجها آخر من وجوه سيدها المغيبة، بل رأت الوجوه كلها في وجه مقيت.

تلتفت إلى الوراء معطية القصر التفاتة من عينيها الذابلتين لتجد القصر متربعا على مساحة لا تحدها نظرة واحدة، وهو يفترس الأرض بأطرافه المترامية، لقد ابتعدت عن أسواره بعيدا ولايزال يومض في جنبات قلبها بماضيه القريب.

لحظة رأت الوجه الآخر لسيدها جاءها مكشرا عن غضبه يزبد ويرعد فيها، ألقى أمامها الرسالة التي نضدت حروفها على الآلة مؤخرا، لم تحتج لسؤال يبرر زبده وغضبه، رأت في الورقة دائرة حمراء حول كلمة، بفطنة صاحب المهنة أدركت سر الغضب.

يداها أغفلت التنضيد فسقطت سهوا نقطة الجيم، فتحولت الجيم إلى حاء، وعندما تكون الرسالة موجهة إلى ذوي الشأن الرفيع والسمو تصبح النقاط ذات أهمية عظمى بعظمة مستقبليها، فلربما غياب نقطة ما يحول المدح المنشود إلى ذم غير مقصود، وأنى لك بالتبريرات والأعذار.

قدر حظها ذاك الباسم في وجهها قبل حين من الدهر هو ذاته الذي أوقعها في سهو أسقط نقطة الجيم، فحول المدح إلى ذم، قرأت العبارة مجردة من نقطة الجيم فتلعثمت الكلمات في فضاء فمها لهول ما أدركت من انصراف المعنى.

رأت كل الوجوه المخبأة في ذات سيدها تبرز في نظراته المتوحشة، وعلمت أنها كانت هانئة في بحبوحة من العيش ولكن في عرين الأسد الذي لا تأمن تكشيرة صولته.

تكسرت الاعتذارات فوق طرف لسانها واندفقت نظراتها الكليلة في إطراقة طويلة ساعة انهمرت الشتائم عليها من وجه سيدها الآخر، سقطت كل التقريعات متناثرة حولها، لم يرق إلى سمعها إلا أمر المغادرة فورا.

قرت الكلمات في أذنيها ككرات من الفولاذ ملتهبة قاسية اللهب، تترك خلفها حروقا غائرة لا تبرئها البلاسم والأيام، لمّت بضع القطع من ملابسها وقليلا من مال تبقى لها من خصب ما جاد عليها به حظها الخداع وانصرفت، لا تعلم إلى أين. أعادت الالتفات إلى القصر، بعيد بات ولم يتبق للناظر منه سوى أنوار مصابيحه المتلألئة على البعد، خلف تلك المصابيح خلفت أياما ضحك الحظ لها فيها، وهاهو يريها الوجه الآخر لضحكته.

كان مصيرها قابعا بوجود نقطة الجيم، النقطة التي لا يعتنى بها اقتلعتها من حلم وادع وألقت بها خلف أسواره، ألقت بها في مرارة اليقظة، اليقظة التي أيقظتها من سوسن أحلامها وحطت بها فوق شوك الحقيقة.

أدركت ما للنقطة من أثر على المصائر وما لها من دور في تحريك الأقدار وراحت تبحث عن حظ آخر لا يبتليها بالنقط الساقطة سهوا، راحت تضرب وجه الليل عسى أن تجد ضالتها في حظ يبلغها أملها، ولم تقطع من الرجاء حظها، وعاد النهار وفي صدرها مرارة الأمس وأمل اليوم المنشود.

عبدالشهيد الثور

العدد 2155 - الأربعاء 30 يوليو 2008م الموافق 26 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً