العدد 2162 - الأربعاء 06 أغسطس 2008م الموافق 03 شعبان 1429هـ

بناء الاختلاف واكتشاف الهوية في شعر غادة السمان

في البدء كانت التفاحة... في البدء كان الجمال... في البدء كانت الأنثى... إذ انشقّت الحياة من ضلع آدم وتجسدت بتفاحة حواء، البدء الأزلي لجمالية الوجود والسر المتغامض الذي مازال يحتاجه الكون في سيرورته لتحقيق وجوده بموازاة هذه التفاحة، ومازال حلمه اللامنتهي هو تحقيقه لهذه التفاحة، للحضارة، في أروع صورها. لذلك كان بدء السر الكوني الغامض الذي يشغل الأداء الحضاري والوجود بهاجسه، ومازال النشيد الأول الذي يتصارع مع الوجود إلى تحقيقه مع جملة احتذاءات الحضارات لبلورة الجمالية المنشودة من مفهومية الحياة المثل - التفاحة - ولقد أدركت الأنثى منذ وجودها الأول ملكتها في الإلهام الجمالي، وكينونته الذرائعية لتحقيق سبل الخلود والمثل فظلت أمنية لجوهرها، ذائبة على تطوره والبحث عن صورة تجسيده حسب أداءاتها وفعلها، ولم تبهت ألوان هذا الحلم رغم التراكمات التي طغت على جوهرها عبر السيرورة الوجودية. ولسنا بقصد العرض التاريخي لرصد التشوهات والترسبات التي لحقت بالقطب الجمالي المكوِّن للوجود... هذا.

لقد أدركت الشاعرة بوصفها حامل لواء الهم الأنثوي أهمية استجلاء هويتها وتأصيلها وبناء الاختلاف لصيانة خصوصيتها ومصداقية ماهية ذاتها إنسانيا في مواكبة التطورات الحضارية وسيرورة الحياة، ولقد التزمت الشاعرة غادة السمان برسالة المرأة العربية وسعت لفك حصارها و قيودها ونفض الصدأ الذي تراكم على وجودها فأعلنت حربها المقدسة في الدفاع عن جوهر صورتها وأساسها الوجودي، فاجتهدت في مغالبة التفسيخ الذي ألحق بشخصيتها واستواءاتها الحضارية، فقرأت تاريخ وجودها، ماضيها، وحاضرها، ومستقبلها، وأدركت ذاتها ومعنى وجودها، فكانت امرأة شاعرة تستشف ذاتها، وتجسدها بالقصيدة التي تؤديها بغنائية عذبة، مرددة صداها الطبيعة التي لم تكن إلا قرينتها في الوجود، ولقد تجسدت هذه الرؤية في شعر غادة السمان على شكل ثنائيات مقترنة لإنبات المدلولات العميقة، لصورة المرأة في الطبيعة... ويمكن قراءة هذه الثنائيات التي تؤسس رؤية غادة السمان في استجلاء الهوية وتأسيس الاختلاف على المستويات التالية :

الكائن/ الكون

لم تكن غادة السمان شعريا منغلقة على نرجسيتها في الانتصار لجنسها وتمجيد كونيته، لأن الكائن هو أداء الكون، قطبا الوجود، وهما علاقتان متواشجتان لتحقيق الوجود، فالمرأة ليست رهينة الافتتان بكونها بقدر ما هي مشاركة فعلية في حركية الكون وأداءاته الاجتماعية، فالمرأة أحد أهم أقطاب القوى التي تجند في سبيل بعث الوجود واستعمال حضاريته لخدمة الكينونة وخلود الكون من صورة الخصب والجمال الذي تصبح المرأة مادتها :

( لا تباركني بفتور

اقتلني بحرارة

وفاء للحياة

بدلا من نذوي معا ببطء

وفاء للموت

ها أنا أفتح صندوق الآثام

لأستعيد حصتي من النجوم و الأزهار و الفراشات و الأكاذيب و أمضي هاربة من ميتم النساء اللطيفات الدامعات

إلى حيث أصنع فصولي وأختار رياحي و غاباتي و صقوري

و أكسر إبرة بوصلتي التي لم تكن لتشير إلا صوبك)

تستحضر غادة السمان الأنثى فيها صورة للطبيعة في ألق خلقها وفرادة خصوبتها وكونيتها لتأصيل جوهرها وتأكيده، ونشر آليته الجمالية التي تمنح الوجود جناحه الآخر للتحليق والمثابرة على تحقيق أفقه، وهي تستبصر كينونتها في ضوء حركتها المتفاعلة مع الوجود، وطبيعتها وخصوصيتها وإيحاءات هذه الخصوصية في إشاعة الوجه الجمالي المتجسد في كينونتها؛ أي تصير المرأة وجودا بالآخر ليشف عن الكون:

(لو لم أكن حرة كالأمواج

لما استطعت اختيار شطآنك لأروح

وأجيء عليها ليلا

أسامر الرمال و القواقع و النجوم و ضوء القمر منشدة بصوت عرائس البحر

لو لم أكن حرة لعجزت عن حبك)

لا تنشد غادة السمان المغايرة إلا لتحدد موقفها تجاه القطب الآخر الرجل بأداء يحصن خصوصيتها وجوهرها، ويصون حريتها كمشارك غير مصفد بالعرف الشرقي الأبوي، لذلك تحاول الشاعرة اختراق النص الأنثوي السائد وإبداع نص جديد مبدع بموازاة جوهرها وحقيقتها، لقد آمنت الشاعرة بضرورة التغيير، وتأصيل شخصيتها بوصفها مشاركا محررا من الوصاية، فانطلقت تبحث عن أجنحة تليق بأفقها وخرجت عن النص الذي رسخته التراكمات المضادة لحقيقتها، فأبدعت النص المضاد «نصها الآخر»

(لا أريد أن أحبك و لا أنساك

أريد أن أظل على حافة ذلك الوجع الغامض

الملقب حبا

كي أظل أكتبك حتى النفس الأخير لمحبرتي

وبين آن وآخر

ضمني إلى جناحيك و حلق بي

لنحتفي بأمسيات

كنت أزورك فيها شرنقة

و أغادرك فجرا فراشة)

تولدت المواجهة بين غادة السمان والنصية القديمة المرسومة لها - موضوعيا - فلم تأخذها الحماسة لبناء وضع الهجوم إذ القصيدة النسائية لم تتذرع بجملة هجومية بقدر ما كانت في وضع الدفاع عبر استبصارات واعدة مسترشدة بحركية الكون وسيرورته وفهم موقعها بوصفها قطبا أساسيا في تنشئة الكون وديمومته لذلك حققت الانقلاب على المساكنة الذي فرضها الآخر لاحتوائها مكسورة الجناح، فسعت الشاعرة لإلغاء هذه المساكنة مجاهدة في سبيل فتح فضائها المغاير والمشروع بحثا عن التوازن الوجودي وتفسيخ القواقع المتكلسة التي تصنعت لتغييب حقانيتها في ممارسة قطبيتها الوجودية .

الجسد / الأرض

تنشأ هذه الثنائية في شعر غادة السمان استجابة لنداءات الذات قصد الانبثاق من خفائها والاندساس في أصقاع الحياة - الشعر - إذ تستقصي الشاعرة من خلالها كينونتها، وذلك بمقارنة دلالات الجسد - الخصوصية - ( ولادة - عطاء - حياة ) مع دلالة الأرض التي تماثلها، وتلتقي الدلالتان في دلالة كلية هي ( الأم ) ولا تحتاج دلالات الأمومة لكثير من التشريحات، لاستشراف هويتها الكلية ورصيدها الكوني ومركزيتها للحياة، لذلك أصبحت الكتابة الأنثوية توجها حيويا حلوليا، يساكن الأشياء لإيقاظ قوانين الحياة فيها وبلورتها خصوبيا:

(هل تذكر كيف كنا نمشي فوق رؤوس أشجار الصنوبر و التلال

ونتعثر بالنجوم

و كيف كنا نمد أيدينا إلى القمر و نلاطفه كقط

و كيف كنا نغمس أقلامنا بالغيوم

ونكتب بحبرها الشفاف على صفحة الأفق

حتى فجر الأوراق الساخنة

هل تذكر كيف كنا ننفض التثاؤب عن وجه المدينة

قبل أن نذهب إلى النوم و الشمس تقهقه

تصير يدك بجعة

وأنت تمدها صوبي لتحتوي وجهي بكفك

على ارتفاع ثلاثين ألف قدوم من الذكريات)

تبني غادة السمان تفاصيل صورة المرأة من خلال التشكيل الحيوي للهوية الأنثوية قصد استكشاف بناء الاختلاف في هوية المرأة العربية كونها شاعرة لم تعد مجرد أنثى تصارع لتحديد جنسيتها المطابقة لجنسية الأرض وحسب، لذلك ركزت في جهادها لتحقيق ذاتها بوصفها بنية كوننية لا تحجمها الأسلاك والحدود، مما يفتحها على تحقيق بهاءات إضافية يستدعيها الاختلاف في تشكيل الأنوثة:

(إذا التقينا

واستيقظت الغجرية في أعماقي

من سباتها الاجتماعي الطويل

وعادت تخاطبها العناصر

يناديني النهر الشهي: تعالي واغرقي ... لتتعلمي

كيف تتنفسين ملء رئتيك

تناديني الريح: أنا صوت القارات المجهولة

ألم تفتقدي الرحيل إليها

تناديني الشمس : تعلمي حكمة العصافير

الإقامة في العش طقس عابر

و الطيران وحده هو الحقيقة )

تتركز المغايرة التي تنشدها الشاعرة في بنا مجرى لذاتها في جغرافيا الوجود الكوني في صورة اندساس ذكي في السيرورة الحضارية، راحت الشاعرة تنشد أفقها المطلق، مكسرة النص المحنط لكونيتها وإشراقاتها، وتجدد في ألوانها التي بهتت بفعل الصدأ الذي فرضته التراكمات المتولدة عن الانحدار الفكري والحضاري، اللذين طبعا المراحل الظلامية التي تشكل عنوانات واقعنا، ونتيجة إحساس الشاعرة بوطأة هذه التراكمات والحيف الذي يلحق بها من جرائها، راحت تحدد موقفها وتستحلي موقعها مجترحة المفهومات والأدبيات المتداولة عن كيانها لخلق مفهومات جديدة تليق بكينونتها، وهذا ما حتم عليها ابتكار الآفاق الاختراقية لماهية ذاتها، وتتجلى هذه الاختراقية باستجلاء جمالية أخرى لمفهوم الجسد/المرأة، وتحليقات إبداعية خارجة عن قانون الرؤية الجمالية السائدة:

(أعيش حبا على غير هدى

حبا ماكر الأفراح ، متأرجحا داخل مراياه

كالمدن المشيدة فوق الماء

فهل تجرؤ على أن تمد يدك

وتفتح ظل الباب المتماوج فوق صفحة المياه

وتقبله مني ..ذلك الحب الضال ..

وردة سوداء

في ليل المخاطر الشهية لامرأة زئبقية الأمزجة

وتعشق الحب وتكره الحبيب)

إن نص الأنثى مضاد للثبات وهو في عمقه الشعري نص خلق وتجلي لذاتها، عبر جغرافيتها الداخلية، فالشاعرة تنشد أغنية خصوبتها الوجودية في أرجاء محيط الكون:

(عصفور ينقر حبة قمح من يدك

ثم يعاود طيرانه

في المدى

هكذا الحب

لحظة فرح كونية هاربة،

كنجم اشتعل ثم هوى)

الحب / الفصول

تأسست رؤية غادة السمان الشعرية على فضاء الهاجس الأنثوي وطاقاته، فإذا كان الحب أنوثة الأشياء لخصوبته وجماليته فإنه في الشعر يصبح إعادة بناء للعالم جماليا وخصوبيا، لذلك لم تعد الشاعرة ترى الحب وفق القوالب المنجزة أطرا تراجيدية تتغناه الأساطير والتراث الوجداني بمنتجاته المأساوية، فالحب هو أداء خلقي جمالي متمايز بحضاريته وتصاعديته الكونية، وليس على الشاعرة أن تجعل من صورتها ترجيعة لبكاءات ليلى العامرية... ونواحات بثينة... فالحب فصول متعاقبة، تشكل في هذا التعاقب دورة الحياة، دورة البناء الحضاري وإنشادات خلوده، وهذا ما يستدعي الأداء الجديد وطقوسه الخلقية المتمايزة:

(منذ ألف عام كان ربيع و أحببتك

وباركتنا البراعم و عصافير الفجر

اليوم

أينما كنت و كيفما كنت أتذكرك مع الربيع

تهب رائحة زهر الليمون عليّ

حتى و أنا في عرض البحر ..

فهي عبير أيامنا معا)

أيقظ الوعي الجديد المتسرب إلى الشاعرة الحديثة من الثقافات المعاصرة المرتبطة بماهية العصر - الإدراك بحتمية اختراق النص الموميائي للحب، وترسيم آفاق ملائمة لوجودها وقيمتها الحضارية وماهيتها الإنسانية، فاجتهدت في قراءة نصية الحب بأصابع مغايرة، قرأته فصولا، لا نصا، فصولا تتعاقب وتتداخل لتشكل كونيتها الجديدة ودورتها التصاعدية، وأنجز هذا الحب حركية إنتاجية خصبة في سيرورة الاختراق الحضاري، وهذا ما دعا الشاعرة أن تنطلق في مغايرتها من تحديد موقعها بوصفها فردا مشاركا في بنية الحضارة، وتحقيق السمات اللازمة لهذه المشاركة، وما يستلزمها من تحرير وانطلاق وتجديد لغة الأنوثة وأغنيتها المتخاصبة:

(منذ عصور و أنا أتوغل في حبك

آملة أن أتعرف على نفسي

في حبك شيء من حرارة أهل دمشق

وياسمين دمشق و عذوبة دمشق

وخرير مياهها و زمني الغابر

اللامنسي في بلاطها

أتوغل في خضرة حبك

أخطو إلى أحشاء الأشجار

لعلني أتعلم الاستقرار

لكنني حجر لا ينمو عليه العشب لإلا إذا تدحرج)

إن ثقافة التجديد التي تتلبس الشاعرة يفرض على الشعر النسوي أن يتحول إلى تقصيات رؤيوية تجترح الأنوثة من الظلامات المتمكنة من الواقع، والظلامية السيدة له، مما يحيل النص الأنثوي إلى اختراقات للنص المألوف والقاعدة المتآكلة والمترسبة في حركية الواقع وإجراءاته الاجتماعية لذلك تصر غادة السمان على تحقيق كيانها من دون أن تمكن الآخر من ابتلاعه وتذويبه، فتسعى إلى تحصين هذا الكيان بالدفاع عن جوهره وأحقيته ومشروعية نورانيته الحضارية، فالحب ليس إجهاضا للجوهر الأنثوي لأنه تأصيله وتأكيده واستمرار يته:

(تسألني عمن عرفت قبلك

ها أنت ترتدي ذاكرتي

كقميص خشن مطرز بالأشواك

تركض به بعيدا لتتعذب

لن أقف أمامك مذنبة مثل منبه رن قبل الأوان

لن أهرب من الصدق إلى الشعر

نعم أحببت قبلك

و سأحب بعد

ذلك لا ينفي أنني أحبك)

ثقافة الاختلاف

في ختام هذه القراءة في شعر غادة السمان لا بد من التأكيد على أن تجلي مقولة اكتشاف الهوية وبناء الاختلاف في شعر غادة السمان ينفتح دائما على فضاءات مضاعفة كون غادة السمان تبني في شعرها ثقافة الاختلاف قبل كل شيء وهي تمارس هذه الثقافة في شعرها على مستوي الشكل والمحتوى اللذين يخرجان على النص القديم للأنثى العربية لذلك فنصها الشعري الجديد والعابر للنص الشعري العربي يطرح إشكالاته وصدامه المميز في الثقافة العربية معرفة وفنا ورؤية مما يجعل صورة هوية الأنثى العربية في شعرها محيطا شائكا من اختلاف الكتابة المختلفة.

*كاتب سوري

العدد 2162 - الأربعاء 06 أغسطس 2008م الموافق 03 شعبان 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً