العدد 2257 - الأحد 09 نوفمبر 2008م الموافق 10 ذي القعدة 1429هـ

ما مدى صحة قصة هروبك من البيت وانضمامك إلى السيرك؟

كم أتمنى لو كان ذلك حقيقيا. على العموم، أشعر بشيء من الارتباك في التحدث عن السيرك بعد أن صورته في كل أفلامي.

في السيرك يتمثـّل ذلك التعايش بين الواقع والخيال... بطريقة غامضة يتعذر تفسيرها. عندما خطوت للمرّة الأولى في تلك الخيمة الكبرى الرطبة، الصامتة، التي تسترد أنفاسها، شعرت بنوع من الصدى المكثـّف، شعرت في الحال بأنني في بيتي، في ذلك المكان الفاتن المليء بنشارة الخشب الرطبة، الضاج بفعل ضربات المطرقة، والجلبة التي تصم الأذن الصادرة من كل مكان، وصهيل حصان... كان ذلك سيرك بيرينو الذي حكيت عنه في فيلمي «المهرجون». ربما كان سيركا صغيرا لكنه بدا لي، وقتذاك، هائلا... أشبَه بمركبة فضاء، منطاد، شيء أستطيع أن أسافر به.

حين بدأ العرض وتفجرت من حولي الأبواق، الأضواء، قرع الطبول، صخب المهرجين بملابسهم الرثة وحركاتهم المتثاقلة وحيلهم وهرجهم ومرحهم الضاج... وكنت حينذاك جالسا على ركبتي والدي، بدا لي - على نحو غائم - أن حضوري في السيرك كان متوقعا وإنهم كانوا ينتظرونني... بدا أنهم تعرفوا عليّ، مثل دمى آكل النار عندما يأتون إلى المسرح ويرون بينوكيو على الوتر فيحيّونه ويرحبون به كواحد منهم، ينادونه بالاسم ويعانقونه ويرقصون معه طوال الليل.

في الواقع كنت أعود إلى السيرك كل يوم ما دام هو باق مخيّما قرب بيتنا. كنت أمكث هناك متفرجا على البروفات وعلى كل العروض. ذات مرّة بحث عني أهلي حتى منتصف الليل، ولم يخطر ببال أحد منهم أنني قد أكون على بعد خطوات منهم. بعد أسبوع وجّه لي الأستاذ ريفو جيوفانيني تأنيبا قاسيا وعلنيا، وعندما قال، مشيرا نحوي بعصاه:»لدينا مهرّج في الفصل»... كاد أن يغمى عليّ من فرط السرور.

في فترة المراهقة، ماذا كنت تفعل، بم كنت تفكر؟

بما ينبغي أن يفكر صبي عاش في الأقاليم مع عائلته، مع الفاشية، الكنيسة، المدرسة، الأفلام الأمريكية، وفي الصيف كان يتفرج على النساء الألمانيات على الشاطئ بثياب السباحة.

ليس لدي ذكريات دراماتيكية مثيرة، وفوق ذلك، فقد قمت بتفريغها كلها في أفلامي. بتحويلها وتسليمها إلى الجمهور أكون قد ألغيتها. الآن لا أستطيع أن أميّز ما حدث فعلا عن تلك الأحداث التي اخترعتها. الذكريات المتخيلة تنطبع فوق الذكريات الحقيقية، والشخصيات التي تنتمي إلى فترة مراهقتي في ريميني تتنحى جانبا فاسحة الطريق لممثلين يفسرون تلك الشخصيات في أفلامي. لقد فرّغت مخزوني من الذكريات المنتسبة إلى تلك المرحلة. امنحني بعض الوقت وسوف أخترع لك ذكريات جديدة.

وماذا عن بلدتك ريميني؟

وهج الشمس صيفا، وفي الشتاء كان الضباب الذي يجعل كل شيء يختفي.

الضباب تجربة وجودية عظيمة. ريميني في الشتاء تفقد وجودها. الميدان يختفي، كذلك دار البلدية، وهيكل مالاتيستا. الضباب يحجبك عن الآخرين، يمنحك مخبأ مثيرا، يحوَلك إلى شخص غير مرئي. لا أحد يراك، بالتالي فأنت غير موجود. هذه الحقيقة كانت تسبب لي الرعشة إلى حد أن جسمي يستشعر وخزا خفيفا بفعل الاهتياج.

أكثر الذكريات قوة وحضورا في فترة مراهقتي هي تلك المرتبطة، في الجزء الأكبر، بأحداث طبيعية، مشهدية على نحو حي دائما، والتي أحببت أن أشهدها وأن أثيرها أحيانا.

كنت على الدوام أشعر بنزوعٍ معينٍ لتأويل الأشياء من خلال الفنتازيا. خاصيةُ رؤيوية معينة. اختفاء دومو، الذي ابتلعه الضباب،أثار مشاعري بقوة. في الصيف، الظل المديد لمسرح فيتوريو إيمانويل وهو يقطع ميدان كافور. كان مشهدا فاتنا أو ربما أردت أن أشعر بالفتنة لكي أبدو مخ تلفا عن زملاء الدراسة الذين لم يجدوا سحرا أو فتنة في ذلك ولم يفهموا سبب اهتمامي الشديد بالظل الذي يشطر الميدان نصفين. المشهد غير الاعتيادي يلفت انتباهي ويأسرني. كنت منذ طفولتي استخدم الألوان لتمويه نفسي. يوما ما جاءت من بولونيا قريبة لي أكبر سنا مني، ولم أنتظر طويلا كي أسرق منها أحمر الشفاه ثم أحبس نفسي في الحمّام وألطخ وجهي به.

متى بدأت تطرح على نفسك الأسئلة؟

أبدا لم أطرح على نفسي أية أسئلة... حتى في يومنا لا أفعل ذلك، ولا أفهم لم أنت تطرح عليّ هذه الأسئلة. بما أني لا أعرف الإجابة فإنني لا أرى سببا يدفعني لأن أربك نفسي بالأسئلة.

من دراستي الفلسفة في المرحلة الثانوية أتذكر فقط الأستاذ ديلامور من أفيلينو. يكتب الشعر مثل دانونزيو، شعر حسي جدا، ومرّة في الشهر يقرأ لنا شيئا من شعره. وجهه كان وسيما وبشرته سمراء بسبب الشمس الجنوبية، له شَعر طويل، ونظارته تومض، ويمكن ملاحظة ثقوب في جواربه. كنت معجبا به كثيرا. كان معنا في الفصل تمبراشي دويليو، ابن رجل متعصّب للحزب والذي، في المواكب الدينية، يرتدي زي شبح، يحمل الصليب وينشد بوجه عابس ونظرات متوعّدة (أثناء مشاركته في إحدى هذه المواكب أصيب بنوبة قلبية بسيطة فانهار المسكين ووقع الصليب الكبير الذي يحمله على أحد المتاجر ليحطّم النافذة الأمامية) أما ابنه الذي في فصلنا فقد كان يتجسس لصالح مدير المدرسة ونقل له أن الأستاذ ديلامور يقرأ شعرا بذيئا في الفصل أثناء حصة الفلسفة. منذ ذلك الحين، كلما طلبنا من الأستاذ أن يقرأ شعرا، يرفض ذلك في أسف، دون أن يخفي زهوه إزاء الطلب، وكان يتوسل إلينا بعدم الإلحاح ثم يشرع في إلقاء محاضرة عن سبينوزا.

حتى تلك السنة الدراسية لم أكن أعرف أبدا أن هناك فرعا من المعرفة (الفلسفة) يعلمنا من نكون وإلى أين نحن ذاهبون. لذلك كنت أصغي مفتونا بالمحاضرات الفلسفية. أخيرا جاء إلى مدرستنا شخص سوف يخبرنا بأمور مشوقة ومثيرة للاهتمام، إلى جانب الأستاذ دي نيتيس الذي كان يقرأ هوميروس على نحوٍ تراجيدي بحيث يحرّك مشاعرنا إلى حد البكاء.

لكن يجب أن أضيف بأنني لا أتذكر إلا القليل من كل تلك التأويلات التفاؤلية للفكر الإنساني، وكل تلك المفاهيم الكونية. المدرسة والحياة كانتا شيئين منفصلين ومتباعدين بعمق. قلّما استطاع عالم المدرسة التجريدي، المغامر ورقيا، أن يلقي ضوءا ساطعا على البشرية سواء على نحو ملموس أو بواسطة خيال حقيقي.

من كل دروس الأستاذ ديلامور الجدير بالإعجاب، أذكر ابتسامته الجريئة والقنوعة عندما- بعد إسكاتنا- يسأل بصوت أقرب إلى الهمس: «يا أولاد، إذا تسابق أخيل، ذو القدم السريعة والرشيقة، مع سلحفاة، فأيهما سيصل أولا؟»... مخربا رضاه عن نفسه، نهضت وأجبت: «السلحفاة»... في الواقع لم استطع شرح السبب، لكن لحسن حظنا كان زينون (الفيلسوف اليوناني ومؤسس الفلسفة الرواقية) قد سبق أن حل هذه المعضلة المحيّرة قبل عدة قرون.

ثم انتقلت إلى فلورنسه... لم فلورنسه بالتحديد؟

لأن مجلة نربيني الهزلية الأسبوعية 420 كانت تصدر هناك، حيث أرسلت لهم رسومات واسكتشات، ولأنها أقرب إلى ريميني من روما أو ميلان. كنت لا أزال في الثانوية عندما ركبت القطار ذات صباح وقدمت نفسي في مكاتب تحرير420، حيث كنت أعرف المصمم الفني جيوفي توبي، الذي كان الدعامة الأساسية لكل مطبوعات نربيني، فهو مصمم الأغلفة والبطاقات البريدية، إضافة إلى أغلب رسومات 420 وقصص الأطفال والملصقات.

مع أنفه الكبير وشعيرات لحيته البيضاء، كان جيوفي توبي يمكث النهار والليل خلف طاولة الرسم الكبيرة في حجرة ضخمة تبدو لي، أنا القادم من ريميني، جميلة جدا.

توبي رحّب بي كما لو كان أمرا طبيعيا أن أكون هناك. لم ينظر إليّ بل واصل الرسم وهو، في غضون ذلك، يسألني إذا كنت أعرف في ريميني فتاة ذات بشرة سمراء وعينين خضراوين والتي هزمته في مصارعة لوي الذراع.

تصورته شخصا يحب أن يلعب دور الذي يساعد الشباب على القيام بالخطوة الأولى. في يده المتكورة، والتي يمسك بها القلم، رأيت رأس طائر صغير، وجيفي توبي الذي لم ينظر إليّ بعد، شرح قائلا: «هذا الطائر يريد أن يكون هنا، ليس في يدي اليمنى، بل في اليد التي أرسم بها. لو تركته ليذهب، حتى للحظة واحدة، فسوف يبكي في يأس. هل تسمعه؟ إنه يمس شغاف قلبي». ثم يعيد الطائر إلى موضعه في يده اليمنى الدافئة، يتنهد ويشرع في الرسم ثانية.

إذن هكذا توظفت في مجلة 420 ...

نعم، لكن بعد سنة تقريبا، فقد كان عليّ أن أنهي المدرسة. عندما حان تقديم الطلب إلى الجامعة، انتابتني الحيرة ولم أستطع أن أحسم خياري. كنت وحيدا وغير واثق من قراراتي. كل الرفاق كانوا يعرفون ما يريدون إلا أنا الغائص في التشوّش والاضطراب.

لاو تسي، الفيلسوف الصيني ومؤسس التاوية ( واغفر لي لجوئي إلى الاقتباس، وأؤكد لك بأن هذا سوف لن يتكرر خلال هذه المقابلة) قال: «أعرف فقط ما سوف لن أكونه».

و أنا لن أكون محاميا حسب رغبة أبي، ولا طبيبا حسب رغبة أمي، ولا مهندسا ولا أميرا لا. كاتب؟ رسام؟ كنت مولعا جدا بمهنة مراسل الجريدة، ومفتونا بقوة بالممثلين الهزليين، الذين اعتبرهم هبة الله إلى الجنس البشري. إثارة ضحك الناس كانت تبدو لي دائما امتيازا يضاهي إلى حدٍ ما امتياز القديس.

سحر الحياة اليومية

لكن بالتأكيد في تلك السنوات كنت تشاهد أفلاما أخرى وليس فقط النوع الهزلي...

جريتا جاربو، جاري كوبر، توم ميكس لم يحركوا مشاعري مثلما فعل بستر كيتون أو لوريل وهاردي. لم أكن أحتمل همفري بوجارت ولم أفهم كيف يمكن لشخص أن يكون غاضبا طوال الوقت إلى حد أنه يظل مرتديا معطفه الواقي من المطر حتى في الفراش. جاربو أثارت الرهبة: شامخة، متغطرسة، تجريدية.

لكن الأخوة ماركس عصفوا برأسي وفجروا عقلي، كانوا أسلافي الروحيين. وأحببت بستر كيتون أكثر من شارلي شابلن الذي ملأني بارتياب معيّن مع حدّة وصفاء عينيه (الأشبه بعينيّ قط) وأسنانه البارزة كأسنان حيوان قارض. لعل شابلن هو الأعظم، لكن كيتون لا يحتال عليك بالإفراط في الحالة الوجدانية. صراعاته، نكباته، كوارثه لا تحدث من أجل تقويم الباطل أو تصحيح الأخطاء أو رفع الظلم، إنها لا تسعى إلى تحريك المشاعر أو إثارة السخط. قوته الرئيسية تكمن في اقتراح وجهة نظر استشرافٍ مختلفٍ كليا، فلسفةٍ تسخر من كل الوصفات والأفكار الصارمة والثابتة وتطيح بها. كيتون شخصية هزلية طالعة مباشرة من بوذية الزنZen... وجه متحجّر ورباطة جأش مشرقية. كل دعاباته هي دعابات أحلام حيث يوجد المجاز والفطنة والمظهر الهزلي في الأعماق الأكثر غورا. الضحك الصامت على التباين الهائل الذي لا يقبل المصالحة بين وجهات نظرنا ولغز الأشياء.

لنعد إلى فلورنسه قليلا. إلى جانب الممثلين الهزليين، هل هناك أيضا كتـّاب اعتبرتهم أسلافا روحيين؟

كم بودي أن أجد، نهائيا وعلى نحو حاسم، الشجاعة للاعتراف بعدم قراءتي لعدد من الكتب... ويا لها من حرية يتمتع بها المرء عندما لا يضطر أن يجازف بعد الآن بطرح تلك العبارات المقتبسة والتي تتفق مع رأي وحكم شخص آخر.

ربما بدأتَ الآن تدرك مدى عقم الاستمرار في إكمال الحوار مع شخص مثلي...

لا بأس، سأحاول تذكّر أسلافي الروحيين: بينوكيو، بيبي وبوبو، ديكنز، جزيرة الكنز، إدغار ألان بو، آرشي ومهيتابل، جول فيرن، جورج سيمنون الذي تعرّفت عليه ونشأت بيننا صداقة قوية ( أخبرني ذات مرّة أنه مارس الحب مع عشرة آلاف امرأة... هل أقدر أن أصبح كاتبا مثله؟)

ثم، ورغما عن المدرسة، أود أن أضيف هوميروس، كاتولوس (شاعر غنائي روماني)، هوراس. أيضا أحب حملة زينوفون العسكرية (مؤرخ وقائد عسكري يوناني) مع أولئك الجنود الذين بعد «كل أربعين فرسخ يأكلون الزيتون ويشربون النبيذ بينما يتكئون على رماحهم الطويلة».

لكن كيف يمكننا أن نتذكر كل الكتب التي ساعدتنا على النمو، على كشف ذواتنا أمام أنفسنا؟ هل تتذكر يامبو؟ هو الذي كتب قصص أطفال مزيّنة برسوم في غاية الجمال، كما ابتكر شخصية ميستولينو الذي كان صورة عن نفسي: صبي هزيل جدا، مكسو بالشَعر، عاجز فطريا عن قول الحقيقة.

كنتَ تتحدث عن تجاربك المبكـّرة مع محرر «نيربيني» الذي كان ينشر الكتب الهزلية... ماذا كنت تفعل في فلورنسه مابين 1937 و1938؟

كنتُ أشتغل هناك في مختلف المهن، من مراسل إلى سكرتير هيئة التحرير. كنت ألصق الطوابع على الأغلفة والظروف، وأحيانا أنقل ما يشتريه ألدو بالازيشي من السوق إلى عربته. حينئذ لم أكن أعلم أنه كاتب كبير. كل ما علمته أنه رجل مهذب، هادئ، عطوف. كان يحب أن يتسكع حول الأكشاك التي تعرض السلع للبيع، ويشرع في المساومة مقابل خس وطماطم وجبن. النسوة في ساحة السوق كن يسمينه بروفيسور. وذات مرّة نادته إحداهن بـ صاحب السعادة، فضحك كثيرا. وعندما قمت أنا بتحيته عند عربته، انحنى أمامي نصف انحناءة متمتما: سعادتكم... وذلك أمام دهشة الحوذي، وهو شاب قوي، مبلل بالعرق.

في مناسبة أخرى، قال لي بالازيشي إنني في سنّي ينبغي ألا أكتب تلك القصص القصيرة الساذجة للجرائد، بل أن أكتب الشعر. بعد سنوات طويلة، عند قراءتي «شقيقات ماتراسي» وخصوصا «روما»، تكوّن لدي إحساس بالحرج والخجل لأنني لم أميّز في حينها الحضور المضيء لمعلم عظيم.

أصدقائي آنذاك كانوا من كتـّاب وفناني نيربيني، الذين أصدروا عددا من المطبوعات مثل: بوفالو بيل، الكشافة الثلاثة، المغامر، و420. وذات مرّة نشأت توترات سياسية بين إيطاليا وأمريكا، ونتيجة لذلك تم منع المطبوعات الهزلية الأمريكية، وعندئذ وافقت بجرأة، مع جينو سكياتي، أن نستمر في كتابة النصوص بينما قام جيوفي توبي برسمها، محاكيا الرسوم الأصلية على نحو تام.

في ديسمبر1938 ذهبتَ إلى روما لتعمل في مجلة هزلية أخرى «مارك أوريليو»... كيف حدث ذلك؟

أيام الدراسة، كانت هذه المجلة أسطورة... واحدة من مظاهر الترف المحظورة، الغامضة، التي جاءت من بعيد، من روما المدهشة التي كنا نحلم بها، تماما كما كانت أفلام فرد أستير وجين هارلو تأتي إلينا من أمريكا الغائمة والنائية، تلك الجزيرة الخرافية -أطلنتس- التي لا يمكن الوصول إليها (زعموا أن أطلنتس غارت في أعماق المحيط الأطلسي).

للحصول على عدد من مجلة مارك أوريليو، لقراءتها، لـذة تضاهي اللذة التي تمنحها الأشياء المحظورة مثل: التدخين سرا أو محاولة دخول الكازينو بدون بطاقة عبر الالتصاق بمعطف صديق أكبر سنا.

النسوة الصغيرات في تصميم باربرا، نصوص موسكا وميتز ودي توريس، هذه أسماء أسطورية. وتلك المجلة نصف الشهرية الأكثر رواجا، لم تكن تصل إلينا بسهولة. للحصول عليها، كان علينا أن نذهب إلى المحطة حال وصولها. أيضا كان علينا أن نقهر المعارضة المتواصلة التي يقودها كبير الكهنة، والذي صاح ذات مرّة من منبر الكنيسة قائلا: «أنظروا ما يمكن فعله بهذه المجلة القذرة بدلا من قراءتها»... ثم حلـّت لحظة من التوتـّر. ما الذي سيفعله بالمجلة؟ إزاء خيبة أمل كل الموجودين، قام الكاهن بتمزيق صفحات المجلة إلى قطع رقيقة طويلة ثم راح يكوّرها مشكّلا كرات صغيرة.

ذات يوم في ريكيوني، استطعت أن أميّز دي توريس على الشاطئ، قدماه في المياه، وسرواله الأحمر القصير مشدود إلى بطنه، والجريدة على رأسه يحتمي بها من الشمس. كان هو... لم يكن لدي أي شك في ذلك. كنت قد شاهدت رسومه الكاريكاتورية مرارا في مارك أوريليو. لكن لم تكن لدي الجرأة لأن أنبس بكلمة واحدة، ذلك لأنه كان راقدا هناك بعينين مغمضتين مستمتعا بالنسيم. لذا رحت أحوم حوله طوال النهار. ومع حلول المساء، لاحظ وجودي هناك فطلب مني أن أجلب له علبة كبريت. بعد يومين عرضت عليه ما أنجزته من تخطيطات ورسوم كاريكاتورية وقصص، فطلب مني أن أزوره في روما في مكتب مجلة مارك أوريليو.

بعد عام، عندما بحثت عنه هناك، أخبروني بأن دي توريس لا يأتي إلى المكتب إلا نادرا جدا وأن عليّ أن أجده في مكاتب تحرير جريدة بيكولو، وهي الجريدة اليومية التي كان يديرها باروني.

هناك وجدت دي توريس في غرفة صغيرة تحتوي على طاولة، كرسي، وآلة كاتبة. كان وحده، يستمتع بأشعة الشمس القادمة عبر النوافذ، بعينين مغمضتين، ويبتسم لنفسه في اطمئنان. أما أنا، ولكي أنبهه لوجودي، فقد كنت أصدر صوتا قصيرا حادا، أسعل، أمسح الأرض بقدميّ... وفي النهاية، قررت أن أغادر على أن أعود ثانية. وعندما عدت، وجدت الغرفة مكتظة بالناس، ومن بين كل الأشخاص المشهورين هناك لم أعرف سوى فيتاليانو برانكاتي، الروائي الصقلي الساخر، والذي كان علينا في المدرسة أن نحفظ عن ظهر قلب وصفه للزيارة التي قام بها إلى الزعيم موسوليني، وله صورة فوتوغرافية تظهره واقفا إلى جانب الزعيم.

هل أشرف دي توريس على مقالتك الأولى؟

نعم... بعد عدة أيام نفخ في انزعاج، ثم وضعني أمام امتحان قائلاَ: «أكتب قطعة أدبية ولنر ما تستطيع فعله»... ولأن السماء وقتذاك كانت تمطر، فقد ارتجل بنبرة ملهبة: «حتى إنني سوف أختار لك العنوان... أهلا بهطول المطر. صفحة واحدة وأربعة أسطر، لا أكثر ولا أقل»... ثم خرج راضيا وتركني وحدي أمام آلة كاتبة مخيفة. كنت في غاية التوتر. ها أنا في مكتب الجريدة، أكتب قطعة أدبية: في صفحة واحدة وأربعة أسطر، وفي أربعين دقيقة.

هل كانت القطعة جيدة؟ هل نُشرت؟

نُشرت بعد عدة شهور بمناسبة هطول ثلج خفيف. وبالطبع، قاموا بتغيير العنوان وتعديل معظم أجزاء المقالة. لم أمكث طويلا مع جريدة بيكولو. جورج سيمنون كان الكاتب الذي احتذيت به، وكنت أنظر إلى صفحات الفضائح باعتبارها فرصتي لكتابة مقالات مثيرة. لذا أجريت مقابلات مع البوابين، وحاولت أن أتعقب سيارات الشرطة أثناء مداهماتهم لأماكن تواجد العاهرات. كل ما كنت أحتاجه مجرد حادثة صغيرة واحدة، ومن يدري، محاولة انتحار بحامض المورياتيك أو أن يرمي شخص نفسه من أعلى الجسر. وعندها أكتب أربع أو خمس صفحات ملفتة أتحدث فيها عن حياة وموت الضحية، عائلته، أصدقائه، معارفه. ذات مرّة، سمعت عن محاولة انتحار (بحامض المورياتيك... كالعادة) فذهبت إلى الموقع حيث عثرت على الصديقة السابقة للذي حاول الانتحار. لم تكن المرأة جميلة كما تمنيت، بل على العكس، كانت قبيحة وعصبية المزاج، ووالدها العنيف إلتقط جزءا من جذع شجرة وهمّ بضربي على رأسي لو لم أهرب منه.

كتبت عن الحادث، لكن لا أعرف أي محرر ذاك الذي اختزل الموضوع من أربع صفحات إلى ستة أسطر، مضيفا عنوانا رئيسيا يتناقض مع كل شيء: «هو شرب حامض المورياتيك ظنا منه أنه ماء» أو «ترنّح الرجل فوق حاجز الجسر فوقع في المياه»... عندئذ شعرت بالخيانة، بالإهانة، وبشيء من الاضطهاد.

لهذا تركت الجريدة وذهبت إلى مارك أوريليو. وفي الحال صرت سكرتيرا للتحرير. مدير التحرير، فيتو دي بيليس، كان معجبا بي واعتاد أن يدعوني إلى العشاء مرتين في الأسبوع بينما ننتظر الذهاب إلى المطبعة. بعاطفة فظة كان يعلمني آداب المائدة: المرفقان على الجانبين، لا تفتح فمك إلا حين يبعد الطعام عن شفتيك مسافة ملـّيمتر واحد، امضغ وفمك مطبق، لا تنظر أبدا إلى طبقك (بصراحة هذا القانون الأخير بدا لي مبهما بعض الشيء). وفي غضون ذلك، كان يتحدث عن الأشخاص الرائعين: المصمم جالانتارا، الممثل الكبير بتروليني. بعد ذلك نذهب معا بسيارته إلى المطبعة. كنت أرتدي قفازين من الشّمواة أثناء معالجة البروفات الطباعية، أمام طاولة صغيرة خاصة بي يضيئها مصباح كهربائي. الطباعة كانت تتم في دور تحتاني كبير المساحة، والمكان يضج بضوضاء آلات الطباعة، حيث أمكث حتى الفجر... وكنت سعيدا.

هل تغيّرت نظرتك الثقافية خلال تلك الفترة... في بداية الأربعينيات؟

يوما ما جاء زميل من ميلانو، يدعى مارشيلو مارشيسي، حاملا كتابا... «المسخ» لفرانز كافكا: «ذات صباح استيقظ جريجور سامسا بعد حلم مزعج ليجد نفسه وقد تحوّل في سريره إلى حشرة ضخمة».

اللاوعي، الذي استخدمه دوستويفسكي لسبر وتحليل المشاعر، أصبح - في هذه الرواية- مادة للحبكة ذاتها، بالطريقة التي استخدمتها الحكايات الخرافية والأساطير، مع فارق أن الخرافة أو الأسطورة تعاملت مع اللاوعي الجماعي، غير المميّز، والميتافيزيقي. هنا نجد اللاوعي الفردي، نطاق الظل، القبو السرّي الذي يتوضّح فجأة بفعل ضوء فاتر، موحش، وتراجيدي.

كافكا، المماثل لأولئك الشعراء-الأنبياء العظام، حرّكني بعمق. كنت مأخوذا بالطريقة التي بها يجابه لغز الأشياء، خاصيتها المجهولة، الإحساس بالتواجد في متاهة، والحياة اليومية تصبح سحرية.

في الروايات الأمريكية وجدت استشرافا مختلفا تماما: شتاينبك، فولكنر، سارويان. أخيرا تجسيد الحياة كما هي: حسّية، نابضة، محفوفة بالمجازفات. لا استعراضات أو بزّات نظامية أو طقوسا جماعية أو بلاغة حربية ظافرة. عوضا عن ذلك، نجد الإحساس الحقيقي بالناس، بصراعاتهم ونضالهم اليومي، بغرائزهم. إحساس، متعذر تعريفه أو تحديده، بالحرية، بشوارع لا تنتهي تمتد عبر أرض هائلة، بأرياف مورقة بلا آفاق، إنما بلمسة شيء مقدس وبطولي... كما في أفلام جون فورد.

الأدب الأمريكي والأفلام الأمريكية كانت تمثـّل وحدة فريدة. حياة حقيقية في تباين بهي مع الحياة الكئيبة لكهنة مكسوّين بالسواد، ويتقافزون عبر دوائر النار. الفردي ينتصر على الجماعي.

أكثر من أي شيء آخر، اختفاء الأفلام الأمريكية والإلغاء المفاجئ لأي رسالة من تلك الثقافة أعطانا الوعي الحقيقي بالحرب.

نحن الآن في الفترة من 1941 إلى 1943... وأنت في العشرين... هل كان لديك بصيص من الوعي السياسي؟

طالما أن مجلة مارك أوريليو لم تتعرّض للقمع أو الحظر، ولم تُتهم بالتحريض على الثورة، فإن إجابتي لابد وأن تعكس الجهل الفج لطالب ريفي غرّ تربّى على يد الكنيسة والنظام الفاشي. الأفكار الوحيدة التي كانت لديّ بشأن الحرية والثورة برزت عندما تم منع مقالة صغيرة لي من النشر، وهي عبارة عن رسائل من فتاة إلى خطيبها الجندي في الخطوط الأمامية. بعد المقالة الثالثة تدخّل الوزير بافوليني والتقى بي ومدير التحرير دي بيليس حيث أخبرنا غاضبا بأن الفتاة عاطفية بشكل مفرط وخطابها سيؤدي إلى إضعاف الروح المعنوية في جبهة القتال، ثم قال آمرا: لا مزيد من هذه الكتابات.

هكذا اصطدمت، للمرّة الأولى، بغباء وسخف الرقابة. لكن بالنسبة لي، ذلك كان أمرا شخصيا غير متصل بوضع عام أو وطني.

أثناء تحرير المجلة، كل مساء، كان عدد من المحررين يمكثون حتى وقت متأخر لمناقشة الأمور السياسية. في هذه اللقاءات تعرّفت على أشخاص مثل بانونزيو، بنديتي، فلايانو، لاندولفي وغيرهم من كتـّاب المستقبل. كانوا يتحدثون طويلا بينما أنا، الماكث هنا أكتب التعليقات، أصغي فحسب. ويجب أن أعترف، دون خجل، بأن ما كانوا يتحدثون عنه لم يثر أي اهتمام لدي ولم يعن لي شيئا. لم أستطع أن أفهم ما الذي ينبغي علينا فعله. حتى لو كنت أرى ضرورة إلى التآمر والثورة، فكيف بإمكاننا أن ننظم ذلك؟ وجوه المجتمعين كانت ودودة، لطيفة، هزلية، يومية، ولا يمكنها أن تنقل الصورة التقليدية لأفراد متآمرين... أو ربما هم كذلك، من يدري؟ فلايانو لم يتحدث إليّ قط عن تلك الاجتماعات أثناء اشتراكنا معا في كتابة عدد من الأفلام

العدد 2257 - الأحد 09 نوفمبر 2008م الموافق 10 ذي القعدة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً