العدد 2257 - الأحد 09 نوفمبر 2008م الموافق 10 ذي القعدة 1429هـ

نأتي الآن إلى «كازانوفا»... ما هو أول شيء يخطر في ذهنك بشأن هذا الفيلم؟

تعبيرات وجه (الممثل) دونالد سوذرلاند القلق، المذعور، الذي غرز في داخلي الخوف من الفخاخ، الشراك، الخيانات. في كل مرّة أقترب منه لاقترح ما ينبغي عليه فعله، يتصلـّب ويتشنج مثل شخص يستشعر خطرا لا يستطيع الإفلات منه. كنت أشعر برغبة في الضحك (تلك المخاوف كانت هزلية حقا) لكنني كنت أكبح ذلك لئلا أتسبب في تعقيد الأمر، إذ قد يعتقد أنني أهزأ به، وعندئذ سوف تمتلئ عيناه بالدموع، وقد يفضي ذلك إلى تخريب مكياجه وأهدابه الزائفة وشعره المستعار.

أنا مقتنع بأن هذا القلق والاضطراب له خاصية أنثوية. هذا الحياء الدائم، هذا الحذر والتحفظ لا شك أنه يؤثر في شخصيته، يجعلها تبدو غريبة، نائية، شبحية... تماما كما تخيلت أن تكونه شخصية كازانوفا.

«لكن يا عزيزي فيفي، لماذا ينبغي أن تكون شخصية كازانوفا على هذا النحو الذي رسمته؟»... يسألني المنتج الأمريكي المبعوث من قبل استوديوهات يونيفرسال، وهو رجل ضخم ذو وجه محبوب يشبه الممثل والتر ماثو، والذي يصر على اختصار اسمي إلى «فيفي». له يدان بالغا الضخامة أشبه بوسادة، والتي بهما يعصر يديّ محاولا أن يجعلني أفهم وجهة نظره:

«كازانوفا حياة! هو الحياة... إنه القوة، الشجاعة، الإيمان. هو لذة العيش. تفهمني فيفي؟ لم جعلته يبدو أشبه بالزومبي (الميت الحي)؟

و أنا أنظر إلى وجه هذا الأمريكي الضخم واللطيف، الذي حقق -كما يزعم- مقدارا وافرا من الأفلام مع جاري كوبر، كلارك جيبل، جون كراوفورد، جون هيوستون، بيلي وايلدر... هذا الأمريكي الذي كان -كما يزعم- صديقا حميما لثلاثة أو أربعة رؤساء للولايات المتحدة، وكان كل سبت يدعوه الرئيس نيكسون ليستشيره في شؤون البلاد... و أنا أنظر إلى وجهه في حيرة، لا أعرف بم أجيب، تمتمت أخيرا متحدثا عن الغشاء الداخلي في الرحم والذي يحيط بالجنين مباشرة، وأن كازانوفا كان حبيسا في هذا الجيب أو الكيس الذي يمثـّل الأم-السجن، أم-البحر المتوسط-بحيرة-فينيسيا، والولادة تتأجل باستمرار، لا تتحقق أبدا... ثم أضيف قائلا من غير تفكير: «كازانوفا لم يولد أبدا. حياته هي لا حياة... تفهمني؟»

عندئذ يرتسم الأسى على وجه الأمريكي الضخم ويهز رأسه في حزن: «فيفي، فيفي... هذه استمناءات ذهنية، ألعاب فكرية»...

ثم يبدأ في إخباري عن وقت كان فيه يغيّر نهاية قصة كتبها ترومان كابوتي وكيف أن «ترو» (يقصد ترومان) يعتبره الآن أبا له، ولا يكتب سطرا قبل أن يتصل به هاتفيا ويستشيره. ويخبرني كيف جعل المخرج بريستون ستيرجز يعيد كتابة إحدى سيناريوهاته ست مرات. أما اليوم الجدير بذكره فهو عندما طلب من مارلون براندو أن يزيل شاربه ويخفف وزنه سبعة أرطال.

لقد سبق أن قلت بأنني لا أشاهد أفلامي ثانية، لذا أنا لست في وضع يسمح لي بأن أقدم حكما أو أطرح رأيا موضوعيا وغير متحيّز عنها. لكن «كازانوفا» يبدو لي أكثر أفلامي اكتمالا وجرأة.

أنت وصفت الفيلم ذات مرّة بأنه نسخة سينمائية عن قصة رعب... وتلك المرّة الأولى التي لم أتفق فيها معك.

حققت فيلم «بروفة أوركسترا» للتلفزيون. هل فعلت ذلك بسبب الأزمة التي تمرّ بها السينما؟

مضى على اشتغالي في الأفلام ثلاثون عاما، وفي كل عام أسمع من يقول أن هذا هو العام الأخير، وأن السينما انتهت... ماتت، وأن عليّ أن أعود إلى الخربشة ورسم الإسكتشات للجرائد، أو أن أتصل بناشر ما ليطبع لي كتابا، أو أن أعود إلى دراسة القانون لنيل الدكتوراه.

منذ متى كفّ الناس عن الذهاب إلى السينما؟ وكم مرّة وجهت إلينا الدعوة لتشخيص الحالة؟ استحضرنا مختلف الأسباب: الناس صاروا يخشون الخروج ليلا. أسعار التذاكر مرتفعة. التلفزيون. السينما تأكل ذيلها، تجده شهيا فتواصل التهامه. التساهل (واقع أنك، في هذه الأيام، إذا مارست الحب في سيارتك فإن متلصصا ما سوف يتفرج ويصفق لك استحسانا، أو أن قاتلا مجنوناُ سوف يعتدي عليك وعلى فتاتك، وكل ما سوف يناله من عقاب مجرد غرامة وتأنيب رسمي)

الناس لا يرتادون صالات السينما إلا في فترات متباعدة لأنهم يفضّلون السياقة أو الذهاب إلى رحلات الصيد. الآن باتوا يقضون عطلة الأسبوع في أماكن لا يمكن بلوغها على وجه الأرض... إذن ما الغرض من تصوير تلك الأماكن الجميلة في الفيلم في حين تأخذك الطائرة -أنت وعائلتك- إلى هناك صباح كل سبت؟

أحد الباحثين قدّم تحليلا عميقا عن أزمة السينما قائلا بأنها تنبع خصوصا من واقع أن السينما قد استنفدت كل القصص المتيسّرة والمحتملة، بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، وأننا -في الوقت الحاضر- نريد ما هو أكثر من السينما، نريد شيئا من العلمي والاجتماعي والديني والفلسفي. باختصار، السينما التي هي حقا مرآة عميقة فيها لا ننعكس كما نكون الآن فحسب، بل أيضا كما كنا، وكما سوف نكون... ومن يدري، ربما كما ينبغي أن نكون. حقا، أود أن أر كيف سيبدو شكل المنتج وردود فعله وهو يصغي باهتمام إلى مشروع سينمائي مقترح يلبّي تلك الشروط.

السينما، في رأيي، فقدت السلطة، الاعتبار، الهيبة، الغموض، السحر. الشاشة العملاقة التي هيمنت وحكمت جمهورا كان يحتشد أمامها بإخلاص وحب شديدين، لم تعد تسحرنا وتأسرنا.

ذات مرّة، هذه الشاشة هيمنت على مخلوقات ضئيلة كانت تحدّق مفتونة إلى وجوه هائلة، شفاه، عيون، تحيا وتتنفس في بُعد آخر لا يمكن بلوغه، وهمي وحقيقي في آن. أشبه بحلم. الآن تعلمنا أن نهيمن عليها. صرنا أكبر منها. أنظر إلى أي مدى استطعنا تصغيرها وتحويلها وإخضاعها. ها هي الآن بحجم وسادة، موضوعة بين المكتبة والأصيص. أحيانا نضعها في المطبخ، قرب الثلاجة. لقد أصبحت خادمة منزلية كهربائية، ونحن الجالسين في استرخاء على الكراسي، المسلحين بجهاز التحكم عن بُعد (الريموت كونترول) نمارس سلطة كلية على تلك الصور الصغيرة، رافضين كل ما هو غريب وغير مألوف ومضجر بالنسبة لنا.

في صالة السينما، حتى إذا لم نكن نحب الفيلم، فإن سحر وجاذبية وحجم تلك الشاشة الهائلة تجعلنا نمكث جالسين أمامها حتى النهاية... إن لم يكن بدافع آخر، فبسبب اقتصادي، ذلك لأننا دفعنا ثمن التذكرة. أما الآن، وبنوع من الثأر والضغينة، عندما يطالبنا الشيء الذي ننظر إليه بانتباه واهتمام أكثر مما نرغب في توجيهه وإبدائه، فإننا نسارع إلى الضغط على الزر لنخرس الشخص المتكلم، ونمحو الصور التي لا تثير اهتمامنا.

هنا نحن السادة. كم هو مضجر بيرجمان هذا. وبونويل... من قال أنه مخرج عظيم؟ ليخرجا من بيتنا. نريد أن نشاهد المباراة أو الاستعراضات الغنائية.

هكذا وُلد المتفرج المستبد، الحاكم المطلق، الذي يفعل ما يريد، ويقنع نفسه أكثر فأكثر بأنه المخرج أو -على الأقل- منتج الصور التي يشاهدها. كيف يمكن للسينما أن تجذب هذا النوع من الجمهور؟ المنتجون والمخرجون الأمريكان يحاولون أسر انتباه جمهورهم المستقل، الحيادي، اللامبالي عن طريق تقديم مشاهد تتسم بالأبهة والفخامة، تحتوي على مغامرات مذهلة، كوارث كونية، سحر، رعب، أشياء لا يمكن التنبؤ بها، أشياء لم تُعرض من قبل ولم يُسمع عنها. باختصار، العودة إلى البداية، إلى سينما جورج ميليه، إلى المدهش والخارق.

في هذه المشاهد الأمريكية الفخمة أجد نزوعا إلى التزيين، الإبهار، الاهتمام بالمناظر والمؤثرات الحسية... وكلها تعمل على إلحاق الأذى ليس فقط بالإحساس بالقصة، لكن أحيانا بالقصة نفسها. إنها السينما التي يختفي عنها المؤلف المبدع. إنها سينما المهندسين وتقنيي المؤثرات الخاصة... هؤلاء هم الذين ينالون الإطراء والتصفيق الآن.

النموذج المثالي، كما في حالة فيلم ستانلي كوبريك «2001 أوديسة الفضاء»، أن تكون هذه المعدات التقنية الاستثنائية والرائعة في خدمة الفكرة، الإحساس، خيال المخرج المؤلف... حين يحدث هذا ستكون النتيجة مدهشة، والسينما سوف تعود إلى الحقل الذي لا يماثله أي حقل فني آخر... لا المسرح ولا الأدب ولا الموسيقى ولا الرسم... بالأحرى، كل وسائل التعبير الفنية تنصهر معا.

هل بالإمكان خلق مثل هذه السينما هنا، في إيطاليا؟... لا اعتقد. المبدع الذي يريد أن يخلق هذا النوع من السينما لابد أن يتوفر له متعاون استثنائي، رائع، مفعم بالحيوية والنشاط، ويتعذر استبداله... هو البنك. والمصرفيون الذين يقلقون بشأن أزمة السينما عندنا، بصدق، عددهم قليل جدا. أعلم أن أصدقاءنا المنتجين يدعون إلى إصدار قانون يحمي سينمانا ويمنع تركها تختنق حتى الموت. عندما يشرحون لي بصبر كيفية تمرير مثل هذه القوانين، يتراءى لي بأنهم محقون. مع ذلك أعتقد أن تدخل الدولة الهادف إلى الحماية يولـّد لدي إحساس بالخجل.

العمل للتلفزيون؟ إنه يعني دخول ذلك المحيط من الصور الضبابية المربكة، دخول في خليط يلغي نفسه، هو بديل عن الواقع كما وكيفا.

لدي إحساس بغيض بالمشاركة في فيض كوارثي من الصور التي يخضعنا التلفزيون لها كل دقيقة من النهار والليل. إنه يطمس أية فجوة بين الحقيقي والبصري، ويستعيض عن ذلك بنوع من اللا واقع الذي إليه ينبغي أن تتعوّد طريقتنا في النظر: مرآتان كل منهما تواجه الأخرى، تنسخان نفسيهما برتابة لا متناهية وخواء هائل. إنها ليست مسألة أسلوب أو جماليات، أنا حتى لا أعرف أية لغة أستخدم للفيلم التلفزيوني.

حققت «بروفة أوركسترا» للتلفزيون نظرا لتوفر المرونة: آلية إنتاج أكثر طواعية، أقل جهدا، أقل ضخامة. لم أكن مثقلا بالمسؤولية، بالتالي كنت قادرا على رؤية المشروع كله بطراوة وعفوية أكثر. بصرف النظر عن ذلك، لم أفعل شيئا مختلفا عن العادة. أعني، ضمن حدودي وببضع ليرات تحت تصرفي، أن أروي القصص، أن أتبع ميلي الطبيعي نحو المدهش، أن أعبّر كما الحال دائما عما يبدو لي رؤية مقلقة أو ملغزة أو آسرة.

باختصار: مع أن ذلك قد يبدو متناقضا ظاهريا أو مضحكا أو وقحا أو استفزازيا، إلا أنه يبدو لي أن المجرى الوحيد الذي على السينما أن تسلكه هو أن تصنع أفلاما أفضل، أعلى جودة، أكثر جمالا وذكاء، وإلا سوف يتعين علينا أن نسلـّم أنفسنا إلى حقيقة أن من الآن فصاعدا السينما سوف تنتمي إلى موظفي الأرشيف لتخزينها مع العديد من الأمثلة الأخرى عن فترات تاريخية خلال القرن العشرين. وسرعان ما سوف نقول: إذا كان القرن التاسع عشر هو عصر الميلودراما، فإن القرن العشرين كان قرن السينما.

لون الذاكرة

فيلمك «بروفة أوركسترا» أثار الكثير من ردود الفعل المختلفة والمتباينة... ما الذي لا يزال عالقا في ذاكرتك من هذه الاستجابات؟

إذا كان عليّ تحديد استجابة الجمهور، المباشرة وغير المباشرة، فإنني بصراحة أجد صعوبة في تصنيف فيلمي. كيف يمكن حقا استرضاء مشاعر أولئك الذين علـقوا بأسف بعد مشاهدة الفيلم: «كم هو مخجل أن لا ينتهي الفيلم حين بدأت الأوركسترا تعزف كمجموعة متكاملة ومتناغمة مرّة أخرى! لكن ما سبب إقحام الحوار الألماني؟ ما الغاية؟ ما الذي يعنيه ذلك؟»

كيف يمكن التوفيق بين الفيلم والملاحظة المجنونة التي أبداها ذاك المعتوه (لابد أن يكون معتوها تماما حتى يفسر الفيلم بتلك الطريقة) ونحن في غرفة إيداع المعاطف بالمطعم، وفيما أرتدي معطفي، مال صوبي وهمس في ارتياح وحشي قائلا: «لقد شاهدت فيلمك... أنا أساندك... نحن حقا بحاجة إلى العم أدولف (هتلر) هنا».

سؤال مثير للقلق: هل بالإمكان، في أي وقت، أن يعرّض فيلما ما نفسه إلى خطأ شنيع إلى هذا الحد؟ ما الذي يعنيه ذلك؟ ما الذي يثير أو يحفز أو يكشف رد فعل بعيد جدا وغير متوقع على الإطلاق؟

في عالم اليوم، مع تقوّض البنى التنظيمية، وانهيار القيم والمعالم الهادية، يستجيب كل فرد منا، بهلع وتخبط، إلى التشوش والمرض والشر الذي يحيط بنا. إننا نعمّم أمراضنا الذاتية ونسقط مخاوفنا ورغباتنا الشخصية على كل ما يحيط بنا... سواء أكان فيلما أو حدثا.

ربما تلك هي الطريقة التي كان يتعيّن على الفيلم سلوكها من اللحظة التي عرض فيها الحالة الجنونية والانحدار نحو اللاعقلانية. بما أن تلك الحالة كانت مروعة ورهيبة، فإننا نستجيب عن طريق اقتراح شكل من الجنون المؤسس المنظم، تماما كما في حالة الديكتاتورية.

التفكير السائد: إذا السياسة لا تعيرنا انتباها فإننا نوجّه انتباهنا إلي السياسة التي تتحكم بنا كليا. لكن ذلك الذي ينشد الحماية يجب أن يهيئ نفسه لأن يكون محميا حتى الحدود القصوى.

فيلمك «مدينة النساء» أيضا يقدم ثيمة حديثة. إذا طلبنا منك أن تنبش ذاكرتك، فما هي الصورة الأولى التي سوف تنبثق وتتجلى؟

مارشيلو ماستروياني. مارشيلو العزيز الرائع. صديق حكيم، مخلص، أمين. نموذج للصديق الذي لا تجده إلا في القصص الإنجليزية. نادرا ما نلتقي، وأحيانا لا نرى بعضا لسنوات طويلة... ربما ذلك هو أحد أسباب متانة صداقتنا. الصداقة التي لا تطالب بشيء، لا تطوّق العنق بمنّة أو فضل، لا تضع شروطا، لا تسنّ القوانين ولا تعيّن التخوم. صداقة جميلة حقا قائمة على الارتياب الصحي المتبادل.

العمل مع مارشيلو متعة وبهجة: لبق، سلس، عفوي، متـّقد الذهن. إنه يخطو مباشرة داخل الشخصية دون أن يطرح الأسئلة أو حتى يطلب قراءة السيناريو. كان يقول: «أين المتعة في معرفة ما سوف يحدث سلفا؟ أفضّل أن أكتشف ذلك تدريجيا، يوما بيوم، مثلما تفعل الشخصية. أفضّل أن أعيش حالة الشخصية التي لا تعرف ما سوف يحدث لها».

مارشيلو يبيح نفسه للتشكل وفق منظور المخرج، لا يعترض على ماكياج أو لباس أو تسريحة شعر، ولا يطلب إلا الأشياء الأساسية التي لا غنى عنها. معه كل شيء يكون هادئا، رائقا، مريحا، وطبيعيا... ذلك النوع من الطبيعية الذي يبيح له أحيانا أن ينام وهو على خشبة المسرح.

في ذلك المساء، حين كنت أتحدث إليه عن «مدينة النساء» ودون أن أخبره بأنه مرشّح لتأدية الشخصية الرئيسية -المنتج وقتذاك كان مصرّا عل دوستين هوفمان- كان مارشيلو يصغي دونما اهتمام مثل شخص يعرف أن الأمر لا يعنيه لكنه مضطر بدافع الصداقة أو المجاملة أو الكياسة إلى إظهار فضول فاتر.

كنت أقول له: إنها قصة رجل يدرس المرأة على نحو شامل، يتأمل كل مظاهرها وهو مفتون بها لكن في الوقت ذاته تدهشه وتصعقه. إنه ينظر إليها دون أية رغبة في فهمها. بالأحرى، هو يجد لذته في البقاء مشدوها، مفتونا بها، مفعما بالابتهاج، مشوشا، وشغوفا إلى حدٍ ما. إنه يبحث عن امرأة، عن المرأة، لكنه لا يرغب أبدا في إيجادها. ربما هو خائف، ربما يظن أنه بإيجاد المرأة وامتلاكها سوف يستسلم، يخضع، يختفي، يموت. لذا هو يؤثِر أن يستمر في بحثه عنها دون أن يصل إليها أبدا.

سردي لقصة الفيلم على ذلك النحو المؤثر، المحرك للمشاعر، أزعجه قليلا. لذلك واصلت سياقة السيارة في صمت. مارشيلو أيضا التزم الصمت. تحاشينا النظر إلى بعضنا البعض لفترة طويلة. لكن في تلك اللحظة، اتخذنا قرارا مشتركا -دون أن نصرّح به- أن نعمل معا في تحقيق «مدينة النساء».

وصلنا الآن إلى فيلمك الأخير... أولئك الذين عملوا معك أكدوا أن كل شيء مضى بيسر وسلاسة، دون توترات وعراقيل كالتي صادفتك في أوقات أخرى. مواعيد التصوير تم التقيد بها في انضباط صارم تقريبا ... هل الفضل في ذلك يعود إلى الإنتاج أو إلى مزاجك الرائق آنذاك، أم إلى شيء آخر؟

فيلمي «السفينة تبحر» أصبح الآن خلفي، ولا أتذكر إلا القليل عن العمل فيه. وصراحة صرت لا أذكر الكثير مما كان يحدث لي أثناء العمل في الأفلام الكثيرة التي حققتها. وحدها التفاصيل العادية، المبهمة، التي لا تعني شيئا هي التي تمكث في الذاكرة: سترة الميكانيكي الخضراء، المشاهد المصورة في المواقع الخارجية حيث المطر يطرق على الخيمة البلاستيكية التي ارتجلناها، ونحن نحتشد معا هناك داخل خندق في الظلام».

يتعيّن عليّ أيضا أن أبذل جهدا موجعا ( بقدر ما يتعلق الأمر بي هو جهد عقيم) من أجل تذكر جو أحد أفلامي، والذي جوهريا لا يتغير أبدا. ربما هذا هو السبب الذي يجعلني لا أصدق إنني في الرابعة والستين من عمري، وأنا الذي كنت لتوي جالسا في الأستوديو أدير جهاز العرض وأغلقه، أو أزعق عبر البوق سائلاَ عن وجبة الغداء وقت الاستراحة,

لا أظن أن العمل في «السفينة تبحر» سار على نحو أكثر يسرا وسلاسة مما حدث مع الأفلام الأخرى. ربما كان الأمر يبدو كذلك بالنسبة للآخرين وذلك ببساطة لأن التصوير توافق بدقة مع عدد الأسابيع المخطط لها في جدول التصوير.

لا توجد شروط مثالية لتنفيذ فيلمٍ ما. وفي أفضل الأحوال، الشروط هي دائما مثالية، بما أنها تتيح لك أن تحقق الفيلم بالطريقة التي تحقق بها أفلامك عادة. مهنتنا توحّد الصرامة والمرونة. علينا أن نكون حازمين، لكن في الوقت نفسه منفتحين ومرنين ومستعدين لاحتواء أي مقاومة أو خلافات أو نزاعات أو أخطاء. غير المتوقع لا يشكل دوما معضلة، بل هو في أحوال كثيرة مصدر عون. كل شيء هو جزء من العمل في الفيلم... كل شيء هو الفيلم.

أنا وتونينو جويرا كتبنا «السفينة تبحر» منذ فترة -و كما سبق أن قلت في موضع آخر- لأنه كان عليّ أن أعبّر عن فكرةٍ ما، لكنني لم أعد أتذكر إلى من عبّرت. بعد يومين أو ثلاثة من الثرثرة المبهمة والتفكير غير المجدي توصلنا إلى الحبكة والسيناريو صار جاهزا خلال ثلاثة أسابيع فقط. إذا ظننت أن ثلاثة أسابيع تبدو غير كافية لانجاز سيناريو جيد، خذ بعين الاعتبار حقيقة أن من التلميحات الأولى للقصة وحتى الشروع في التصوير ثلاث سنوات قد انقضت. ويبدو لي أن ثلاث سنوات هي فترة طويلة لضمان توقع فيلم جدير بذلك.

و كما يحدث معي بانتظام لمدة 15 سنة، العيش فترة طويلة مع مشروع سينمائي ينتهي بي إلى الإحساس بالكراهية تجاهه، أحاول أن أتخلص منه، ولا أعود أرغب في الاشتغال عليه. عندما أصل إلى هذه الحالة يبدأ الشروع الفعلي في تنفيذ الفيلم.

الآن وقد تم انجاز «السفينة تبحر»، لا أعود أستطيع أن أخبرك كيف كان شعوري الأصلي تجاهه. فقط حقيقة أن الفيلم يوجد... ما كنت أريد أن أفعل به قد ذاب وتلاشى. أذكر حديثي السابق عن شخصيات آسرة على نحو مثير للمشاعر والتي لها سحر الأفراد المجهولين في الصور الفوتوغرافية. قلت بأنني أردت أن أحقق فيلما بأسلوب الأفلام الأولى، وبالتالي توجّب أن يكون بالأسود والأبيض.

لا أعرف كم من تلك النوايا والمقاصد بقيت في الفيلم، لأن خلال التصوير الأشياء تحدث على غير توقع. ربما في هذه المرّة أنا كرّست عناية أكثر قليلا من المعتاد في انتقاء الوجوه. اعتقدت أنني كنت بحاجة إلى الوجوه التي، واقعيا، كانت تبدو أنها تنتمي إلى أولئك الأفراد الذين لم يعد لديهم وجود، أفراد ضاعوا في الزمن والذين يلامسوننا ويثيرون فينا الفضول بسبب تلك التسريحة العتيقة، وذاك اللباس القديم الذي عمره مئة سنة، تلك الطريقة في الابتسام، في تثبيتنا بنظرة ضاعت إلى الأبد والتي تفشي بإحساس بالتاريخ، قصة الحياة. خطر لي أن ممثلين من قطر آخر، من مجتمع آخر، بأساليب وعادات مختلفة، ربما بإمكانهم التعبير على نحو أفضل عن ذلك النوع من النأي، عن تلك الخاصية المغايرة، المحركة للمشاعر. أظن أن ذلك هو السبب الحقيقي، إلى جانب العديد من الممثلين الإيطاليين في هذا الفيلم، وراء اختيار ممثلين بريطانيين وفرنسيين وألمان والذين يبدون أكثر حقيقية لأنهم يؤولون شخصيات تنتمي إلى جنسياتهم الخاصة.

محاطا بصور فوتوغرافية لوجوههم المعلقة على جدران مكتبي الصغير في استوديوهات شنيسيتا، شعرت بالحاجة إلى تطوير قصصهم إلى مدى أبعد، أن أحفر بعمق أكثر في علاقاتهم، أن أضيف أصدقاء، آباء وأمهات، معارف جدد، أن أخترع أوضاعا جديدة... باختصار، أن أقوم برحلة معهم... ذلك لأن الفيلم عبارة عن قصة رحلة، رحلة بحرية لإنجاز طقوس ما، رحلة من المفترض أن تحدث قبل سبعين سنة عشية اندلاع الحرب العالمية الأولى.

لكنك صورت «السفينة تبحر» بالألوان ثم قمت بعكسه بحيث أننا نرى أجزاء معينة بالأسود والأبيض. هل ثمة علاقة هنا مع فيلمك «ثمانية ونصف»، حيث «الواقع» مصور بالأسود والأبيض و«الحلم» بالألوان؟

الفيلم يحكي عن عالم بعيد والذي عاش وعانى في فترة لم يكن لأحد منا وجود فيها. أردت من شخصيات القصة أن تنقل الإحساس ذاته الذي تشعره عندما تنظر إلى صورة فوتوغرافية قديمة، شبحية ومشوبة بالصفرة مع تدرجات اللون البني الداكن. أعتقد حتى عندما تكون هذه الصورة ملوّنة ومؤسلبة، فإن مشاعرنا سوف تتدخل وتغيّر اللون أو تزيله، تجعلها شبحية، ذلك لأن أولئك الأفراد، بالنسبة لنا، مجرد ظلال، أشباح. لهذا السبب كان لتصوير الفيلم طابع لوني غير مألوف: الألوان الحمراء والزرقاء والخضراء تفقد قوة الواقع من أجل اتخاذ الأشكال الغامضة والدرجات المضبّبة للذاكرة.

كما في كل الرحلات عبر الزمن أو الغزوات نحو تجاويف الماضي، الواقع المتحقق والمستحضر يعطي إحساسا بالأثر، بالتذكار. إنها وثيقة مستردة من الأعماق، من غبار موقع يتم فيه التنقيب عن الآثار، من الرمل الذي يغطيها في قاع البحر. الصورة التي، بطريقة أو بأخرى، تصبح محرّفة، محجبة، مهزوزة. دائما هناك شيء بيننا وتلك الصور. ذلك الحجاب، تلك المسافة، أردت دوما أن أحفظها على الشاشة، أن أفشي بالعملية التي تخطر في أذهاننا مع مرور السنوات... العملية التي بها تظهر الذكريات على نحو ملائم باعتبارها زائلة، متموجة، متقلبة.

لا شيء مشترك بين هذه العملية، استخدامي للون هنا، واستخدامي السيئ للون في فيلمي «ثمانية ونصف»، والذي قرّرته بغباء الوحدة الإنتاجية ضد مشيئتي، إذ كانت تفكر، بسذاجة وبلاهة، أن التباين بين الألوان والأسود والأبيض سوف يسهّـل على الجمهور التمييز بين الواقع والحلم، وبالتالي يسهـّل فهمهم للفيلم.

بوجه عام، ما المشاكل التي تواجهك في المهمات والواجبات التي تلي عملية التصوير؟

أي متعة تجدها في عمل يخلو من المشاكل؟ كل مرحلة من العمل السينمائي ينطوي على صعوبات غير متوقعة، وجزء من عملك أن تتغلب عليها أو أن تحاول التعايش معها.

بالنسبة لي، إعادة تسجيل الصوت هي واحدة من أكثر المراحل مشقة وتطلبا. إذ يتعين علي أن أعيد كتابة كل الحوارات، لأن طريقتي في تحقيق الفيلم تمنعني من استخدام حتى متر واحد من التسجيل الصوتي الأصلي. ها هنا الجلبة واختلاط الأصوات: أصوات أممية تنتسب إلى جنسيات مختلفة، لهجات، صلوات، أصوات تسرد بدلا من تقديم تلميحات، أصوات تخبرنا - بناء على طلبي- عن ما أكلته ليلة البارحة. عملية إعادة تسجيل الصوت تشبه عملية إعادة صنع الفيلم، هذه المرّة وفقا لضرورات التسجيل الصوتي، والذي أحيانا يطرح مشاكل لفظية لا تقل حجما عن المشاكل البصرية.

المرحلة الرهيفة الأخرى هي عملية المونتاج. أثناء التصوير لا أمانع أبدا في الزيارات التي يقوم بها الأصدقاء أو المعارف أو، كما هو حاصل الآن، حيث تدخل علينا صفوف من الطلبة بكل ضجيجهم وفضولهم (في الواقع لا تزعجني تعليقاتهم وملاحظاتهم بل أشعر بالتحفيز والإثارة)... لكن في غرفة المونتاج الصغيرة لا أطيق ولا أسمح بحضور أي أحد ما عدا المونتير ومساعده بالطبع. لابد أن أكون وحيدا هنا. هذه هي المرحلة التي فيها يشرع الفيلم في الكشف عن نفسه، عن ما يكونه، عن حقيقته. ذلك يشبه فعل الخلق الذي يجترحه دكتور فرانكشتاين وهو واقف أمام مخلوقه المسخ، المركـّب من أجزاء تشريحية متنوعة، ويجعل النقـّالة التي تحمله ترتفع إلى سماء ملبدة بالغيوم، مشحونة بالبروق والعواصف، ليتلقى الحياة بفعل الضوء المصحوب بالرعد. بالمونتاج يبدأ الفيلم في التنفس، في التحرك، في النظر إليك مباشرة

العدد 2257 - الأحد 09 نوفمبر 2008م الموافق 10 ذي القعدة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً