ظل الأديب المصري نجيب محفوظ في كل أعماله الروائية والقصصية يكتب عن الطبقة الوسطى، التي تعالج جراحها الآن، فأبدع شخوصا تتحرك في حيز مكاني واحد هو الحارة المصرية، وانشغل الكثيرون بالسؤال: لماذا لم يكتب نجيب محفوظ عن الريف المصري؟ ولم يدر هؤلاء أن صاحب «الحرافيش» كتب رواية مجهولة اسمها «ما وراء العشق»، ولم تنشر ضمن أعماله المعروفة، وتدور في أجواء ريفية.
وتتكون الرواية من 52 فصلا، تبدو فيها قرية «الربيعية» كمكان تملأه شخصية المالك الكبير «ربيع عبدالدايم»، بحيث ينشأ بطل الرواية في أجواء تشيد بمكارم هذا الرجل، لكن لماذا لم يبادر «محفوظ» بنشر هذا العمل؟ يقول صاحب نوبل 1988: «المرة الوحيدة التي اضطررت فيها إلى إلغاء عمل كتبته حدثت بعد انتهائي من رواية «ما وراء العشق» وقد كتبتها خلال السنوات الأخيرة، بعد انتهائي منها شعرت بعدم رضا نهائي، من الصعب أن أقول ما الذي أثار ضيقي منها؟ كنت مطمئنا إلى القسم الأول منها، لكن القسم الثاني أشعرني بعدم ارتياح، ولكن هذا نوع مختلف عن عدم الارتياح الذي ينتج بسبب ما كان في خيالك وما تحقق بالفعل، لقد كان لدي ثلاث روايات «أفراح القبة» و«ليالي ألف ليلة»، وتلك الرواية، دفعت بالروايتين الأوليين إلى النشر، واحتجزت «ما وراء العشق» إلى السنة المقبلة... كي أعيد فيها النظر. وصدرت «أفراح القبة» في العام 1981، و«ليالي ألف ليلة» في العام 1982 من دون أن تصدر «ما وراء العشق».
ويلاحظ الناقد حسين عيد الذي صدر له في القاهرة كتاب «نجيب محفوظ رواية مجهولة وتجربة فريدة» عن الدار المصرية اللبنانية، أن قصة «أهل الهوى» التي صدرت في مجموعة «رأيت فيما يرى النائم» في 1982، كانت تحمل معالجة فنية جديدة لرواية «ما وراء العشق»، بعد أن أعاد نجيب محفوظ النظر فيها، ويعتقد عيد أن محفوظ كتب هذه الرواية في نهاية حقبة السبعينات وهو يرى تيارات سياسة الانفتاح الاقتصادي تجتاح المجتمع المصري، وتحدث تحولات جسيمة فيه، امتد تأثيرها إلى الأفراد، وانعكس على شخصياتهم.
ولكن كيف وقعت رواية محفوظ المجهولة في يد حسين عيد؟ الواقع أن صاحب نوبل عندما قرر عدم نشرها، وأسقطها من حسابه الإبداعي، قدمها إلى المخرج السينمائي على بدرخان على أمل أن يستفيد منها سينمائيا، لكن ذلك لم يحدث فسلم بدرخان نسخة ضوئية منها بخط محفوظ إلى حسين عيد، الذي أصدر بشأنها هذا الكتاب.
والرواية عبارة عن ثلاث لوحات أو ثلاثة أوجه، تقف في خلفية كل لوحة شخصية قوية مهيمنة، تمتد سطوتها لتشمل المكان كله، وهناك شخصيات مساعدة يطالها هذا التأثير، إضافة إلى تأثيرات الواقع المحيط ومفاهيمه السائدة، وتتصدر مقدمة اللوحة شخصيتان شابتان، إحداهما الشخصية الرئيسة في العمل والثانية حبيبته، وتظهر الشخصية الرئيسة في اللوحة الأولى بوجهها الطبيعي، وفي اللوحة الثانية بالوجه المقابل، بعد أن تفقد تماما وجهها الأول، وفي اللوحة الثالثة تعرف الشخصية الرئيسة بحقيقة ماضيها، ويتداخل عالماها الجديد والقديم. والكتاب الذي صدر حديثا يكشف كيفية اشتغال محفوظ في ورشته الإبداعية، فقد اعتاد أن يقوم بإعادة كتابة ما انتهى ما انجازه (مرحلة التبييض)، وإعادة قراءة تلك الأعمال المنجزة بعد انقضاء فترة من الوقت، وفيما يخص هذه الرواية المجهولة كان يشعر بالفرق بين التصور المبدئي وما أنتجه بالفعل، بين ما كان في خياله وما تحقق، وإن كان في الأخير اطمأن إلى القسم الأول من الرواية وأن الثاني أشعره بعدم الارتياح، إلا أنه كان حاسما في إعادة النظر فيها ومن ثم عدم نشرها. وقد اجتهد حسين عيد في تحليل الفصل الأول من الرواية، وأسباب عدم رضا محفوظ عنها، ثم قدم رؤية لكيفية تخليق قصة «أهل الهوى» بعد تهذيب «ما وراء العشق»، كما تضمن الكتاب ملحقا لبعض صفحات الرواية المجهولة بخط نجيب محفوظ، احتراما لرغبته في استبعادها من بين أعماله المنشورة
العدد 118 - الأربعاء 01 يناير 2003م الموافق 27 شوال 1423هـ