العدد 132 - الأربعاء 15 يناير 2003م الموافق 12 ذي القعدة 1423هـ

مستقبل الإسلام السياسي

سددت الحرب على الارهاب ضربة قوية للأفراد وللبنية التحتية والعمليات لشبكة تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن. وبالقدر نفسه أثارت الشعور بالنشاط والخفة والإرادة التي لا تقهر وسط الإسلاميين الراديكاليين الذين نشأت حركتهم عقب الجهاد الناجح ضد الاحتلال السوفياتي لأفغانستان. ولكن من غير الواضح حتى الآن ما إذا كانت هذه الحرب ستخفف أو ستفاقم التوترات الحالية في العالم الإسلامي.

وبالاعتماد على وجهة نظر واحدة فإن الهجمات على مركز التجارة العالمي والبنتاغون تعد نجاحا، ودليلا على أن قليلا من الناشطين استطاعوا توجيه ضربة موجعة إلى قوة عظمى، وذلك بناء على قضيتهم، أو تعد فشلا إذ أن المهاجمين تقدموا على حساب دمار دولتهم وأفول منظمتهم بينما أثارت تقريبا معارضة عالمية. وللمساعدة في استمرار هذا النجاح الأخير، على الولايات المتحدة أن تتجاوز مرحلة الحرب الأولى، وتركز على المصادر العميقة للعنف السياسي والإرهاب في العالم الإسلامي اليوم. هل كانت هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 هي اللهاث الأخير للراديكالية الإسلامية (فتح كل النيران والقذائف) لمزيد من المواجهة بين المتشددين الإسلاميين والغرب؟ هل يتراجع المسلمون عن العنف ويتخلوا عن النزعة المعادية المطلقة من العنف باسمهم، أو يسمحوا لأسامة بن لادن وجماعته برسم شكل العلاقات المستقبلية بين المسلمين والغرب؟

الإجابة عن هذه الأسئلة تقع جزئيا على إدارة بوش.

الأوجه المتعددة للإسلام السياسي

أكد الرئيس بوش مرارا أن الحرب على الارهاب ليست حربا على الإسلام. ولكن بالسعي إلى فصل الإسلام عن السياسة، يجهل الغرب حقيقة أن الاثنين مرتبطان بشدة مع بعضهما عبر رقعة واسعة من الكرة الأرضية من شمال افريقيا إلى جنوب شرق آسيا.

وإن تغيير البيئة الإسلامية ليس مجرد قضية إعادة كتابة المناهج المدرسية أو طلب إيجاد صحافة أقل عداء للغرب. والحقيقة البسيطة هي أن الإسلام السياسي سيبقى القوة الأيديولوجية الأكثر قوة في ذلك الجزء من العالم.

إن هذه الظاهرة الإسلامية يصعب أن تكون موحدة، ومع ذلك، تنتشر وتتطور بل تتنوع أشكال متعددة منها. ونجد اليوم أن إسلاميي الصدامات إما أن يكونوا من الراديكاليين أو المعتدلين، ومن السياسيين أو غير السياسيين، ومن العنيفين أو المسالمين، ومن التقليديين أو المحدثين، الديمقراطيين أو الاستبداديين.

تقع طالبان أفغانستان المتشددة والجماعة الإسلامية المسلحة الجزائرية القاتلة في نطاق متعصب واحد يشمل أيضا الحركة الباكستانية المسالمة غير السياسية التي تعظ بطريقة مضجرة (جماعة تابليجي)، والحزب البرلماني التقليدي السائد في مصر (الأخوان المسلمين)، وحزب الفضيلة التركي.

وتتبنى حركة «نور» غير السياسية في تركيا جميع مجالات العلوم إذ تنسجم مع الإسلام لأن المعرفة العلمية العلمانية تعزز التفكر في عالم الخالق. وتتجنب «نهضة الأمة التوفيقية» في أندونيسيا أية دولة اسلامية على الاطلاق وذلك في سعيها إلى مزيد من رضا الله عن الحياة الإنسانية.

وتدرس الحركات النسوية الإسلامية القرآن والشريعة من أجل تفسير التعليمات لأنفسها، ولتتميز بين ما يشترطه دينها بوضوح وما تستنبطه تلك التقاليد بإحكام ويعززه الزعماء الروحيون (كالحجاب من الرأس إلى أخمص القدم الالزامي أو منع قيادة السيارة بواسطة أنثى في المملكة العربية السعودية). هذا قليل من بين قائمة طويلة من الحركات التي تعمل في وسائل الإعلام، وفي إدارة مواقع انترنت، وتسيير برامج ضخمة للرعاية، وإدارة مدارس ومستشفيات، وتمثيل منظمات إسلامية غير حكومية متطورة، وممارسة تأثير رئيسي في الحياة الإسلامية.

عندما يتحدث الغربيون عن المثل السياسية، فإنهم عادة ما يستندون إلى الوثيقة العظمى البريطانية، أو الثورة الأميركية، أو الثورة الفرنسية. بينما يرجع، المسلمون إلى القرآن والحديث لاستنباط مبادئ عامة عن الحكم المثالي (وتتضمن تعهد الحاكم باستشارة الناس) ونظريات العدل الاجتماعي والاقتصادي. وفي الحقيقة لم يشر الإسلام ولا الإسلام السياسي إلى شيء بشأن مؤسسات قوية للدولة، وبصراحة لا يعلم أي أحد بالضبط كيف يكون شكل الدولة الإسلامية المعاصرة، إذ بقيت القليل من الدول الإسلامية. ولكنها لا تمثل نموذجا مثاليا. ويستخدم الإسلاميون اليوم مثلا إسلامية عامة محكا للانتقاد، والهجوم، أو حتى محاولة لتجاوز ما يعرف بأنه أنظمة استبدادية، فاسدة غير لائقة وغير شرعية.

ولا توجد ـ في الواقع ـ ايديولوجية أخرى تستطيع أن تنجح نسبيا في العالم الإسلامي. إذ تعد الأحزاب القومية في المنطقة ضعيفة، والقومية نفسها قد ذابت في أحيان كثيرة في الإسلام السياسي، وتم تهميش اليسار وأصبح في فوضى، ولا يستطيع الديمقراطيون الليبراليون أن يحصلوا على مناصرين بعدد كافٍ للخروج في مظاهرة في أية عاصمة مسلمة.

وستكون هناك أشكال متعددة من الإسلام السياسي تمثل التيار الفكري السائد في الاقليم لبعض الوقت في المستقبل، ولكن في النهاية، من المحتمل أن يتوطد حكم ليبرالي حديث من خلال توجهات إسلامية ليبرالية على مستوى راسخ أكثر من نماذج غربية «الديمقراطية عاجلة».

ظاهرة ديناميكية

تنظر غالبية المراقبين الغربيين إلى ظاهرة الإسلام السياسي كأنها فراشة في الشبكة قبضت وحبست لتجد مصيرها السرمدي، أو كمجموعة نصوص تصف بتحفظ مسارا واحدا. وهذا يثبت لماذا صرح بعض العلماء الذي درسوا كتابات الإسلام بأن الإسلام يتعارض مع الديمقراطية - وكأن أي دين في أصوله يقوم على الديمقراطية برمتها.

فقد أخطأ مثل هؤلاء المراقبين في فهم الظاهرة. فالقضية الاساسية ليست ماهية الإسلام، ولكن ماذا يريد المسلمون. يستطيع الناس بكل أنواع الطيف للاسلام السياسي أن يطوروا تفسيرات لدينهم، تبرر عمليا أي مطلب سياسي. هذه العملية معمول بها في الوسط الإسلامي، إذ ان الاسلام المعاصر ظاهرة ديناميكية متجددة. إنها لا تشمل بن لادن وطالبان، ولكن أيضا ليبراليين يباشرون اصلاحهم الخاص بهم مع احتمال الحصول على نتائج في المدى الطويل.

وقد يجد التقليديون في الليبراليين خطرا، ولكن كثيرا من المسلمين بمن فيهم السياسيون يرون في هذه الجهود فهما للقيم الأبدية بمصطلحات معاصرة ضرورية للدين الخالد. للأسف، حتى وقت قريب ظل الاسلام موجودا في وضع من الركود الفكري لمئات السنين. وقام المستعمرون الغربيون بتهميش الفكر الإسلامي، بينما لم تقم القيادة بعد الاستقلال بأي جهد بل سعت إلى اتباع النماذج الغربية الفاشية وذلك من خلال الهيمنة الاستبدادية. الآن فقط بعث بعبع الاسلام في فترة من الابداع والحرية والاستقلال المتجدد. وكثير من هذا النشاط الجديد، حدث في ظل حرية الغرب، حيث عشرات المؤسسات الإسلامية طورت أفكارا جديدة واستخدمت مفاهيم حديثة لحفز النقاش ونشر المعلومات.

مَنْ يحتوي مَنْ؟

يواجه تطور الإسلام السياسي عوائق هائلة. يأتي العائق الأول كما هو ملاحظ من المشهد السياسي المحلي. إذ يضطهد الاسلاميين بالحبس والتعذيب والاعدام. وتشجع مثل هذه الظروف نشوء وظهور مجموعات سرية، وأحيانا مسلحة أكثر منها مجموعات ليبرالية.

ويأتي العائق الثاني من السياسة الدولية التي دائما ما تدفع الحركات والأحزاب الاسلامية إلى الاتجاه المشؤوم. ظاهرة مماثلة هي حركة التحرر القومي الاسلامية. تسعى أقليات مسلمة مضطهدة إلى الحكم الذاتي أو الاستقلال في اكثر من اثنتي عشرة دولة مثل فلسطين، الشيشان، يجوز الصينية، مورو الفلبينية، والكشميريين... الخ. وفي هذه الحالات، يخدم الاسلام بقوة دعم كفاح التحرر القومي بواسطة إضافة عنصر ديني «مقدس» للكفاح الإثني الظاهر. هذه القضايا جذبت إليها نوعا من المجاهدين انضم بعضهم إلى تنظيم القاعدة. ويأتي عائق ثالث من قائمة الاستياء الطويلة لدى الاسلاميين المناهضة للقوى والسياسات التي تفهم على أنها تقيد المسلمين في العالم المعاصر، كثير منهم مرتبط بفلسفة ليبرالية الولايات المتحدة. وتشمل القائمة دعم الولايات المتحدة للأنظمة الاستبدادية في العالم الاسلامي باسم الاستقرار أو المصالح المادية مثل التأكد من تدفق النفط، دعم الولايات المتحدة الروتيني لإسرائيل وفشل واشنطن في السعي إلى توطيد مؤسسات سياسية ديمقراطية خشية أن تأتي بمجموعات إسلامية إلى السلطة.

مشكلتهم الإسلامية ومشكلتنا

قررت كثير من الأنظمة أن تلعب دورا خطيرا في محاولة منها لابعاد الإسلاميين، وذلك بتبني تفسيرات اجتماعية وفكرية قاسية للإسلام من أجل تقوية أوراقهم ضد المعارضة الإسلامية. ولهذا نجد في مصر، تصدر جامعة الأزهر المسيطرة عليها الحكومة، ذات الصوت المعتبر في تفسير الاسلام، سمتها الخاصة في أحكام اساسية متعصبة، وقد فعلت باكستان شيئا مماثلا. يعد الإسلام ببساطة وسيلة الصراع بين الحكومة ومعارضيها كما هو وسيلة للصراع بين الدول الاسلامية مثل السعودية وإيران في فترة الثمانينات.

إذا العالم الإسلامي في وضع محفوف بالمخاطر. وربما يعتقد بعض الغربيين أن مشكلة الاسلام ليست مشكلتهم، وبأن المسلمين يحتاجون فقط إلى مواجهة الحقيقة، ومن ثم يسيطرون على المشكلة. ولكن أوضحت هجمات الحادي عشر من سبتمبر أنه في هذا العالم الذي أصبح قرية صغيرة يمكن أن تكون مشكلاتهم هي مشكلاتنا. وتدعم نزعة الولايات المتحدة لتجاهل الشئون الإسلامية العامة بينما تتعاون واشنطن مع أنظمة مستبدة، بيئة تصبح فيها أعمال الإرهاب معتبرة، وسيئة وحتى سارة في أعين الغالبية.

وطبعا، ليس بوسع السواد الأعظم من المسلمين سوى الهتاف وتشجيع أولئك الارهابيين. ولكن تعد هذه البيئة المدعومة بواسطة الغرب هي الأخطر لأنها تدعم وتشجع المتشددين والمتعصبين وليس الليبراليين من الإسلاميين وصانعي السلام.

الغالبية المسلمة الصامتة

يرغب قليل من المسلمين حول العالم في أن يوقعوا عقابا لا متناهيا على الولايات المتحدة، أو يدخلوا في حرب معها. ويرى كثير منهم أن ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر جريمة شنيعة. ولكن مازالوا يأملون أن تخدم الهجمات باعتبارها «درسا» للولايات المتحدة لكي تستيقظ وتغير سياسياتها نحو الشرق الأوسط. ومع ذلك، كثير منهم يرفض رأي بوش الأساسي بأن أولئك الذي يتعاطفون مع الهجمات هم أناس يكرهون الحرية.

ويطمح جميع المسلمين في العالم إلى حريات سياسية مماثلة لتلك التي يفتخر بها الأميركيون. وشكواهم الأساسية في الواقع هي أن سياسات الولايات المتحدة ساعدت في حكر الحريات الضرورية لتطوير مقدراتهم الشخصية والقومية بطرق مشابهة. وان لدى المجتمعات المسلمة الكثير من المشكلات وليس من بينها مقت القيم السياسية الأميركية. وعلى صانعي السياسة لدى الولايات المتحدة أن يكونوا عقلاء بالكف عن الوصف الخاطئ للمشكلة.

يحتاج الأميركيون إلى أن يفكروا في المدى الذي يرتبط في الاسلام بالسياسة في العالم المسلم. ربما يمثل هذا الرابط مشكلات ولكنه حقيقة لا يمكن تغييرها بمجرد المطالبة بالعلمانية.

وعلى الولايات المتحدة أن تتجنب صيغتها المعتمدة بواسطة جورج بوش أن الدول إما «معنا أو مع الارهابيين»، هذا ليس هو ما يجري على أرض الواقع، ولا أكثر مما يسميه بن لادن «بالصراع بين الاسلام والكفر». والمسألة الحقيقية تتمثل في احتمال نشوء قوى في العالم المسلم تغير ليس الاسلام نفسه فحسب، ولكن الفهم الانساني للاسلام أيضا، واضعة قاعدة للاصلاح الاسلامي لتظهر أخيرا سياسة تكون أحيانا اسلامية وأحيانا أخرى ديمقراطية ليبرالية. ولتشجيع مثل هذه الاتجاهات يجب أن تكون هدفا مهما لسياسة الولايات المتحدة.

وأحد النماذج الناجحة التي تستحق التقييم هو تركيا. ليس هذا لأن تركيا «علمانية». في الواقع، ترتكز «العلمانية» التركية فعليا على السيطرة الكاملة للدولة وحتى قمع الدين. أصبحت تركيا نموذجا حقيقيا لأن الديمقراطية التركية تحسم أيديولوجية الدولة المتعصبة وتسمح تدريجيا وبامتعاض ظهور حركات اسلامية وأحزاب تعكس التقاليد وجزء واسع من الفكر العام والروح الديمقراطية المتطورة للدولة. وكانت نتيجة ذلك تطور الإسلام السياسي في تركيا بسرعة من فهم ضيق وغير ديمقراطي للإسلام إلى قوة مسئولة نسبيا، سواء اتفقت كلية مع المثل الأميركية أو لم تتفق.

وهناك حالات أخرى واعدة جديرة بالدراسة تشمل الكويت، البحرين، المغرب، الأردن، ماليزيا وأندونيسيا، وجميعها في مراحل مختلفة من الليبرالية السياسية والاجتماعية والتطور وتعمل جميعها على تفادي انفجار اجتماعي يأتي بقمع السياسة الإسلامية باعتباره وسيلة للتغيير. ويؤدي انفتاح العملية السياسية إلى تضييق نماذج معتدلة فعالة من تلك الراديكالية المصادمة، إلى حد يعد مواطني هذه الدولة ليسوا مشهورين من بين الجماعات الإرهابية الرئيسة في العالم، وليسوا مثل مواطني حلفاء الولايات المتحدة مصر والمملكة العربية السعودية.

أخيرا يجب معاقبة الارهابيين. ولكن هل تحصر واشنطن نفسها في مجرد الأجندة العقابية للتعامل مع أعراض الأزمة في العالم الإسلامي؟ مجرد تسوية للفلسطينيين، ودعم الديمقرطة الاقليمية يبقيان من بين أسلحة رئيسية يمكن استخدامها في محاربة نمو الارهاب. وستكون كارثة للولايات المتحدة وفصلا وحشيا آخر في تاريخ العالم الإسلامي إذا فشلت الحرب على الارهاب في تحرر هذه المجتمعات المسحوقة، وبدلا من ذلك ستفاقم تلك الأوضاع العوامل التي أسهمت في العداء الأميركي المحكم الآن. وإذا كان المجتمع وسياسته عنيفا وغير سعيد، فإن اسلوبه في التعبير غالبا ما يتصف بالعنف ذاته

العدد 132 - الأربعاء 15 يناير 2003م الموافق 12 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً