شخّص الناقد السعودي عبدالله الغذامي إحدى أزمات الخطاب الثقافي العربي، كونه يمثل انفصالا تاما بين ما نتولع به، وما نتصوره ذاتيا وبين ما نعيشه واقعا، جاء هذا في محاضرته التي أقامها مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة مساء الاثنين الماضي، والتي جاءت بعنوان «الجنوسة النسقية» وأوضح من خلالها أنه جرى تهميش خطاب الحب، وإخراجه من متن الثقافة بوصفه أجمل الخطابات وأكثرها إنسانية، ليستحيل خطاب الحب، نوعا من المجاز البلاغي الكاذب، وليغيب ويهيمن عليه خطاب فحولي نسقي لا يسمح بإيجاد متسع بين الخطابين، فيعمد الخطاب الفحولي، ومن وراءه الثقافة الحاضنة له إلى جعل كل ما هو إنساني محض مجازا كاذبا. من هذا المنطلق، وامتدادا لمشروع الغذامي النقدي الذي يستهدف كشف الأنساق المضمرة التي تفعل فعلها في الثقافة لتأتي بالشيء ونقيضيه في الوقت نفسه، تحدث في هذه المحاضرة عن النسق الفحولي، واختراعات الثقافة التي عمدت باستمرار إلى تشويه خطاب الحب .. وفيما يلي بعض ما جاء في المحاضرة.
لاحظ الغذامي أن المرأة في حكايات العشق هي كائن مجازي غير مشخص، وهي حزمة من الصفات الجسدية والمعنوية تتكرر في كل حكاية بلا اختلاف أو تميز شخصي أو بيئي أو طبقي أو ظرفي، وكلهن واحدة، بل إن الخطاب الشعري العربي يدور حول عدد من الأسماء مثل: ليلى وهند وسلمى ولبنى والرباب .. بل إن ليلى وهند تكادان تكونان هما كل الأسماء، وهي في الغالب أسماء تزوير وليست حقيقة. وهو ما يؤكد مجازية الخطاب، وبذلك تتحول المرأة إلى قيمة شعرية (لا سردية) حتى في أشد الحكايات سردية.
ويؤكد الغذامي أن كثيرا من حكايات الحب الكبرى هي مجرد خيال وتلفيق، كما ورد عن تلفيق قصة مجنون ليلى، وعن كذب حب كثير لعزة.
ويرى الغذامي أن خطاب العشق هو خطاب واحد، وكأنما هو حكاية سردية تتكون من شخوص يمثلون هذا الخطاب، ويترسمون أنماطه التي يتبادلون الأدوار التي تمثلها، وفي التعبير عنها، وحسبنا أننا أمام أسماء موحدة للمحبوبات وسمات موحدة لهن، وكل صوغ شعري وكل رواية حب شفوية هي تنغيمات على الوتر نفسه، ما يجعلنا أمام خطاب واحد يتعدد مؤلفوه وراووه ولكنه نسق واحد، والمؤلف الحقيقي له هو ( الثقافة).
ومما يرصده الغذامي في هذا السياق أن العشق عبارة عن تورية ثقافية، وإن ذلك يأتي من كون كل حال عشق هي حال مسخ، فالرجل إذا عشق فقد، أول ما يفقد، فحولته ثم يفقد عقله ثم يفقد حياته، وفي وسط عمليات الفقد هذه يتحول إلى كائن شاذ اجتماعيا وكأنما هو منبوذ، ويتحول إلى حكاية للتندر والأنس. هذا ما تقوله القصائد والحكايات.
ويدلل الغذامي على هذا الطرح باستشهاده بالبيت القائل:
من اللائي لم يحججن يبغين حسبة
ولكن ليفتن البريء المغفلا
ذاكرا أن هذا البيت سيقوم في الثقافة بمثابة (الجملة الثقافية) والجملة الثقافية هي القول الذي يمتلك طاقة تعبيرية كاشفة للمضمر الثقافي وموجهة له.
والعشق في هذا البيت فتنة، وهو إيقاع الرجل الذي سيتحول إلى بريء ومغفل، وسيفقد حنكته وفحولته. والقول المنسوب هنا يشترك فيه الراوي الذي هو ابن عبدربه، وواحدة من أبرز نساء العرب وجاهة وجمالا ورمزية، مع الشاعر قائل البيت، وهذا يؤكد كون البيت جملة ثقافية كاشفة، بما هو قول توافقت عليه كل المشارب والأجناس والأجيال، وبما أن البيت جملة ثقافية تحمل ثقلها الدلالي فإنه باعتباره حاملا لهذه الدلالة يدور في مدار التصور الذهني لعمل العشق وكارثيته. فالنساء إذا ما وقع فيهن الرجل فإنهن:
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
وهن أضعف خلق الله إنسانا
وذلك حسبما قاله جرير وأكدته الثقافة بوصف هذا البيت أغزل بيت قالته العرب، وكان جميل بثينة قد أشار إلى الوقوع في الحب بوصفه موتا، وقال بيته الذي هو أحد قوانين الحب:
خليلي فيما عشتما هل رأيتما
قتيلا بكى من حب قاتله قبلي
وهذا يسير مع ما نقله ابن قتيبة من أن اعرابيا سأل: ممن أنت؟ فقال: من قوم إذا أحبوا ماتوا. فقالت جارية سمعته عذري ورب الكعبة.
وهذه ليست دعوى فردية، بل لقد جرى تصويرها على أنها بيان ثقافي، وهذا جميل يسأل: أسألكم هل يقتل الرجل الحب...؟! ويأتيه الجواب:
فقالوا: نعم حتى يرض عظامه
ويتركه حيران ليس له لب
هو قتل وفقدان لب
ويقول الغذامي: هناك تصور مضمر في أن الحب ناقض للرجولة، وهو تصور قديم ومترسخ، ويمتد حتى يومنا هذا، ففي رسالة بعثتها إحدى القارئات وهي قارئة ومثقفة، تقول عن علاقة الرجل بالمرأة إنها علاقة سيادة وتحكم، ولو جرى أن امرأة روضت رجلا من بعد توحش فهو حينئذ لن يكون رجلا بل سيكون مؤنثا مثلها وسيفقد رجولته. وتوصف قلوب المحبين بأنها قلوب الطير تموع كما يموع الملح، وقد قيل لرجل من بني عذرة سألوه ما بال قلوب قومه كأنها قلوب طير ثنماث كما ينماث الملح في الماء، ألا تتجلدون.
ويضيف: ويكفي أن نتذكر قصة المجنون، وهي أشهر من أن تنسى، وهي حكاية تقوم على فكرة فقدان العاشق لعقله، حتى ليتحول الحب والعشق إلى مجرد مسعى لرد العقل، كما ورد في قول جميل بثينة:
ولو تركت عقلي معي ما طلبتها
ولكن طلابيها لما فات من عقلي
ففي خطاب العشق يتحول الرجل من كائن واقعي إلى كائن مجازي، فهو ذليل ومجنون ومقتول، وتتحول مهمته في الوجود من رجل عمل ومسئولية إلى ذات فاقدة لكل شروط البشر الأسوياء.
ومن أدق شروط هذا التكوين المجازي ألا يتزوج العاشق معشوقته لأن هذا الرابط العشقي هو رابط نفي وإلغاء وليس رابط إثبات وتأكيد. كما أن من شروطه تعاسة الاثنين العاشق والمعشوق:
ما بأيدينا خلقنا تعساء (كما في أطلال إبراهيم ناجي)، ولكي يفقد الرجل عقله ولبه وحياته، ولكي يتحول إلى كائن ضعيف مستلب لابد من أن يظل بين / بين، فلا هو هنا، ولا هو هناك، ولا هو ممسك بعاشقته ولا هي ممسكة به، ولا هو سال عنها ومنصرف، إنه خطاب في الخروج والاغتراب وليس في الوجود والتحقق، ولكي نتصور هذا فلنقرأ قول جنادة:
من حبها أتمنى أن يلاقيني
من نحو بلدتها ناع فينعاها
كيما أقول فراق لا لقاء له
وتضمر اليأس نفسي ثم تسلاها
ولو تموت لراعتني وقلت لها
يا بؤس للموت ليت الموت أبقاها
ويشرح: في هذه الأبيات تتجلى فكرة التحويل المجازي فهو لا يريد حبيبة متحققة، لأن من شرط الحب المجازي هذا ألا يتحقق عمليا، ولكي يضمن عدم تحققه فإنه يتمنى لو أن خبرا يأتيه، يقول إنها قد ماتت لكي تتأكد له (لا واقعية) هذه المعشوقة، وهذا الفقد هو لتحقيق الفراق، بما ان اللقاء ليس من سمات خطاب العشق. غير أن هذا الموت المتمنى سيحرمه من معشوقة مجازية، ولذا فإنها لو ماتت فعلا فسيدعو على الموت، ويا بؤس له ليته أبقاها، وذلك لكي تظل صورة مجازية لحكاية يهم الشاعر بصناعتها ولا يريد تحققها، من جهة، ولا يريد زوالها، من جهة ثانية.
ويفصّل: تتحول القيم هنا إلى قيم مجازية، فالموت مجازي وليس حقيقيا، وفقدان اللب مجازي أيضا، والجنون مجازي كذلك، وكل من كثير وجميل وجنادة، لم يموتوا ولم يفقدوا عقولهم، بل إنهم ارتبطوا واقعيا بزوجات أخريات واقعيات، ولم تكن الزوجات محبوبات ولا معشوقات لهم، وهذا يعني مجازية الخطاب ومجازية العاشقين والمعشوقات.
وفي نقلة أخرى يشير الغذامي إلى مفارقة صارخة عبر عنها بالحالة التوافقية الغريبة بين صادق جلال العظم ـ وهو المثقف العلماني الماركسي الحداثي ـ وابن حزم، إذ نظر الاثنان إلى ظاهرة العشق المجازي هذه نظرة فحولية سلبية، وبالغ العظم إذ اعتبرها أشبه ما تكون بحالة الزنى والفسق والرذيلة، في تواطؤ غريب مع نسق تشويه الخطاب ونسخه. ويتساءل: لماذا يتحول خطاب الحب إلى خطاب مجازي غير واقعي، وخطاب متخيل لا يراد تحققه؟
ويذكر: ويشتد احتكام السؤال هذا، إذا أخذنا في الاعتبار أن خطاب الحب هو أرقى الخطابات في تعامل الرجل مع المرأة، وفي تصور المرأة لذاتها وتصورها لموقف الرجل منها، كيف تكون أرقى حالات التلاقي بين الجنسين مجرد لقاء مجازي غير حقيقي ولا مرغوب في تحققه.
ويظل وهج الخطاب في مجازيته وليس في واقعيته، بل إن واقعيته تفسده وتلغيه، ثم لماذا هو خطاب في إلغاء سمات الفحولة ونفي لها. ثم لماذا هو خطاب في إلغاء سمات الفحولة ونفي لها. مثلما أنه خطاب مناف للواقع، من حيث ان الزواج الواقعي لا يحمل تلك السمات في التصور وفي التجنيس. ويعود للتساؤل: لم يظل خطاب الحب خطابا قائما على التناقض؟ ففي حين هو خطاب في التفاني في الآخر، كما هي حقيقته، إذا به خطاب في نقض السمات الوجودية والحياتية، فهو موت/ حياة، مثلما هو جنون / عقل، وعقل / جنون، وهو كذب صادق، وصدق كاذب، وهو مثالي، لا لرفع الحياة إلى الأفضل، وإنما لرفض كل شروط الواقع والحقيقة. أهذا تشويه للخطاب ومسخ له، وهل هذا كاشف نسقي، وهل هو متغير أم ثابت؟ أهو خاص بخطاب الحب التقليدي، أم أنه قائم حتى في الخطاب الحداثي أيضا؟
وينتقل الغذامي هنا إلى الحديث عن الشعر الحديث، بعد أن أعطى نماذج من الشعر القديم، ويستشهد ببيت إبراهيم ناجي من قصيدته الأطلال:
أيها الجبار هل تصرع من أجل امرأة
وعنه يقول: هذا بيت لم تتضمنه أغنية أم كلثوم، ربما بسبب تصريحه الفاضح لنسقية الحب، وأن له علاقة بمصارع الفحول القديمة، وكأنما هذا الخطاب قد أصبح أساسا للفهم الحداثي لسؤال الحب، كما هو الحال عن صادق العظم الذي وصف حال العشق في كتابه عن الحب العذري بأنه حال مرضية، ويختم الكتاب بكتابة روشتة للعلاج. ويؤكد الغذامي أن طرح العظم هذا تكرار نسقي لمقولة (ذم الهوى) التي ترددت في كل الخطابات عن الحب ليس عند ابن الجوزي فحسب، بل عند ابن المقفع والجاحظ وابن حزم، وفي كتب الفقه والشعر والحكايات، مثلما عند الشعراء والقصاصين. ويستشهد الغذامي بابن المقفع الذي قال: اعلم أن من أوقع الأمور في الدين، وأنهكها للجسد، وأتلفها للمال، وأضرها بالعقل، وأزراها للمروءة، وأسرعها في ذهاب الجلالة والوقار، الغرام بالنساء.
والغريب بحسب الغذامي أن يؤكد العظم ما قاله ابن المقفع بالقول:
ولا شك أن ابن المقفع على حق ويطرح الغذامي هنا هذا السؤال: ما الذي يجعل ثقافة - أية ثقافة - تفرز خطابا مثاليا صافيا ومجردا، عن علاقة جنوسية راقية، ثم تتولى هذه الثقافة السخرية من هذا الخطاب ونفيه؟
واستمرارا في قراءة الشواهد يستشهد الغذامي ببعض ما قالته غادة السمان مما له دلالة نسقية خطيرة، تقول السمان: حبيبي «السان فالنتان»: أجهل تكنولوجيا الحب، ولكن ثمة كلمات تلاشت عن أوراقنا مع الألفية المنصرمة وبقيت كلمة الحب، صحيح أنها للسخرة تارة، وتبدو اسما حركيا للكذب تارة أخرى، ولكن راية تلك الكذبة الصاعقة مازالت مرفوعة فوق الأعصاب المتوترة الهاذية، ولاتزال ورقتي البيضاء تكتب لي: يا حمقاء، إذا ترددت في كتابة رسالة حب عليها. يا حبيبي السان فالنتان: تعامل رعاياك كديكتاتور من العالم الثالث لكننا نحبك ونغازلك حتى لو هدروا دم الورقة التي نكتب عليها لك، ففي زمن الكراهية ثمة من يركض إلى الملجأ حين يسمع كلمة حب، ويدق طبول الحرب، ويقرع صفارات الإنذار ويطلق النار على حرفين الحاء والباء، أو يحاول الزج بحرف الراء بينهما. يا عزيزي السان فالنتان: كنت دائما منحازة إليك، فأنا أعشق الحب وأتحاشى الحبيب، لذا أريد أن تظل تنتظرني لأنني لن أحضر، وتحب ثرائي لأنني فقيرة، وسطوتي لأنني مشردة وهامشية، وتصدقني لأنني الكذب الذي لا يرقى إليه الشك. وأريد أن أظل أحبك لأنك تسقيني عطشي فأرتوي، وتأمرني بالكف عن الثرثرة حين أصمت، وأجد في زلزالك استقراري وأنتمي إلى زئبقك الهارب خارج الأوعية، وليظل الفراق هو اللقاء اليومي لنا، ودمت لغير المخلصة.
ويعلق: غادة السمان هنا تحب الحب، وتتحاشى الحبيب، وهي كاذبة في خطاب حب كاذب. وينتقل المحاضر بعد ذلك إلى الحديث عن أحد اختراعات الثقافة وهو مفهوم العاذل، وعنه يقول: انه اختراع ثقافي لتشويه ثقافة الحب. ويأتي العاذل عبر صورتين الأولى من خلال صوت الشاعر نفسه الذي لا اسم له ولا صفة، وهو لازمة ثقافية لا تنقطع، أما الصورة الأخرى فهي الأكثر تخفيا، وهي صورة العاذل الناسخ ثقافيا ويستشهد هنا لتأكيد ما يذهب إليه بقصة مجنون ليلى نقلا عن أغاني الأصفهاني، تقول إحدى هذه القص: قلت لرجل من بني عامر أتعرف المجنون وتروي من شعره شيئا؟ قال أَوَقَدْ فرغنا من شعر العقلاء حتى نروي أشعار المجانين، إنهم لكثير، فقلت ليس هؤلاء أعني، إنما أعني مجنون بني عامر الشاعر الذي قتله العشق، فقال: هيهات بنو عامر أغلظ أكبادا من ذلك، إنما يكون هذا في هذه اليمانية الضعاف قلوبها، السخيفة عقولها، الصلعة رؤوسها، وأما نزار فلا.
وفي رواية أخرى ينقلها الأصمعي عن الأصفهاني نفسه يقول فيها الراوي: سألت بني عامر بطنا بطنا عن مجنون بني عامر، فما وجدت احدا يعرفه.
والسؤال لماذا يتم تشويه أجمل خطاب أنتجته الثقافة من قبل الجميع وعلى امتداد العصور، ما معنى هذا؟
العدد 153 - الأربعاء 05 فبراير 2003م الموافق 03 ذي الحجة 1423هـ