ما حدث في البلاد القديم مصيبة هزت المنطقة، ليس لطريقة وفاة الضحية فحسب، وإنما لما لف القضية من غموض أيضا، فتح الباب للتأويلات والاستنتاجات، مما زاد المسألة غموضا. «الوسط» التقت أقرب المقربين للضحية والمتهم، وخرجت بهذا التقرير الحزين.
التقينا بزوج أخت المتهم، علي القطان، وهو شاهد رئيسي في الحادثة، وكاد يخسر حياته في الوقت نفسه الذي تدخل لإنقاذ الضحية، لولا أن الله سلم، إذ انحرفت الضربة عنه وارتطمت بالجدار فانكسرت، فتمكن علي من الإمساك بالمتهم...ولكن بعد فوات الأوان.
يسرد علي القطان القصة الأليمة من البداية: تعود القضية إلى عامين، كان ابراهيم في عمله حين توفي والده شهر 3/2001، ولما بلغه الخبر أغمي عليه وانهار عصبيا. كان في أيام الفاتحة كاتما في قلبه، وفي اليوم الثالث سقط مغميا عليه في المقبرة. ومر عليه شهر كامل من المعاناة، وترك الأكل وخسر من وزنه 25 كيلوغراما، وتغير جسمه. كان يجلس وحده وبدأ الهلوسة لمدة شهر، أخذ للعلاج في المستشفى ولكنه لم يمكث فيه، فقط تناول أقراصا. واستمر حتى شهر 7 إذ تدهورت حاله جدا، يسهر لوحده ليلا، ويجلس في غرفة مظلمة، وكان يجلس أحيانا فوق سطح المنزل ويشاهد النجوم. وكان يذهب إلى المقبرة ويتعفر على تراب قبر ابيه. احيانا يعيده أخوانه من هناك في النهار، ولكنه كان يذهب أحيانا في الليل وينام في المقبرة ليعود في الصباح، وكان عاطلا عن العمل. في إحدى الليالي الساعة 2,30 فجرا خرج من المنزل ليكسر سيارة أحد الجيران، ولما سألناه فيما بعد لم يكن يتذكر انه كسرها أصلا. بعد هذه الفترة دخل المستشفى ورقد مدة أسبوع، ولا أدري ما هي الحالة، ربما اكتئاب شديد. ولكنه عندما خرج كان شخصا آخر تماما. يتكلم كأي شخص طبيعي. كلمته عن الزواج، فقال: كيف اتقدم وأنا لا أملك شيئا؟ وكان يمتلك خبرة في الميكانيكا، ونوى الحصول على رخصة سياقة ثقيلة، وعمل عند إحدى شركات النقليات، وبعد شهرين أو ثلاثة تعرض إلى حادث سقوط وأصيبت يده، وبقي حوالي 9 أشهر، من دون عمل كان خلالها طبيعيا. وأقنعته بالزواج فوافق على أن نبحث له عن فتاة. وعانى خلال هذه الفترة حين تقدم لثلاث فتيات، وكان الرفض لما سمعوه من البعض بإصابته بالصرع أو الجنون، والرابعة وافقت بعد أن سمعت ان هذه الحالة انقطعت عنه منذ شهور. خطب لمدة 9 شهور من دون مشكلات. كانت العلاقة بينهما وثيقة.
المأساة ابتدأت خيوطها يوم العيد (الأربعاء). عاد إلى المنزل بعد صلاة العيد وكان مضطربا، فأحسست بأن به شيئا. لا يتكلم، ساكت دائما. أول حركة غريبة قام بها انه توجه إلى سيارة أخيه الأكبر وكسر مصابيحها وجرح يده وأدماها. ومر على بعض الشباب وسلم عليهم، ثم عاد إليهم وصفع أحدهم وهمَّ بضرب البقية ولكنهم هربوا فلاحقهم. وحمل لوحا مربعا من الخشب فخافوا منه وفروا، كانوا ستة، فظفر بشخص آخر كان غافلا يسير في طريقه فرماه أرضا وأخذ بضربه، هنا لحق به إخوته لينقذوه منه، فحاول أن يعتدي على أخيه وبصق في وجهه. وهي حال غريبة جدا. حاولوا تهدئته وقرأوا عليه بعض الآيات القرآنية والأدعية وهو يبكي ويقول كلمات مثل: أنا نجس، أنا ظالم، المسلمون كفار. وكان يكرر كلمة: تعبت، تعبت. ثم هدأ حتى الليل. وعاودته الحال وحاولنا تهدئته لأخذه إلى المستشفى إلا أنه رفض قائلا: «ليس بي شيء».
في يوم الخميس لم ينم، ظل جالسا في مكانه، ذهبت إليه في منزله ، وكان معي طفلي، فأخرجه من المكان وأخذ يتكلم معي، سألته: ما بك يا إبراهيم؟ فقال: «أنا تعبت، ما أريد ذرية، أريد أن أموت، سأذهب إلى النار، أنا ظالم، أنا نجس، في كل مكان يحاربوني، لا يحترموني».
حاولت تهدئته وقرأت عليه بعض الآيات القرآنية والأدعية، وقلت له: ان الدنيا غير دائمة لأحد خفف عن نفسك، فيقول: «ليس بيدي»، قلت له: اذهب إلى خطيبتك، فهي على ذمتك، وأنت مسئول عنها، اخرج معها على البحر، لا تجلس هنا فالحجرة مظلمة. بعد اللتيا والتي وبعد مجيء أخيه وطلبه منه الذهاب إلى خطيبته، توجه إلى المسجد وصلى الظهر، ثم اتصل بخطيبته وأحضرها من منطقتها. وجاء معها إلى منزلي وتناولا غداءهما. كنت أحس انه هادئ ولكنه غير طبيعي، أخذ طفلي إلى البراد واشترى لهما وكان مسرورا. وحركة غريبة صدرت منه: كان يغسل يديه قبل الأكل لمدة خمس دقائق، ثم أخذ يجففهما بالمحارم الورقية لمدة دقيقتين. ثم عاد إلى منزله وكان ساكتا، وحاولت معها إقناعه بالذهاب إلى المستشفى.
نام مساء الخميس ليجلس غاضبا الساعة 6,30 مساء، وقف على الشارع وقال: لا أريد أحدا أن يمر على هذا الشارع. الغريب أن أحد الجيران سلم عليه فلم يرد عليه السلام بل قال له: لا تسلم عليّ، نسيت صفعة الأمس؟ فقال مستغربا: أنا لم أرك منذ ثلاثة أيام، فكيف صفعتني؟
ومر شخص آخر وسلم فسمع الكلام نفسه، ولكنه لم يرد. عدت مع أخيه من المسجد وحاولنا تهدئته، كان للعائلة زواج تلك الليلة، وكانت خطيبته معه، وكان يقول لها: «هل تشاهدين ما اشاهد على الجدران؟» فقالت لا، فرد: «كل هذا لا ترينه؟»، ثم نزع فانيلته وأخذ يمسح الجدران، بعدها قال: «الآن راحوا». خطيبته خافت من هذه الحركة. المشكلة بدأت الساعة 6,00 صباحا، توجه إلى زريبة قريبة، ورآه أحد الجيران وهو عائد من عمله (آخر الليل)، ولاحظ اتساخ ملابسه فقال له: هل ضربك أحد؟ فقال: لا. فقال: ملابسك كلها متسخة. فرد: «سامحني، أنا يمكن آذيتك أو ظلمتك في حياتك»، فاستغرب من كلامه لانه لا توجد علاقة بينهما تستدعي هذا الكلام وقال له: (أكيد فيك شيء، ما بك؟)، فرد: هناك شخص يخاطبني يقول لي: قم، لا ترقد، لا تصلي، لا يأتي لي منتصف الليل، أنا متأذ منه، وكانت هذه خلاصة كلامه في الصباح.
الساعة 10,15 صباحا، رجع إلى المنزل طبيعيا، بدّل ملابسه واغتسل، طلب من خطيبته إحضار الفطور، قال لها: «رأسي يدور، احضري لي شيئا أشربه» وخلال ثوان كسر محتويات حجرته، من إطارات صور وساعات حائط... وكان يرفس الجدار والباب وهو يصرخ، فجاءت خطيبته وهي في قمة الاستغراب تبكي، ففاجأها بنزع دبلة الخطوبة ورميها قائلا: إذهبي. فاتصلتْ بزوجتي واخوته فاتصلوا بي بدورهم. كنت في منطقة القفول، فقطعت المسافة في خمس إلى سبع دقائق، وكان أخوه قد وصل قبلي وأقنعه بركوب السيارة للذهاب إلى المستشفى وفي لحظة وصولي نزل من سيارة أخيه، ولما سأله: إلى أين؟ قال: سأذهب إليك عند الدوار. وأخذ يركض أمامي وأنا اتابعه، واختفى لفترة وجيزة مني، ودخل منزل الفقيد الذي كان قيد الإنشاء، بعدها سمعت الصرخة فدخلت البيت وحاولت أن امنعه ، ودخل معي جار آخر، لكن الفقيد تلقى أكثر من طعنة، حاولت منعه، فرفع السكين في وجهي، وقال: «ابتعد وإلا ستصيبك السكين»، ووقعت السكين على الجدار وانكسرت، حاولت السيطرة عليه قدر الإمكان. كان يقول: كل الناس مجرمون، كفار، وهو في حال جنون وهستيريا. ويكرر: سأقتل كل المسلمين. في هذه اللحظة دخل أكثر من شخص، فحاول الاعتداء عليهم، وبصق في وجه من حاول سحب الضحية إلى الخارج. وأخرجته إلى منزله، وهناك حاول الاعتداء على أخواته. حاولنا إقناعه بغسل ملابسه ويديه، ووصلت الشرطة مع الإسعاف في تلك الفترة، بعد حوالي ربع ساعة من وقوع الحادث. وكان رجال الشرطة خائفين من الدخول عليه وسمعنا رئيسهم يخابر المركز بإرسال أقوى وأضخم وأكبر عدد من الشرطة. بعد عدة محاولات أقنعناه بالذهاب إلى المستشفى، فتفاجأ بوجود الشرطة وتساءل: لمن جاء هؤلاء؟ وبصق في وجوههم على رغم محاولاتنا منعه، وأقنعناه بركوب السيارة ورافقتنا الدورية، ولم تسمح الشرطة بالعلاج، بل أخذ إلى التحقيق أولا، وللتوقيف في القلعة ولم يتمكنوا من السيطرة عليه. وأخذ بعدها إلى النيابة وحاولوا التحقيق معه من دون أن يفتح فمه بكلمة. وهو حتى يوم 18/2 في المستشفى تحت المراقبة والعلاج.
التقت «الوسط» أيضا عائلة المجني عليه لتكتمل أبعاد الصورة. زرنا العائلة التي لاتزال تحت تأثير الصدمة، وتحدثنا مع الأخ الأكبر للضحية، عباس جعفر مدن، الذي ابتدأ بالمطالبة بأن يأخذ القانون مجراه. سألناه: هل توجد أية عداوة شخصية بين الطرفين، فقال: لا توجد أية عداوة شخصية، يوم الجمعة الماضي جاء يسأل عن مجيد، ولم يكن يبدو عليه الهياج، ويمشي بصورة طبيعية، وكان مجيد «يسولف» مع أحد الجيران، ثم دخل المبنى...
هنا تدخل ابنه فاضل ليضيف: لم تكن عنده عداوة شخصية، وكان ابراهيم يأتي إلينا و«يسولف»، وكانت علاقته به أساسا، وأنا كثيرا ما أكون مع عمي ويتكلم معنا وتدور بينهما «سوالف» ودية. لم يكن بينهم شيء، وأنا متأكد من ذلك..
واصل الأخ الأكبر: لكن الغريب أنه جاء يسأل عنه، وذلك ما يثير استغرابنا. لكن اذا قضي القضاء عمي البصر، ولا نقول غير انه لن يصيبنا إلا ما كتب لنا. ونحن نطلب من الدولة أن تطبق القانون، ويتم التحفظ عليه فيما لو ثبت أنه مصاب بمرض نفسي كيلا يخرج وتحدث مشكلة أخرى أعظم، فهو قد هدد أشخاصا آخرين ، ولو لم تكسر السكين لكان من المحتمل أن يقتل آخرين. ولي عتاب على عائلته، فقد كان المفروض أن يبلغوا عنه منذ يوم العيد، فقد ضرب بعض الأشخاص، كان من المفروض أن يخبروا الشرطة عنه.
ومع ذلك فإن الشرطة لم يكونوا على قدر المسئولية، فالناس هم الذين تدخلوا. نحن نقدّر أهله، لكن كان عليهم على الأقل أن يخبروا عنه، ونحن نطالب وزارة الصحة بالاهتمام بالموضوع فهناك آخرون يعانون من حالات مماثلة ويتحركون بطلاقة في المنطقة، وعلى الوزارة أن تكف أذاهم عن المجتمع. فهم خطر علينا وعلى الجميع. المفروض عمل مكان خاص بهم، وإذا لم يكن هناك إمكان لعلاجهم، فعلى الأقل يتم توفير مكان خاص بهم لإيوائهم.
عندما ودعت العائلة وتوجهت إلى سيارتي، لحق بي الأخ الأوسط للضحية، وقال: أريد ان أضيف نقطة مهمة، فنحن لاحظنا أن المرضى النفسانيين يتعرضون بالأذى لأقرب الناس إليهم وليس الغرباء، والتخوف من حدوث المشكلة نفسها إذا ما أطلق. وإذا كان متعمدا فجزاء من يقتل القتل بحسب حكم القرآن، وأما إذا كان مريضا فعلا فلابد أن يحتجز لئلا تقع كوارث أخرى.
التقينا أيضا بالطبيب النفسي الذي سبق له معالجة المتهم، الذي رفض الحديث عنه كشخص، مفضلا الحديث عن العموميات. ما كان يهمنا هو إلقاء الضوء على هذه الحال لاستجلاء الحقيقة، ولكنه قال: مازال الوقت مبكرا لتقييم الحال أو إصدار حكم، فالحال انتهت إلى عملية قتل، وهو ما يستدعي تقديم تقرير مفصل عن الحال واستخدام جميع الوسائل الكفيلة بمعرفة ما يمر به المتهم من حال نفسية، وهو الآن خاضع للرعاية في مستشفى الطب النفسي، ولكن يبقى للقضاء الحكم الأخير.
يقول المتخصص في الطب النفسي العدلي فاضل النشيط ان الأمراض النفسية بعضها بسيط، وبعضها تصاحبه أعراض حادة، ووصْف المصابين بالجنون غير مقبول في مجتمعنا، فالمصطلح السائد في العالم هو المرض النفسي، وهو المجال الذي لايزال حقلا للنظريات والاجتهادات، ويسوده الغموض. والمرض النفسي يتأثر بالبيئة والجينات والوراثة والثقافة والحال الاجتماعية والاقتصادية والـ ...
وعند سؤاله: متى تنتهي الحال إلى كارثة؟ قال: من المهم الإشارة إلى ان الأمراض النفسية شائعة كثيرا، ومفهومها يتراوح ما بين القلق البسيط إلى الانفصام الشديد، ولكن لابد أن نعرف أن أكثر المصابين يعيشون حياتهم بصورة طبيعية جدا، وهذه قاعدة عامة معروفة.
- لكن متى يشكل المصاب خطرا؟
أجاب: وعي المجتمع بالأمراض النفسية مهم ، بحيث لا يخلط البسيط وغير البسيط، وما يمكن تحمله وما لا يمكن تحمله. ثانيا: إدراك ضرورة أخذ المصاب الذي يحتاج إلى علاج إلى المستشفى، عند ملاحظة تدهور حاله أو اعتدائه على الآخرين. ثالثا: المستشفى هو الذي يحدد أساسا درجة الخطورة، ولكن هذا لا يمنع من دور الشرطة في تحديد ذلك أيضا، كأن يصدر عنه تهديد أو تصرف عدواني، أو وجود هلوسات سمعية أو بصرية. لكن تبقى القاعدة النفسية هي انه لا يمكن التنبؤ بالعنف إلا بحدوث العنف نفسه.
وهناك أمور مساعدة أخرى، فالعنف يحدث لدى الشباب والذكور أكثر من الشيوخ أو الإناث. كما أن التاريخ المرضي النفسي يعطي إشارة أيضا، فإذا ارتكب الشخص عملا عنيفا أو خطيرا فبالإمكان أن يكرره مرة أخرى.
وكشف الطبيب النفسي مسألة مهمة، وهو انه حدثت في الماضي حوادث قتل مرتبطة بالأمراض النفسية، وبعضها لم ينشر، وبعضها انحصر في الداخلية من دون أن نسمع به، والآن اختلف الوضع بسبب الشفافية.
وفي كلمة أخيرة يقول النشيط: نحن نتفهم حدوث قلق، وفقدان شخص عزيز على النفس، ولكن يجب التأني وعدم التعجل في الحكم على الآخرين، فكثير من المصابين يعيشون بصورة طبيعية، وهم يعانون معاناة كبيرة، وحتى حوادث القتل ليست كثيرة عندنا، فمعدلاتها في الدول الغربية أعلى بكثير، وهي ظاهرة عالمية، والهدف حصرها بحيث لا ينتشر الخطر
العدد 167 - الأربعاء 19 فبراير 2003م الموافق 17 ذي الحجة 1423هـ