العدد 197 - الجمعة 21 مارس 2003م الموافق 17 محرم 1424هـ

قرن كامل من أول رحلة طيران إلى آخر كارثة مكوك فضائي

الطائرة «Flyer» (الطائر) التي بناها الشقيقان رايت قطعت مسافة 120 قدما في أشهر رحلاتها. والمكوك الفضائي Colombia كان طولها 122 قدما. ومع ذلك تضع هاتان الآلتان الطائرتان قرنا غير اعتيادي من الطيران في إطار متكامل تماما تقريبا.

في 17 نوفمبر/ كانون الثاني 1903 فتحت الرحلة الأولى التي قامت بها «فلاير» أبواب عصر الطيران. لقد كان ذلك بالفعل، حلما يتحقق، وانطلق الجنس البشري نحو السماء بكل حماس وحمية جنس كان مكبلا بالأرض بالسلاسل منذ الأزل.

وفي 16 نوفمبر/ كان الثاني 2003 بدأت الرحلة النهائية لكولومبيا من دون ضجيج، وأمضى خمسة رجال وامرأتان 16 يوما في مدار الكرة الأرضية. وكانت هذه بالنسبة إلى الكثيرين في الأسفل رحلة أخرى من رحلات المكوك، ولعل أحدا لم يكن سينتبه لها لولا نهايتها الكارثية. وربما كان حتميا في قرن كامل من الطيران تبرد روحية المغامرة والرومانسية. ولكن إذا تضاءلت أحلام الطيران منذ خسر الإنسان فإن أحد أعظم متع قرن لم يخلو أيضا من عذابات عظيمة.

وهذا ليس بالنسبة إلى الفضاء فحسب. فالرحلات الجوية التي كانت ذات وقت من الروائع التي تدغدغ الحواس قد فقدت اغراءها عند الكثيرين من محبي الأسفار قبل عصر تفتيش الأجسام والأحذية في المطارات في أعقاب حوادث 11 سبتمبر/ أيلول. إن البعض لا يزالون يصرون على الجلوس قرب النافذة، ولكن كثيرين أيضا يسعون إلى الجلوس في مقاعد الممر لكي يتمكنوا من القفز بسرعة عند الهبوط إذا حدثت مشكلات.

وهذا سيئ جدا بحسب المؤرخ جيمس هاريسون مؤلف كتاب «Mastering The Sky» الذي يتناول تاريخ الطيران منذ الأزمنة القديمة حتى أيامنا هذه، والذي يقول ان لا شيء في التاريخ تغير بمقدار ما تغير الطيران خلال المئة سنة الماضية. فالطيران «تحول من حلم إلى حقيقة وأصبح شيئا عاديا عند الناس.

لم يكن إيفان الرهيب صاحب أناة وصبر، وأقل منهما سعة خيال. ولم تنطبق عليه صفة القاضي الرحيم والحاكم الرؤوف. ولذلك يرجح أن المتهم الذي وقف أمامه كان يعرف مصيره.

والتهمة: محاولة الطيران مستعملا جناحين من الخشب والورق. والحكم: الإعدام.

وقال القيصر الذي حكم روسيا في القرن السادس عشر ايفان «إن محاولة مغادرة حدود الكرة الأرضية هو عمل فاضح وغير طبيعي».

ولعل الطيار المسكين السائر إلى الموت كان يعرف ذلك أصلا. فطيلة ألوف السنين والإنسان يحلم بالطيران وقد حاول الطيران وأخفق - وفشل حتى في الأساطير عندما هوى ايكاروس ولقي حتفه لأن جناحيه كانا مصنوعين من الشمع ولأنه اقترب كثيرا من الشمس.

ومع ذلك استمر كثيرون من مختلف أنحاء العالم في محاولة الطيران، أحيانا كانت المضاعفات وخيمة. وآخرون اكتفوا بوضع نظريات عن الطيران. فليوناردو دافينشي ملأ 160 صفحة بالرسوم والملاحظات لآلات يحتمل أن تكون قادرة على التحليق ومستخدمة السواعد البشرية لرفرفة الأجنحة.

وحدثت القفزة الفعلية الأولى إلى الأجواء في فرنسا. في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1783 صعد رجلان هما المركيز دار لاند وجان - فرنسوا بيلاتر دي روزيه، أستاذ الفيزياء البالغ من العمر 26 سنة - إلى منطاد هواء ساخن في غابة بولونيا قرب باريس وارتفعا ثلاثة آلاف قدم (كيلومتر تقريبا) وهبطا على بعد خمسة أميال.

وراقبت باريس كلها أول طيران بشري حر في التاريخ. وقال بنجامين فرانكلين والذي كان دبلوماسيا في باريس من المستعمرات المتمردة - ولاحقا أصبح رئيسا لأميركا: «في الوقت الحاضر لا نفكر بشيء غير الطيران. المناطيد تستأثر بكل اهتمامنا».

إلا أن مخاطر الطيران لم تكن غائبة عن البال. فقد لقي دي روزيه حتفه في العام 1785 عندما حاول اجتياز القنال الانجليزي (المانش) بمنطاد هيدروجيني. وقد انفجر المنطاد على ارتفاع ميل في الجو.

وتنامى جنون الطيران طيلة القرن التاسع عشر. وقد أصر المغامر الفرنسي فليكس تورناشون الملقب «نادرا» على أن عربات أثقل من الهواء تعمل بالمراوح ستحكم السماء. وقد كتب في العام 1863 ما يلي: إذا كنت لا تقدر أن تصدق فلا تطر - بل تابع سيرك على القدمين، أيها الغبي».

وحقق تلك النبؤة الشقيقان رايت اللذان كان يحترفان صنع الدراجات الهوائية في اوهايو. وفي حقل قاحل في كيل ديفل هيلز طار الإنسان - لمدة 12 ثانية فيما كانت الريح تهب بسرعة 27 ميلا في الساعة. وفي نهاية ذلك اليوم قاد ويلبور رايت أول طائرة مسافة مذهلة هي 852 قدما أقل من (300 متر) في 59 ثانية.

ويقول (المؤرخ) هاريس إن ذلك حدث بالتتابع مع اختراع السيارة. وفي تلك الأيام كانت تعتبر زيارة طائرة ذات جناحين (أحدهما فوق الآخر)، أو عربة من دون جياد، حدثا عظيما في حياة الكثير من المدن.

وحولت الحرب العظمى (الأولى) الاختراع الجديد إلى سلاح، تحقيقا لنبؤة الفرد لورد تينسون في العام 1842 انه سيأتي وقت سنرى فيه ندى مقرفا سيهبط من الأساطيل الجوية للأمم المنطلقة في القبلة الزرقاء. وبذلك أيضا ولد بطل جريء جديد، هو بطل الطيران.

عاد هؤلاء الأبطال إلى البلاد بطائراتهم ذات القمرات المكشوفة وشالاتهم ترفرف في الريح. ومن هؤلاء ولد مغامرون أبرزهم تشارلز ليندبرغ، الذي أقلع بطائرته «لاكي ليندي» من نيويورك، وعندما هبط بها في باريس أصبح أشهر شخص في العالم.

وكان ليندبرغ كاتبا بارعا. وقد نقل ليندبرغ وطيارون من أمثاله ومعاصريه - منهم انطوان دي سان - اكزوبري وبريل ماركهام - من خلال كتبهم الناس معهم إلى الأجواء ليقاسموهم وحدتهم وأمجادهم.

وقد كتبت بريل ماركهام في مذكراتها «West With The Night»: الأجواء تنقلني إلى مملكتها. الليل يلفني تماما ويعزلني تماما عن الأرض ويتركني داخل هذا العالم الصغير المتحرك الذي هو عالمي الخاص لأعيش في الفضاء مع النجوم».

وبعد أسبوعين من رحلة ليندبرغ - أصبح تشارلز ليفين أول راكب يجتاز المحيط الأطلسي بطائرة. وقاد الطائرة كلارنس تشمبرلين.

في العام 1926 ركب ستة آلاف أميركي الطائرة. ومع حلول العالم 1931 ارتفع عدد الذين طاروا 522 ألفا. ومنذ ذلك الوقت تصاعد الرقم - 12,5 مليون شخص في العالم 1946 و58 مليونا في 1961، وأكثر من نصف مليار مسافر جوي الآن.

شركة TWA وظفت فو غيلدرسما في العام 1957، وهو طيلة عمله 33 سنة كطيار قاد كل أنواع الطائرات من طائرات لوكهيد كونستليشن - التي كانت في بداية رحلاتها عبر المحيط الأطلسي تتوقف في غاندر بينوفاونلند وشانون بإيرلندا - إلى البوينغ 747.

وقد كان الطيران آنذاك مختلفا وتجربة نقية خالصة ويقول غيلدرسما البالغ 72 عاما من العمر الآن: «ذلك القسم هو الناحية الأكثر مجدا في الطيران، آنذاك كانت النساء يعتمرن القبعات ويرتدين القفازات في رحلاتهن الجوية والرجال يعتمرون القبعات ويستعملون ربطات العنق. كان الناس يرتدون أزياء وكأنهم ذاهبون إلى الأوبرا».

ويتذكر غيلدرسما أن الطيران لم يكن «للرجل العادي» فالطعام يقدم للركاب بأطباق الصيني، والطيارون كانوا يعاملون كآلهة، والطائرات كانت شهادة براقة لسحر القرن العشرين».

في هذه الأثناء كان الأميركيون يتطلعون إلى ما وراء طبقات الجو العليا، نحو الفضاء. وقبض القمر الاصطناعي الروسي سبوتنيك على انتباه الزعماء الأميركيين وخيال الشباب.

وقد كتب هومر هيكام جونيور الذي عمل في وكالة الطيران والفضاء الأميركية (ناسا) وألف كتابا تحول إلى فيلم بعنوان «October Sky» (سماء أكتوبر): «رأيت الكرة الصغيرة اللامعة تتحرك بجلال عبر حقل النجوم الضيق على التخوم. وكنت أحملق بها بانتباه لا يقل عن الاهتمام كما لو أن الله بذاته ينطلق بعربة ذهبية في الأعالي».

وبقية القصة رويت مرارا وتكرارا: كيف ان شعبا تحداه رئيسه الشاب (جون كنيدي) صمم على إطلاق انسان إلى القمر مع نهاية الستينات، وكيف كانت تنقل أجهزة التلفزيون على عجلات إلى صفوف المدارس لكي يتفرج الأطفال على عمليات الإطلاق. ثم يشاهدون محبوسي الأنفاس سفنا في البحر وهي تنشل الكبسولات ورواد الفضاء وكيف أصبح هؤلاء الرواد أبطال العصر.

وعشية عيد الميلاد سنة 1968 كان رائد الفضاء فرانك بورمان مع زملائه في المركبة أبوللو يدورون حول القمر، عندما سمعه عالم مضطرب يقرأ من سفر التكوين.

ولكن كل ذلك حدث منذ وقت طويل. إن كل واحدة من 70 أسوأ كارثة جوية - حدثت بعد العام 1968. إن الطائرات هي الآن أكبر حجما وقائمة الضحايا أطول. ومع أنهم يذكروننا على الدوام أننا أكثر أمانا في الجو من سياراتنا فإن العناوين تأتينا مقلقة ومرهقة للعصاب.

لقد أصبحت تجربة الطيران أقل رفاهية بالتأكيد. وكل طائرة صارت تحشو عددا أكبر من الركاب في مقاعدها الضيقة. والطيار اليوم ليس المغامر الجريء الذي عرفناه بالأمس. والطائرات التي كانت تحتاج إلى طاقم مؤلف من ثلاثة طيارين أصبحت تطير بالكمبيوتر وتحتاج إلى طيارين فقط. والركاب أصبحوا أقل توترا».

يقول غيلدرسما: «السفر بالطائرة أصبح شائعا. إن مجتمعنا هو أكثر تقدما».

وتنعكس هذه التغييرات في السماء. ففي العام 2001 دفع رجل الأعمال الأميركي دنيس تيتو 20 مليون دولار لروسيا ليركب المركبة الفضائية «سويوز» إلى المحطة الفضائية الدولية، وهو يقول إن الأميركيين فقدوا اهتمامهم ببرنامج الفضاء لأنه أصبح مرتكزا على العلم، والروبوتات تستطيع القيام بالكثير من المهمات العلمية.

ويقول تيتو: «أعلنوا عن برنامج لإرسال مستكشفين إلى المريخ وسترون أن المخيلات قد اشتعلت. إن الإنسان يهوى استكشاف المجهول، وأن يهاجر».

ولا يزال خيال تيتو متأثرا بالفضاء، وهو ليس وحيدا في ذلك. فابنه البالغ من العمر 28 سنة يريد أن يذهب إلى الفضاء أيضا، ولكن تيتو قال له انه عليه أن يعمل ويكسب المال اللازم بنفسه «لإنني لا أريد أن أدفع أجور الرحلة بنفسي».

وهناك آخرون لايزالون يصرون على الجلوس قرب النافذة عندما يسافرون بالطائرة، ويتفرجون على القمر والكواكب السيارة بدهشة لذيذة. وخلال العشرين سنة الماضية زار 400 ألف شخص، معظمهم من الأطفال مخيم الفضاء الأميركي.

ثم هناك أناس من أمثال بيل دورسي، وهو مدير شركة لدفن الموتى في وست فيرجينيا الذي دفع مبلغ 1,8585,900 دولار في العام 2001 للطيران حول العالم خلال 61 ساعة من دون مغادرة أي مطار. لقد فعل ذلك من أجل الاستمتاع بالإقلاع والهبوط ولكي يتفرج على جمال الكرة الأرضية.

وهل يريد دورسي أن يركب المكوك الفضائي على رغم كارثة المكوك كولومبيا؟

- «على الفور»، كما يقول

العدد 197 - الجمعة 21 مارس 2003م الموافق 17 محرم 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً