العدد 220 - الأحد 13 أبريل 2003م الموافق 10 صفر 1424هـ

بورتريه السعداوي ... سرد ساكن وأسئلة كثيرة

العدلية - حسام أبواصبع 

تحديث: 12 مايو 2017

حظيت في سنوات سابقة بلذة هائلة كلما هممت بحضور البروفات التي يقيمها الفنان عبدالله السعداوي لممثليه، وكنت أجد في هذه البروفات والتدريبات والورش محاولات مستميتة لاستنطاق الممثلين، وذلك بطرح أسئلة كثيرة عليهم تدعو إلى التفكر والتأمل، كما تشحذ - في الوقت نفسه - المخيلة للانطلاق، والهيام إلى مساحات وفضاءات كبيرة لا يحدها سقف... ورأيت بعيني، كيف يساعد السعداوي ممثليه على بلورة الأسئلة وجعلها في قالب فني يتجاوز اللحظة، أو يدعوهم إلى إيجاد الحلول والإجابات... كما كان يتفنن ويبدع في ترك الممثل مع خياله ليقرأ ويحلل. لقد كانت دروسا عظيمة أفاد منها عدد كبير من الممثلين في بلورة فهمهم للمسرح بوصفه طريقة حياة... ولا أعلم حقيقة من هي الشخصية الأخرى التي لم تضع سوى المسرح نصب عينيها هدفا، بحيث تجعل الحياة ككل منحصرة في مكان البروفة، وفي فضاء العرض. إن ما قدمه السعداوي خلال سنوات عمله من جهد صادق مخلص، كان سببا رئيسيا في أن يتبوأ به مكانا عاليا في قلوب المشتغلين معه، أو المستمتعين بعروضه.

ولهذا السبب فإن هذا الدَّين الكبير، والعرفان الذي يصرح به البعض، وينكره البعض الآخر على رغم علمه بأفضال الرجل عليه، إذ فتح لهم الأبواب، وفتق عقولهم، وحسَّن من كيفية اقتناصهم للحظة المسرحية فنيا وجماليا، وقت العرض أو التدريب وفي تضاريس الحياة عموما... يظل موضع تساؤل، يصاحبه ويلتف حوله ويسربله أنين غير خافت، يطفر من القلب إلى اللسان مباشرة، أو يحبر - وهذا قليل - كلما خان أفق التوقع، كل هذه الخلفية بعظمتها، لحظة الاصطدام بعرض مسرحي لم يكن واردا على الخاطر، وخصوصا أن التجربة ظلت منذ العام 1986 تتصاعد، تتنوع، تتشظى... وكذلك أسئلتها التي تشابكت وتنوّعت واختلفت بعد أن أخذت مداها الزمني في الاشتغال والعمل الدؤوب إلى الحد الذي جعلني في غير مناسبة أشفق على الممثلين لما يعانونه من قسوة، وتعب مع أبويته التي لا يوجد لها مثيل. ولكن بشيء من الأسف ـ على رغم الاتفاق المسبق على مدى صعوبة وفداحة الوضع، وانتفاء أبسط الامكانات، وانفلاش مجموعة الممثلين الذين عملوا مع السعداوي، واستمروا فترة ثم انزووا تاركين المسرح وأسئلته «محلك سر»، ومع الاتفاق التام بصعوبة إعادة التأسيس لأي شيء في ظل المتطلبات التي تكاد لا تنتهي في هذا الزمن المعقد ـ فإن أي عرض للسعداوي تتقلص فيه الأسئلة التي ينثرها المتلقي/ المشاهد، أو تتحجم فسحة وفترة عمل المخيلة، أو تتقزم الدروب التي تعطي التبرير أو السبب الممكن لأي عرض، أو جملة عابرة فيه، أو حتى تكوين معين، أو إيماءة متسارعة... يخلق ولا شك الكثير من الريبة، والحزن، لأننا في حضرة السعداوي. لذلك لا زلت أعاني من صدمة أزعم أنها غير مقبولة من عرض السعداوي الأخير «بورتريه»، والذي راهن فيه على أن الهاجس المحرك للتجربة كان ينطلق من خلال تقطيع قصة قصيرة بشكل ضوئي، وبطريقة شبيهة باللقطة القريبة، حيث تبرز تعابير الوجه، ويختفي ما دون ذلك... كان الرهان هذه المرة على نص قصصي - كما كان عليه الحال قبل أسبوعين مع عرض ابني المتعصب - يتمحور عن شخصية الفنان الكاريبي رسام الكارتون / دونالد / خالد الرويعي الذي يجد نفسه في نفس عربة القطار وجها لوجه مع أحد عرابي التمييز العنصري، الجلاد الشهير أيان سميث / باسل حسين، وفي فضاء اتشح بالسواد الكامل، وسط ديكور متقشف إلا من طاقة / نافذة سوداء هي الأخرى - وهو أمر مبرر - يبدأ الرسام بحكي أو بسرد منولوجه، بسيمترية تكاد لا تنقطع طوال العرض، وبإيقاع لم يشهد الكثير من التذبذب أو التصاعد والهبوط، والذي يعرفنا فيه على نفسه، وعلى عمله، وعلى رؤيته للحياة، واحترافيته في عمله... إن الفكرة أو التساؤل الذي ظل يلازمني طوال العرض وبعده حول هذا الخط المستقيم في النطق والحكي، والاقتصاد الرهيب في اللعب على الكثير من الأدوات الممكنة، وأولها، أن يتم الاستغناء عن شخصية سميث، فحضورها أسهم في نثر الأسئلة الكبار، حول محدودية التنويع والتوزيع في طرائق السرد، خاصة وأن مجمل الإشارات والإيماءات الصادرة لم تكن مسعفة بشكل كاف للإبانة عن حالة التحول، منذ بدأ الرسام بسرد قصته، وصولا إلى النقلة التالية التي يشك فيها في الشخصية الساكنة الباردة التي تقرأ الجريدة وتدخن الغليون كونها ذلك الجلاد الشهير المرعب، وانتهاء بنهاية العرض.

إن الرهان الذي كرس له السعداوي هذا الجهد، وهذا العرض بوصفه سردا يبعث على الدفء، لم يكن مقنعا، وإن العرض ككل يخلق العديد من الإشكالات لجهة مدى تلاؤم النظري مع المرئي، ومدى استطاعة الصورة الثابتة الملفعة بالسواد، إلا من إضاءة متقطعة توحي باهتزازات القطار، حين ينطلق، ويعاود الانطلاق مرة أخرى بعد توقفه في إحدى المحطات، وإضاءة خفيفة عموما، وحوارات قليلة، ومونولوجات متواصلة، ثم في كيفية النظر للسرد، والانتقال به من حيز الورق، الذي لا يحد سقف معين ولا يستميله أفق ما، إلى مكان محدود، ومحصور في زاويتين شهد سكونا كبيرا ... إن فكرة اللعب على السرد / الحكي، وإعطاءه الأولوية والأهمية تعد تغييرا بحد ذاتها، لكن القدرة على الإمساك بهذا الحكي وتوجيهه، وتقطيعه، وجعله مستساغا مقبولا أمر لم يستطع العرض الإيفاء به، وكأن الفعل انحاز إلى الانشغال بالنص، وليس الاشتغال عليه ... وهو مالم نعهده من السعداوي أبدا.

بورتريه. تأليف غالية قباني. إخراج عبدالله السعداوي. تمثيل خالد الرويعي، باسل حسين. سينوغرافيا خالد الرويعي، حسين العريبي، باسل حسين، عبداللطيف الصحاف. متابعة إسحاق عبدالله. الإشراف العام خالد الرويعي. مكان العرض الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً