العدد 190 - الجمعة 14 مارس 2003م الموافق 10 محرم 1424هـ

أزمة في «النظام الدولي»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

هل وصلت العلاقات المتأزمة بين الدول الكبرى في مجلس الأمن إلى نقطة اللاعودة وبات صعبا على أصحاب القرار (حق النقض) التفاهم على صيغة تسوية تنقذ مؤسسة الأمم المتحدة من الإفلاس السياسي؟

علامات كثيرة يمكن التقاطها ووضعها في سياق تصعيد الأزمة. وعلى رغم وجود إشارات فرنسية (مدعومة ألمانيا) مرسلة من باريس تلمح إلى استعدادها للمساومة حتى لا تضطر إلى استخدام «الفيتو» وتكسر الإرادة الأميركية على أعلى المستويات... تبدو واشنطن غير مكترثة بالإجماع الدولي. فواشنطن وصلت في قرار الحرب إلى مرحلة بات يصعب عليها التراجع عنه... لأن التراجع يعني نهاية فترة هيمنة القطب الواحد. فأميركا الآن دخلت في حلقة تملي عليها شروط المغامرة العسكرية حتى تنقذ سمعتها السياسية وتمنع انكسار هيبتها الدولية. فالمغامرة في معركة عسكرية يتوقع لها ان تفوز بها بسهولة أفضل لها من المساومة السياسية التي تفرض شروطها عليها وتجعلها أسيرة قوانين دولية تكبل حرية التصرف والانفراد بالقرارات من دون رقابة تشرف الأمم المتحدة على وضع صيغتها.

وهنا خطورة دولة كبرى حين تكبر إلى درجة تشعر انها تساوي وحدها مجموع دول العالم. هذا الإحساس المفرط بالقوة والعظمة يجعل من الدولة (أميركا في أيامنا) تمارس سياسة هي أقرب إلى جنون المغامرة من حسابات العقل والواقع. ومن يراقب التحركات الأميركية ومجموع التصريحات التي تطلق من أكثر من جهة مسئولة وغير مسئولة ليس صعبا عليه اكتشاف الخلل البنيوي في تفكير دولة يفترض انها الأقوى ولأنها الأقوى (الأغنى) يجب أن تكون الأحكم والأعقل. إلا ان ردود الفعل تشير إلى العكس. فأميركا الآن هي أكثر الدول خطرا على العالم بشهادة أكثر من استطلاع رأي تم نشره حديثا.

فهناك ما يشبه الإجماع (وصل أحيانا إلى نسبة 82 في المئة) على أن أميركا في قيادتها الراهنة تشكل الخطر الأكبر على البشرية والعالم، بينما أشارت الاستطلاعات نفسها إلى خطر كوريا الشمالية يتراوح بين 10 و16 في المئة، والعراق لا يزيد عن 8 في المئة في أسوأ الحالات.

الخطر إذن بالنسبة لاستطلاعات الرأي العام العالمي (حتى الأميركي الذي وصل أحيانا إلى نسبة 61 في المئة) هو الآتي من تصرفات أشرار الحزب الجمهوري الحاكم في البيت الأبيض، الذي قرر منذ سبتمبر/أيلول الماضي في الذكرى السنوية الأولى لضربة 11 سبتمبر، اعتماد استراتيجية هجومية عالمية (الضربة الاستباقية) أطلق عليها «عقيدة بوش».

ماذا تقول العقيدة الأمنية الأميركية الجديدة؟ هناك الكثير من النقاط يمكن استخلاصها، إلا أن الأهم فيها يشير إلى أن المعركة الدبلوماسية القائمة حاليا في مجلس الأمن هي واحدة من تجليات تلك الاستراتيجية الخطيرة التي أُعلنت رسميا قبل ستة أشهر. تتحدث تلك «العقيدة الأمنية» عن الحرب الاستباقية ومفردة «الاستباقية» تعني الكثير منها حق الولايات المتحدة ضد أية دولة من دون مبررات ولمجرد فرضيات تقول إن تلك الدولة يمكن أن تتحول يوما إلى خطر على مصالح أميركا وأمنها. والحقت فكرة «الحرب الاستباقية» بفكرة أخطر جاءت بمعنى منع بروز قوة إقليمية منافسة للولايات المتحدة دوليا. وهذه الفكرة «مطاطة» تعني الكثير من الاحتمالات وليس بالضرورة تقصد بها العراق وإيران وكوريا الشمالية فقط (محور الشر كما قالت إدارة بوش) بل يقصد بها تلميحا أوروبا وروسيا والصين وغيرها من قوى أو تكتلات اقليمية كبرى.

إلا ان الأهم والأخطر في «عقيدة بوش الأمنية» هي تلك الإشارة إلى الأمم المتحدة. فالولايات المتحدة غير ملزمة بقرارات الأمم المتحدة ونظامها الدولي. أي ان الاستراتيجية الجديدة هي أميركية وقرارها يصدر عن الولايات المتحدة وإدارتها في واشنطن، ولا يحق لأحد في مجلس الأمن أو الأمم المتحدة الاعتراض عليها لأن الاعتراض أو التعطيل هو تدخل دولي في شئون أميركا الداخلية.

مجموع النقاط الثلاث تفسر إلى حد كبير المعنى الحقيقي للمعركة الدبلوماسية الجارية الآن في الأمم المتحدة وتحديدا مع الدول الكبرى في مجلس الأمن. فمواقف فرنسا وروسيا والصين المدعومة من ألمانيا وغيرها تؤكد ان المعركة ليست من أجل العراق ونظامه بل هي أصلا وفصلا دفاعا عن مصالح ووجود ودور الدول الكبرى الأخرى. فالمعركة هي من أجل الدفاع عن النظام الدولي وليس النظام العراقي. ونتيجة المعركة تعتبر من مؤشرات حماية النظام الدولي من الانهيار. أو نهاية النظام الدولي الذي اتفقت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية (سنة 1945) على وضعه بالتكافل والتضامن.

المعركة إذن كبيرة وخطيرة. فالعالم أمام منعطف يذكر بتلك الأيام السيئة التي أنهت «عصبة الأمم» عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية. فآنذاك كانت الدول الكبرى المعتدة بقوتها مثل ألمانيا في أوروبا واليابان في أقصى آسيا ترى في النظام الدولي مجرد إطار يعطل حرية حركتها ويحد من تطلعاتها وطموحاتها... فانسحبت منه لأنها وجدت في «عصبة الأمم» هيئة دولية أضعف من أن تعطى صلاحيات استثنائية.

الأمر الآن يتكرر مع الولايات المتحدة. أميركا الآن بلغت من القوة درجة «جنون العظمة»... وهي درجة خطيرة جدا لأنها تضع مصالحها فوق مصالح «الأمم المتحدة» وبالتالي تهدد النظام الدولي بالانهيار مجددا. فهل وصلت الولايات المتحدة إلى نقطة اللاعودة أم انها لاتزال تملك بعض الحكمة والعقل؟ هذا مجرد سؤال

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 190 - الجمعة 14 مارس 2003م الموافق 10 محرم 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً