العدد 192 - الأحد 16 مارس 2003م الموافق 12 محرم 1424هـ

اصطفاف جديد مطلوب تعزيزه

مايكل فاتيكيوتس comments [at] alwasatnews.com

الغطرسة المستبدة لإدارة الرئيس بوش المندفعة من غير وازع أو رادع، نحو حروب الهيمنة وسَوْق العالم بالعصا، بدأت تولد وتبلور حالة من الاصطفاف المضاد، غير المألوف، على الساحة الدولية. وإذا كان طغى عليه حتى الآن الطابع السياسي في اعتباره الجانب المهم الذي تسلطت عليه الأضواء فإن هناك جانبا آخر لا يقل أهمية ويتمثل في الاصطفاف «المذهبي» المسيحي الغربي الموزَّع على طرفي المعادلة - الخلاف الأوروبي الأميركي في هذا الخصوص.

فالحرب الأميركية الوشيكة على العراق أدت إلى فرز عام بين خندقين. واحد تتمترس فيه قوة منفلتة تصرّ على توظيف تفوقها العسكري من أجل تحويل العالم إلى مزرعة لها، يدفعها إلى ذلك فكر فاشي - ديني متزمت ومحقون بالكراهية للغير وبالنزوع الأعمى إلى فرض الاذعان بالاكراه على الآخرين.

وفي المقابل خندق آخر يتشكل من جبهة بشرية عابرة للقارات، يجمعها ائتلاف عفوي بدافع التصدي للانفلات الأميركي ومنعه من جرّ العالم إلى «حروب حضارات» واعادته إلى عصور القهر الامبراطوري والنزاعات الدموية، المشتقة عن بعضها بعضا، في ظل شرائع الغاب.

يجمع الثاني مروحة واسعة من الدول والقوى والمواقع، التي ربطتها مصلحة عريضة مشتركة في الوقوف ضد محاولات الابتلاع الأميركي القسري، وفي الدفاع عن قيم وأخلاقيات ومرجعيات، دفعت الانسانية غالبا إلى ترسيخها واعتمادها باعتبارها معايير وقواعد ينبغي الالتزام بها في التعامل بين الأمم والشعوب.

لكن أهم ما في هذه المروحة هو اشتمالها على قوى ومرجعيات دينية مسيحية أوروبية تقف على النقيض من الأصولية المسيحية الأميركية، التي تشكل المنبع الأيديولوجي لليمين الحاكم اليوم في واشنطن والذي يعرف باسم المسيحية المتصهينة في الولايات المتحدة.

اليوم تقف فرنسا وألمانيا ومعهما بلجيكا والرأي العام في كلّ من بريطانيا وايطاليا واسبانيا، ضد هذه الحرب وبقوة عنيدة وكاسحة. وهي تمثل معقل الكاثوليكية والبروتستانتية الليبرالية في أوروبا. وأخذ هذا البعد زخما اضافيا بانضمام البابا إلى هذه الجبهة. وهو موقف أثار الضيق والانزعاج الواضحين في واشنطن، إلى حدّ أن الرئيس بوش كان على وشك رفض استقبال مندوب البابا في البيت الأبيض، قبل أيام. وحتى بعد اللقاء لم يخف المتحدث الرسمي عدم ارتياح الرئيس الأميركي من الرسالة التي تسلمها ومن الموقف الفاتيكاني الذي أعلنه المبعوث في واشنطن عندما قال ان الحرب من دون قرار تكون «غير عادلة وغير مشروعة». وللتعبير عن الاستياء شدد المتحدث على أن القرار في النهاية «يتخذه الرئيس بوش» وليس أحد غيره!

والملفت أن هذا التكتل لا يعبّر فقط عن رفضه لمنطق الحرب ومسوغاتها الواهية، بل هو أيضا بدأ يصوّب هجومه وبازدراء إلى ما يسميه بـ «الأصولية البروتستانتية» الحاكمة في واشنطن الآن، على حدّ تعبير الوزيرة الألمانية. بل ان الفاتيكان ذهب في الأيام الأخيرة، إلى أبعد من ذلك حين بدأ يتحدث بالصوت العالي عن «خيار الشر والخير» وعن ثنائية «الخير وابليس» وخيار «الحرب والسلام». وينطوي كلامه، في ضوء موقفه المعلن من الحرب، على تقسيم وفرز اخلاقي بين الخندقين واستطرادا على ادانة مبطنة لعقلية الحرب السائدة في واشنطن وادراجها في خانة اللاأخلاقية. وما كان لهذا البابا بالذات، الذي وقف إلى جانب أميركا بقوة ووضوح خلال «الحرب الباردة» وأسهم في خلخلة الكتلة الشرقية - عبر بوابة موطنه بولندا - ان يذهب إلى هذا المدى في اعتراضه على واشنطن لو أنه لم يصل إلى قناعة بأن توجهات إدارة الرئيس بوش تحمل في ثناياها مخاطر مخيفة، ليس أقلها صبّ الزيت على نظرية «حرب الحضارات» وزج العالم في أتون صراعات دامية لا أول لها ولا آخر. صحيح أن الفاتيكان لا يملك قوة عسكرية أو وزنا اقتصاديا أو مقعدا في مجلس الأمن، لكن لصوته نفوذا وتأثيرا معنويا كبيرا على رأي عام عريض. وتحديدا في الولايات المتحدة التي يوجد فيها حوالي 55 مليون كاثوليكي. وصحيح أن مثل هذه الادانة ومن موقع روحاني أخلاقي، ليست كافية في أمور السياسة والحروب، لكن في هذه الحال بالذات لها أهمية استثنائية. فهي تصدر عن فريق من «أهل البيت». كما انها تمقت، ليس فقط هذا الاندفاع النزق إلى خيار القوة والحروب، بل أيضا الفكر «الأصولي» الذي يقف وراءه. وبالذات الأصولي المسيحي المتصهين. ومن هذه الزاوية فإن التنطح لهذا الفكر من جانب فريق مسيحي آخر، يصبّ في الحاق المزيد من التآكل والتسفيه لنظرية «صراع الحضارات، التي تتحدث عن مواجهة غربية محتومة مع الحضارتين الإسلامية والكونفوشيوسية. ذلك ان الانقسام اليوم، بشقيه السياسي والمذهبي، حاصل في جبهة الغرب، من خلال الخلاف العميق والمرشح للمزيد من الاحتدام، بين أوروبا وأميركا، عن حرب العراق. ولا شك في أن مثل هذا الافتراق الجوّاني من شأنه أن يربك، إن لم يعطل، الفكر العدواني الأميركي وصنّاع قراره. هنا يكمن المكسب الجوهري للعالم كله ومن ضمنه منطقتنا. ذلك انه ليست هناك أولوية في هذا الظرف تتقدم على ضرورة فضح وعزل وبالتالي اسقاط هذا الفكر وتوجهاته. حتى لو أقدم على الحرب من دون قرار دولي. فالزمرة اليمينية - الدينية - الصهيونية الممسكة بزمام الأمور في واشنطن لن تتوقف عند العراق. مشروعها الامبراطوري أبعد وأخطر بكثير. هم سبق وتحدثوا وكتبوا عنه. واليوم الفرصة سانحة لاحباط هذا المشروع ومحاصرته قبل أن يستفحل. وهي تتمثل في التصدع، بل ربما في الطلاق اللاحق، بين معظم أوروبا وأميركا. أي بين أقوى تحالف دولي على الاطلاق. والقراءات التي راجت، وخصوصا في منطقتنا، بشأن أن الفراق بين الاثنين لن يحصل لاعتبارات كثيرة - تاريخية وحضارية ومصلحية - قد أثبتت التطورات انها مغلوطة. كما تبين أن التسليم بوحدانية الزعامة والقطبية المعقودة اللواء لأميركا واعتبارها حتمية ينبغي التعامل معها على هذا الأساس وحتى اشعار آخر، هو تسليم متسرع في أحسن أحواله. طبعا ليس من المتوقع أن تفقد الولايات المتحدة وضعها الفريد، بين ليلة وضحاها، بسبب هذا التصدي الدولي العارم لسياساتها ومحاولات تفردها واستئثارها بالقرار. لكن يبدو أن العد العكسي في هذا الاتجاه قد بدأ ولو طالت مسيرته. على الأقل لأن الـ «لا» العنيدة ارتفعت عاليا ومن كل صوب بوجه واشنطن ولغة الغزو والاستباحة التي تخاطب بها العالم. وها هي الدولة العظمى الوحيدة غير قادرة الآن على استقطاب عدد قليل من دول العالم الثالث في مجلس الأمن للوقوف بجانبها وانقاذ ماء وجهها. وحتى لو قدرت فلن تمر من تحت سيف (الفيتو) الذي هددت به صراحة كلّ من باريس وموسكو.

وها هو سليل الامبراطورية التي لم تغب عنها الشمس مرة، غير قادر على تسويق موقفه التبعي لواشنطن، في صفوف جمهوره البريطاني، بل في صفوف حزبه.

والحال كذلك، فلماذا لا يلتحق الوضع العربي بهذه القافلة، فيرفدها قوة - أم أن فاقد الشيء لا يعطيه؟ - ويستقوي بها، وهو المعني أولا وأخيرا بشراسة الهجمة الأميركية وتداعياتها، التي تفوق قدرته على احتمالها؟

أم أن الادمان على أميركا واسترضائها لن يسمح له بذلك؟

إقرأ أيضا لـ "مايكل فاتيكيوتس"

العدد 192 - الأحد 16 مارس 2003م الموافق 12 محرم 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً