العدد 202 - الأربعاء 26 مارس 2003م الموافق 22 محرم 1424هـ

خيار برلين: تدمير المدن للدخول على أنقاضها

خلفيات تغيير الخطة والإعلان عن استهداف البصرة

مع إعلان الأميركيين اعتبار دخول البصرة هدفا عسكريا وسياسيا أساسيا للحملة العسكرية ضد العراق، يكون فصل جديد من معادلة الحرب قد بدأ، على رغم أن الأميركيين والبريطانيين تحدثوا منذ البداية عن الرغبة في عدم دخول المدن العراقية وأنهم سيستهدفون بغداد مباشرة، ثم عادوا للحديث عن دخول المدينة بلا حرب أو قتال، وهدفهم واضح للغاية هنا وهو إسقاط مدينة شيعية متصورين أن انتماءها المذهبي سيسهل الدخول إليها. ويتجاوز التوجه نحو هذه المدينة هذا التحليل إلى ما أعلن من أن البصرة هي هدف عسكري وسياسي؛ فهي هدف عسكري لأن سقوطها سيكون انتصارا معنويا للقوات الأميركية والبريطانية بعد أن بدا واضحا أن تقدمهم بات أبطأ مما كانوا يتوقعون، وأن لعبة عرض الأسرى والقتلى و(نبع) المقاومة التي ما أن تنتهي جيوبا تبدأ هجوما معاكسا، قد أثرت إلى حد كبير في معنويات الطرفين بشكل متعاكس.

الأبرز هنا هو أن الهدف عسكريا يتمثل في ضرورة إسقاط مدينة بوزن البصرة بأسرع ما يمكن قبل أن يصبح القمر مختفيا وتحل العتمة، وهنا (يجب!) أن يكون الأميركيون قد بدأوا بمحاولة دخول بغداد حسب المخطط المقرر للعمليات.

فسقوط تلك المدينة سيساعد حسب التصورات العسكرية الأميركية على منح الأميركيين عنصر دفع كبير ويسهم في تحطيم الروح المعنوية العراقية بما يفتح الطريق نحو بغداد، التي ستتحول إلى (برلين) المدمرة أو إلى ما يريده العراقيون «ستالينغراد».

الهدف عسكري لأن ترك مدينة كالبصرة خلفهم من دون دخولها سيعني ترك فرقتين الأولى مشاة والثانية على الساحل المائي، الأمر الذي قد يعزز الهجوم المعاكس للعراقيين على الخطوط الخلفية للأميركيين، في محاولات لفك الحصار الذي سيأتي عبر قوات تأتي بالتفاف على المدن من الجنوب ومن فرقة مجوقلة تنقل إلى الغرب لتكون الفالوجة إلى غربي بغداد نقطة التلاقي تمهيدا لبدء الحصار المنشود على بغداد.

الهدف السياسي الذي مر في التصريح الأميركي بمثابة «زلة لسان» على الطريقة الفرويدية، أي كدلالة على (اللاوعي) السياسي والعسكري، ويعكس الرغبة العميقة لدى الأميركيين في استحداث (إنجاز!) ما على الأرض قبل أن تبدأ الحملة السياسية والدبلوماسية الضاغطة التي ستكون في مجلس الأمن بناء على تحرك سياسي سوري باسم المجموعة العربية، فمع سقوط البصرة يكون لدى الأميركيين الفرصة، عبر تأجيلات كثيرة لعقد جلسات المجلس، للقول بأن الأمر قد قضي وخصوصا أن المجلس غير قادر على اتخاذ قرار مع الأخذ في الاعتبار وجود الفيتو الأميركي الذي سيتصدى لأي قرار ستطرحه سورية.

إلا أن احتمال الدعوة لعقد الجمعية العمومية هو الهدف الرئيس الذي يحاول الأميركيون وضعه أمام حقيقة منتهية بأن المدن تتساقط، وبالتالي فإن إدانة الحرب التي ستصدر بالتأكيد من الجمعية العمومية، ستجد نفسها أمام وقائع على الأرض لا تستطيع ازاءها إلا الكلام.

التكتيكات العسكرية الأميركية تتغير بشكل متواصل، بسبب المفاجأة التي واجهتهم بالمقاومة العنيدة للعراقيين في أماكن مختلفة، ليست بحجم ما سيشهدونه في المدن العراقية الكبرى، لكن حقيقة كون الاستراتيجية العسكرية للعقيدة العسكرية الأميركية تقوم - بالأصل - على تجنب الخسائر في الأرواح وعلى «الحسم الشديد والسريع»، ستجعل من تغير التكتيكات سيصطدم - كتغذية خلفية راجعة (Feed Back) - بها بالضرورة.

لا حسم عسكريا سريعا، وحصار المدن غير المسموح في العقيدة العسكرية المذكورة سيصطدم مع ما يدّعي أنه (حرب نظيفة!)، الأمر الذي سيدفع الأميركيين نحو اعتماد خيار(برلين)، أي تدمير المدن للدخول على أنقاضها، مما سيشكل نقطة انعطاف مهمة أمام الإدارة الأميركية في صورتها الداخلية وفي مستتبعات ذلك عليها في العالم.

توزيع القوى النارية على مساحة كبيرة بمدن أكبر في دولة ممتدة طوليا، شتت تلك القوى، وأضعف تأثيرها وفقا لقانون القوة والضغط المتناسبين عكسا مع المساحة، ولهذا فقد عّدل الأميركيون من أدائهم العسكري بالعودة إلى تكتيك القوة المركزة، الذي يتمثل بضغط ناري كثيف في مكان محدد على قوة بعينها حتى القضاء عليها. ومن هنا يفسّر التركيز على فرقة المدينة المنورة للحرس الجمهوري العراقي الأفضل تدريبا، والتي عكست المقاومة العنيفة لها معنويات سيئة للغاية لدى طياري سرب مروحيات الأباتشي بعد مواجهتهم مع اللواء الثاني المدرع فيها.

وقوام هذه الفرقة أربعة ألوية هي اللواء المدرع الثاني والعاشر والسابع عشر واللواء المؤلل الرابع عشر، وهذه الفرقة، التي تتعرض الآن لقصف شديد ومركز بهدف اضعافها قبل بدء الحصار والهجوم، مسئولة بالدرجة الأولى عن بغداد في القطاع الممتد بين التاجي والرشيدية. وعلى هذا الأساس سيكون على العراقيين عدم استنزاف قواهم في الرد على هذا القصف والهجوم المركزين.

الشق الثاني في معادلة الهدف السياسي من الهجوم على البصرة هو الرغبة العارمة لدى الإدارة الأميركية في ألا تتحول صور الأسرى والقتلى من الأميركيين إلى غضب ضاغط لدى الرأي العام الأميركي يسبب استعادة، ستكون الأكثر مأسوية، لما حدث من خسائر هائلة في لبنان العام 1983 إثر عملية التفجير على مقر المارينز المشهورة، أو في الصومال العام 1993، إذ تداعت الإدارة الأميركية لحملة تقول بأن الفارق كبير بين لبنان والصومال من ناحية وما يحدث على العراق، ويكمن في أن وراء العراق مغانم استراتيجية كبيرة جدا من أهمها أن ترث الولايات المتحدة على رأس «تحالف الراغبين» الأمم المتحدة ومجلس الأمن، فضلا عن النفط والأهم من هذا وذاك (ظاهريا طبعا) القضاء على الإرهاب واحتمالات أن يصبح عبر النظام العراقي إرهابا بأسلحة الدمار الشامل.

لكن كل هذه الذرائع لا تكفي - عمليا - للقبول بأن ما يحدث لن يكون ضاغطا على الإدارة الأميركية، وهذا الخوف من ضغط كبير قادم سيهوي ببوش والجمهوريين معا، مع اعتبارات العقيدة العسكرية الأميركية التي تقوم - كما قلنا - على الحسم السريع، سيكون دافعا أمام حدوث مأساة على المدن وعلى رأسها البصرة ومن ثم بغداد، تتمثل (بمسح المدن)!؟

ومع تراجع إمكان دخول المدن بسهولة سيكتشف الأميركيون أن اختيارهم لنصف عدد القوات الأميركية التي استخدموها في تحرير الكويت، كان جزءا من الأوهام التي بنوها عن استقبالهم كمحررين، الأمر الذي سيدفعهم للتعزيز بالمزيد من القوات نحو العراق مما سيشكل عبئا إضافيا داخليا على الإدارة الأميركية من أهالي الجنود، عندما سيكتشفون أن (الأولاد) لن يعودوا لقضاء عيد الفصح مع ذويهم. والحقيقة البارزة هنا تتمثل في أن عامل الوقت يمثل نموذجا ضاغطا للغاية على الأميركيين، الأمر الذي سيدفعهم، إضافة إلى طبيعة هدف الحرب المتمثل في إسقاط نظام صدام حسين، إلى التوجه بسرعة نحو بغداد، فضلا عن أن استراتيجية العقيدة العسكرية الأميركية تقوم بالأصل على التحرك السريع وعدم التوقف إلا تعبويا، وهذا التوجه إلى بغداد سيجعل خطوط الامدادات الطويلة عرضة لهجوم بسبع فرق مشاة عراقية سيخرج جزء كبير منها من المدن العراقية الجنوبية لقطع الطرق وربما تطبيق عملية اشتباك على الخطوط الخلفية أو الميمنة والميسرة للقوات الأميركية التي تحاصر العاصمة العراقية مما سيشتتها لفترة على الأقل ويجعلها في وضعية ما يسمى بالحصارات المتوازية و«الحلقية».

كاتب سوري

العدد 202 - الأربعاء 26 مارس 2003م الموافق 22 محرم 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً