العدد 204 - الجمعة 28 مارس 2003م الموافق 24 محرم 1424هـ

هجوم وحشي وإفساد في الأرض

حي الشعب، (بغداد) - روبرت فيسك 

28 مارس 2003

إنها حقيقة مروعة وهجوم وحشي أمس الأول في حي الشعب بإحدى ضواحي بغداد. أيدٍ ممسكة بالقضبان، مستنقعات موحلة من الدماء في الشوارع، أدمغة بشرية متبعثرة، بقايا جماجم متفحمة لأم عراقية وأطفالها الثلاثة في سيارتهم التي مازالت تحترق. صاروخان من طائرة أميركية قتلا كل هؤلاء - أكثر من عشرين مدنيا - الذين تحولوا إلى أشلاء قبل أن «تحرّرهم» الدولة التي أزهقت أرواحهم.

أسأل نفسي، من يتجرأ أن يصف هذا بالدمار الشامل؟ كان شارع أبو طالب مكتظا بالمشاة والعربات عندما اقترب الطيار الأميركي من المكان وسط العاصفة الترابية الكثيفة التي غطت شمال بغداد في طوق من الغبار الأحمر والأصفر ورذاذ المطر. إنه حي فقير مجاور - يقطنه غالبا المسلمون الشيعة، من أبناء الشعب الذي يأمل السيدان بوش وبلير أن يثور ضد صدام - ومكان فيه كثير من محلات اصلاح السيارات، والشقق المكتظة والمقاهي الرخيصة. كل الذين تحدّثت إليهم سمعوا صوت الطائرة الضاربة. أحد الرجال، صُدم بالجثث المنزوعة الرؤوس ولم يستطع أن يجيبني سوى بكلمتين «زئير ووميض» ثم أغمض عينيه وانهارت أعصابه. كيف يستطيع المرء أن يسجّل مثل هذا المشهد المروع؟ اعتقد أن التقرير الطبي هو الملائم في مثل هذه الوقائع. ويتوقع أن يصل العدد الكلي إلى نحو 30 قتيلا عراقيا. يشاهد العراقيون هذه الأمور المؤسفة يوميا، ومن ثم لا يوجد سبب يقضي بعدم سرد الحقيقة التي اطلع عليها الجميع.

وبينما أنا متوجه إلى مكان المجزرة خطر بذهني سؤال: إذا كان هذا هو الذي يحدث الآن في بغداد فماذا عن الوضع في البصرة والناصرية وكربلاء؟! وكم من المدنيين قتلوا هناك؟ غير معروف عددهم في الواقع، إذ لا يوجد صحافيون هناك للاطلاع على المعاناة.

كان أبوحسن ومالك محمود يعدان العشاء لزبائنهما في مطعم الناصر على الجانب الشمالي من شارع أبو طالب قبل أن تلتهمهما نيران الصاروخين لتحوّلهما إلى أشلاء متناثرة - الرجل الأول يبلغ من العمر 48 عاما والثاني 18 عاما فقط.

وقد احترقت 15 سيارة على الأقل بمن فيها من الأشخاص، واضطر الناس إلى مشاهدة المرأة وأبنائها الثلاثة يحترقون في سيارتهم وهم لايزالون على قيد الحياة. وأطلق أحد الصاروخين شظايا معدنية نحو ثلاثة رجال يقفون خارج مجمع سكني كتب على أحد جوانبه «هذا من فضل ربي» أردتهم قتلى.

صاحب المبنى، هاشم ذنون، ركض إلى باب المبنى بمجرد سماع الانفجار الضخم وقال لي وهو يشير إلى أحد عماله: «وجدته وقد تناثر إلى أشلاء رأسه في مكان ويده في مكان آخر». أخذتني مجموعة من الأشخاص إلى الشارع، وكان المشهد مروّعا، فالأوصال والأحشاء والأكف والبطون الممزقة كلها مناظر يطير لها قلب المرء حزنا.

وفي قطر أعلنت القوات الإنجلو - أميركية - دعونا لا ننسى هذا المسمى الذي لا يعني «تحالف» - عن التحقيق في الحادث. أما الحكومة العراقية، المستفيد الوحيد من قيمة دعاية هذه المذبحة، فقد قلّلت من شأنها لتحدّد الخسائر مبدئيا بنحو أربعة عشر قتيلا.

إذا ما هو الهدف الحقيقي؟ يقول بعض العراقيين إن هناك معسكرا للجيش على بعد أقل من ميل من الشارع الذي وقعت فيه الكارثة على رغم أنني لم أجده. وتحدث آخرون عن مركز قريب لقوات مطافئ، ولكن من الصعب وصف قوات المطافئ بأنها هدف عسكري.

طبعا لم ير الطيار الذي قام بقتل الأبرياء ضحاياه، فالطيارون يطلقون نيرانهم بتوجيهات كمبيوترية، وربما حالت العاصفة دون رؤية الشارع. ولذلك سألني كثير من أصدقاء مالك (أحد الضحايا) لماذا يقتل الأميركيون بدم بارد الناس الذين يزعمون أنهم جاءوا لتحريرهم، وكانوا في وضع لا يسمح لهم بتفهم الخطأ في أنظمة اطلاق الأسلحة وما إلى ذلك... ولكن لماذا يخطئ الطيار؟ ولماذا يحدث هذا يوميا تقريبا في بغداد؟ فقبل ثلاثة أيام من حادث حي الشعب، أبيدت أسرة كاملة مكونة من تسعة أشخاص في منزلها بالقرب من وسط المدينة. ثم قبل يومين، قُصف باص مليء بالمدنيين الذين لقوا حتفهم في الحال على طريق جنوب بغداد. وعلم العراقيون أيضا عن مقتل خمسة مسافرين مدنيين في حافلة سورية هاجمتها طائرة أميركية بالقرب من الحدود السورية. والحقيقة أنه لم يعد هناك مكان آمن الآن في بغداد. وبينما يقترب الأميركيون والبريطانيون من حصار المدينة في الأيام القليلة المقبلة فإن الرسالة الواضحة الموجهة الى العراقيين هي مزيد من إراقة الدماء.

وربما نتساءل: لماذا يُقتل هؤلاء البشر؟ إنهم يُقتَلون بسبب ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر/ايلول، أو ربما بسبب «أسلحة الدمار الشامل لدى صدام» أو بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، أو بسبب اليأس من تحريرهم جميعا. ودعونا لا نخلط ذلك كله مع النفط. وفي كل مرة يُطلب منا أن نصدق أن صدام كان هو السبب في قتلهم. وطبعا يجب ألا نذكر أن الطيار الأميركي هو المتسبب.

خدمة الإندبندنت - خاص بـ «الوسط

العدد 204 - الجمعة 28 مارس 2003م الموافق 24 محرم 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً