العدد 2533 - الأربعاء 12 أغسطس 2009م الموافق 20 شعبان 1430هـ

غريتا غاربو: حياة مزدوجة واعتزلـتُ في القمة رمزا للأنوثة الخالدة

طفلة ستوكهولم المتشردة صارت ملكة غير متوجة على هوليـــــوود

النجاح والسعادة، هل هما حالتان تسيران في طريقين متوازيين لا يلتقيان؟ كثيرون قد يقولون: لا، ولكن من يتابع، على الأقل، الحياة كبار النجوم قد يجد ما يغريه بأن يقول: أجل إنهما لا يلتقيان، حتى وإن كانت المظاهر تقول عكس ذلك. تأكيدا لهذا روينا في «الوسط» حياة ناتالي وود، ثم ريتا هايوارث. وهنا حكاية ثالثة: حكاية غريتا غاربو، ساحرة السينما التي ملأت الدنيا وشغلت الناس منذ أيام السينما الصامتة وحتى بداية سنوات الأربعين. كانت اذا نطقت يضرخون «غاربو نطقت» وإذا ضحكت يهللون «غاربو ضحكت». ثم ذات يوم حملت أسرارها وغموضها واختفت. اعتزلت وهي في قمة مجدها، وغابت نصف قرن قبل أن ترحل وحيدة صامتة، كما كانت دائمة، حاملة إلى القبر أسرارها وأسرار تعاستها.

ترى هل سيعرف أحد، ذات يوم، كيف عاشت غريتا غاربو السنوات الخمسين الأخيرة من حياتها؟ هذا السؤال قد يبدو غريبا بالنسبة إلى الذين سمعوا دائما باسم غريتا غاربو أو اعتادوا مشاهدة أفلامها، أو صورها في تلك الأيام. ففاتنة السينما هذه تبدو في الأفلام وفي الصور، وكذلك في ذاكرة محبي السينما، من الحيوية والحضور، بحيث ينسى الكثيرون أنها بين العام1941 والعام 1990 غابت تماما عن الحياة العامة كما عن الحياة السينمائية. وكذلك غابت صورها الجديدة عن الصحف إذ إن أحدث ما كان ينشر من صور لها، كان يعود إلى أزمان موغلة في القدم، تسبق العام1941.

ولكن لماذا العام1941؟ ببساطة لأنه العام الذي أعلنت فيه غريتا غاربو، رغبتها في اعتزال السينما وكذلك اعتزال الحياة العامة، والركون إلى نفسها بعيدا عن أعين الفضولين. والغريب أن التي أعلنت في ذلك اليوم اعتزالها لم تكن عجوزا ولا مكتهلة، بل امرأة ساحرة ناضجة في السادسة والثلاثين من عمرها، وتعيش أزهى لحظات مجدها.

في العام1941، حين أعلنت غريتا ذلك الاعتزال الذي سيظل الأشهر والأكثر صدقا في تاريخ نجوم السينما، اعتقد الكثيرون أنها غير جادة، وأنها ربما تغيب بضعة أشهر أو سنة أو سنتين ثم تعود. كان كل ما في حياة غريتا غاربو، ينهل من حب السينما ومن التوق إلى الفن. وهذا ما طمّأن محبيها يومها.

ولكن شيئا فشيئا تحولت النجمة إلى أسطورة خرافية وغابت تماما، بحسنتها الغامضة وابتسامتها الساخرة ونظراتها الساحرة. غابت هكذا بين ليلة وضحاها خمسين عاما، أعلن نهايتها عن رحيلها فصدم كثيرون: بعضهم لأنه كان يعتقد أن غريتا غاربو ماتت منذ زمن بعيد، والبعض الآخر لأنه كان يعتقدها حاضرة إلى أبد الآبدين. أما البعض الثالث فصدمته صور نشرت لها، وكانت التقطت خفية، تمثل سيدة عجوزا مرتعدة الأوصال تضع على عينيها نظارات سوداء وتتلفت حواليها خشية أن يراها أحد. وكانت تلك آخر صورالتقطت لها، وأول ما التقط ليحكي عن مسار حياتها، منذ اعتزالها.

والحال أن تلك الصور دمرت الأسطورة جزئيا وأزالت السحر. ولكن هل كانت غريتا غاربو تعبأ بذلك حقا؟ هل كانت تبالي بكل ما يحكى عنها وما يكتب حول حياتها؟ هل كانت خلال أعوام الغياب الطويلة تتابع ما يحدث في العالم؟ كيف كانت تفكر؟ هل كانت تعيش في ذكرياتها أم خارجها؟ هل كانت تحن إلى النجمة والممثلة التي كانتها وأوصلتاها إلى الذروة؟ هل كان يعنيها ذلك المجد الكبيرالذي يجعل العالم كله يصرخ حين مثلت في أول فيلم ناطق لها، مرددا كالصدى ما جاء على ملصق الفيلم «غاربو... تتكلم أخيرا»؟ أو حتى حين مثلت في أول فيلم هزلي، حين كان على الملصق الخاص بالفيلم: «غاربو تضحك أخيرا»؟

أسئلة ستظل حائرة، وعالم سينمائي كامل مثلته تلك السويدية الحسناء، وجعلها واحدة من الألغاز الأكثرغموضا في تاريخ السينما. ويظل من هذا كله واقع يقول إن غريتا غاربو، بعد أن قامت ببطولة فيلم «المرأة ذات الوجهين» من إخراج جورج كيوكر في العام1941 اتخذت قرارها الذي لم ترجع عنه أبدا بترك كل شيء والإخلاد إلى الهدوء والراحة في بيتها ذي الغرف السبع، لا تزور أحدا ولا أحد يزورها، باستثناء حفنة من أصدقاء كان من بينهم المخرج كلارنس براون، الذي اعتزل بدوره في العام1951، وكان يروى عنهما أنهما في كل مرة يلتقيان فيها كانا يبدآن حديثهما على الشكل التالي: يقول هو: متى نعود يا غريتا إلى السينما؟ فتقول هي: حقا متى نعود؟ ثم يبتسمان معا ويصرخان بصوت واحد: أبدا... لن نعود أبدا.

لم يكن الغموض الوحيد

مهما يكن من الأمر فإن اعتزال غريتا غاربو لم يكن الغموض الوحيد في حياتها. فالواقع أن حياتها كلها كانت مليئة بالغموض، ابتداء بأصولها المتواضعة، وصولا إلى حياتها الجنسية. وفي صدد هذا الأمر الأخير كانت الحكايات لا تتوقف، رابطة غريتا مرة بهذا الممثل ومرة ثانية بذلك المخرج، بل إن كثيرا من تلك الحكايات كان يؤكد أنها مثلية الجنس تهوى النساء، أوأنها على الأقل مزدوجة الاتجاه الجنسي. وهو أمر عزز من تأكيده، روعة أدائها للدور المزدوج في فيلم «انا كريستي» من إخراج كلارنس براون حيث قامت بدور ملكة زاهدة في الحكم تتنكر في ثياب الرجال. لقد كانت من البراعة يومها، في تنكرها وفي أدائها، بحيث عزز من حكاية مثليتها.

ملام غريتا غاربو نفسها كانت شديدة الغموض وشديدة الفصاحة في الوقت نفسه. وكان حسب المرء أن يتأمل فيها حتى يصاب بالسحر ويعقد لسانه ألف سؤال وسؤال.

وهي كانت كذلك منذ طفولتها على أية حال. ولقد ارتبط ذلك لديها بعزلة وتفرد صاحباها منذ سنوات حياتها المبكرة. من هنا، حين صرخت في أحد مشاهد فيلم «الفندق الكبير»: «أريد أن تتركوني وحيدة» لاحظ كثيرون صدقا في لهجتها وتعبيرها، فسرهما لاحقا قرارها بالعيش وحيدة نفسها منعزلة عن الناس في انتظام كان من الواضح أنها تود أن تجعله نوعا من العقاب لذنب لم يعرف أحد ما هو!.

ولدت غريتا غاربو (وكان اسمها غريتا لويزا غوستافسون) في ستوكهولم بالسويد العام 1905. وكان والداها من الفقر إلى درجة أنها اضطرت إلى ترك الدراسة والعمل باكرا جدا، في طان (وربما بائعة جوالة على الطرقات). غير أن جمالها سرعان ما لفت الأنظار، فاستدعيت لتمثيل أدوار صغيرة في مشاهد دعائية (من نوع كان يعرض داخل الأفلام في ذلك الحين). وحين بلغت السابعة عشر من عمرها راحت تبدو ناضجة وكثيرة ما جعل من الطبيعي للسينمائيين ان يكتشفوها، وهكذا أسند إليها في العام 1922 دورا في فليم هولي عنوانه «لوفار - بيتر». ولقد راق لها الأمر حتى قررت أن تمتهن التمثيل حقا، فالتحقت بمدرسة للدروس الدرامية. وهناك تعرفت إلى المخرج موريس ستيلر الذي أعجب بها على الفور وأسند اليها دور البطولة في فيلمه التالي «حكاية غوستا برلنغ». وهو في الوقت نفسه هام بها وأعطاها اسم غريتا غاربو، وقرر أن يجعلها نجمة أفلامه وحياته. ومن هنا اعتنى بتصويرها في فيلمه ذاك. ونجح الفيلم حين عرض في العالم أجمع. غير أن ستلير لم يتمكن من أن يحقق فيلما من بطولتها بعد ذلك، فإذا بها تنتقل إلى العمل مع بابست، الدانمراكي في فيلمه «شارع لا سرور فيه» (1925) في ألمانيا، إلى جانب النجمة الشهيرة في ذلك الحين أسستا نيلسن. وهنا أمام «وصولية» غريتا هذه، قرر ستيلر أن يخطو خطوة في منتهى الجرأة، إذ وجد صعوبة مواصلة العمل في السويد: اصطحب غريتا وسافر معها إلى الولايات المتحدة الأميركية حيث السينما الناجحة، وحيث هوليودد وحياة النجوم. وغريتا واكبته وقد بدأ وعيها يتفتح تماما على مستقبل وجدته مرسوما أمامها بأنواره وزهوره وتألقه.

صدمة أولى

وهكذا، بدأت حقا حكاية غريتا غاربو. والملفت أنها بدأت بصدمى، لكنها كانت صدمة عابرة. إذ يرون أن ستيلر تمكن بسرعة من أن يفتح شركة «مترو غولدين ماير» بتوقيع عقد معه ومعها، لكنها حين حاولت أن تشدد من شروطها عن طريق وكيل لأعمالها، قال له لويس ب. ماير بكل هدوء ولا مبالاة» «أرجوك أن تقول لهذه السيدة إن الجمهور الأميركي لا يحب النساء السمينات». وهكذا خففت غريتا من غلوائها وأدركت أنها، بالنسبة إلى هوليوود، لم تصل إلى مرتبة النجومية بعد، لكنها قالت بينها وبين نفسها: «سأريهم حين أصل». وفعلا ما إن وصلت، حتى راحت تبتكر أساليب إذلال الاستديوهات وأصحابها.

وكان وصولها سريعا. وكانت في بدايته تخلت عن ستيلر متجاهلة أياه تماما، وانصرفت إلى العمل تحت إدارة مخرجين محليين. وكان أول فيلم لها «الإعصار» (1926) الذي مثلت فيه دور امرأة مغوية تقود الرجال إلى جحيمهم وتدمرهم دافعة بهم إلى ارتكاب الجرائم. لقد حقق ذلك الفليم من النجاح ما جعل اسم غريتا غاربو على كل شفة ولسان. وخصوصا أن الصحافة راحت تربط اسم هذه الفاتنة السويدية الغامضة، بملامح الشخصية التي مثلتها في الفيلم، ضاربة المثل بعلاقتها مع المخرج الذي أوصلها وأتى بها إلى هوليوود ثم دمرته دون رحمة: موريس ستلير. بعد ذلك حين مات ستيلر وحيدا نكرة وري ان غريتا بكت عليه بدموع غزيرة واعتكفت في غرفتها طوال أيام كانت هي ما مهد لاعتزالها اللاحق بحسب بعض الذين كتبوا سيرتها.

المهم ان غريتا كانت أصبحت منذ تلك اللحظة نجمة عالمية وامرأة يشتهيها الرجال جميعا. لقد وصلت. ابنة ستوكهولم المتشردة البائسة أصبحت ملكة هوليوود غير المتوجة فهل وصلت إلى السعادة؟

بالعكس تماما. منذ ذلك الحين تحولت النجمة الكبيرة إلى امرأة يملأ الحزن والخوف قبلها. لماذا؟ لا أحد يدري. صارت ساهمة على الدوام، دائمة التفكير شديدة القلق. غير أن ذلك لم ينعكس على أدائها في أفلامها. إذ هنا برهنت على تزاوج خلاق لديها بين الممثلة والنجمة. كان أداؤها ينبع من الأعماق. والمخرجون الذين مثلت تحت إدارتهم، وعلى رأسهم كلانس براون، الذي أخرج ستة من أفلامها الكبيرة، عرفوا كيف يوازنون في الأدوار التي يرسمونها لها، بين ما هي في حقيقة الحياة وما هي على الشاشة. ولا سيما عبر ذلك الجانب المبهم والمتلبس والمزدوج من شخصيتها. «لقد عرفوا كيف يشاهدون الألم الحاد خلف ابتساماتها ونظراتها الغامضة». ومن هنا أتت أدوارها في أفلام مثل «آنا كارينينا» و»المرأة الغامضة» و»غادة الكاميليا» ثم «الفندق الكبير» لتستغل إلى أقصى الحدود تلك الازدواجية.

وهي نفس الازدواجية التي كانت تعبيرية متلبسة، قبل أن يوصلها كلارنس براون إلى نوع من الانفصامية الذكورية الانثوية في «آنا كريستي».

من كتاب «حكايات صيفية»

العدد 2533 - الأربعاء 12 أغسطس 2009م الموافق 20 شعبان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً