يتنافس المهندسون والخطاطون والمصممون والفنيون البحرينيون - في أكثر من تخصص ومجال - في تقديم أعمال فنية أو مشروعات على درجة من التميز والإبداع والابتكار... ولعل هذا ما يبدو واضحا على صعيدين في البحرين: الهندسية المعمارية والمدنية من ناحية، وبرمجيات الحاسب الآلي في مجال التصاميم من ناحية أخرى؛ ما يوحي أن الحركة العمرانية والتقنية في البلاد، تتطلب تميزا في الأداء بدرجة أعلى بكثيرٍ مما كانت عليه في السابق.
من القصص الإبداعية الحديثة، تلك التي نقلتها الصحافة المحلية وبعض مواقع الإنترنت... إنه مأتم أبوصيبع، الذي بُني على نفقة الحاج إبراهيم لطف الله، الذي أصبح مزارا لمن يريد أن «يغسل عينيه بتحفة روحية رائعة» كما يصف أحدهم، وليرى إبداعا فيه من الجمال والدقة والفن ما يمتع العين والقلب.
في هذا اللقاء، سنتحدث مع مدير عام مؤسسة الديلمي للاستشارات الهندسية خليل الديلمي، الذي تولى عملية تصميم وتنفيذ مأتم أبوصيبع «التحفة» للحديث عن المشروع:
يتحدث الديلمي عن تجربته في مجال تصميم دور العبادة، فيشير إلى أنه قبل نحو 18 عاما دخل هذا المجال عندما صمم وأنشأ مأتم الحاج أحمد ضيف في قرية كرزكان، ورُوعيت في تصميم المأتم معايير الجودة، إذ إنه وبعد مرور هذا الوقت الطويل، لايزال السجاد ذاته الذي تم اختياره آنذاك في جودته حتى الآن نتيجة المحافظة عليه، وقد تشرفت بحمدالله بتصميم عدد من دور العبادة من مساجد وحسينيات في مختلف مناطق البلاد، ولا أتذكر العدد بالضبط، ولكنه في حدود 14 مسجدا ومأتما.
البلاط المعرق يتصدر التصاميم
بالنسبة إلى التجارب الحديثة، إن مأتم أبوصيبع هو آخر مأتم قمنا بتصميمه وبإنشائه، وقبله كان مأتم العجم الكبير، والقصة بدأت في التصاميم الإسلامية التي أُدخِلت حديثا باستخدام البلاط المعرق وبدأناها في مأتم العجم الكبير وكانت تجربة صعبة؛ لأنها الأولى، كما وجدنا صعوبة أيضا في إحضار العمال والفنيين المهرة من إيران للعمل في البلاط المعرق، وقد تطلب ذلك وقتا طويلا، ولكني أصررت على أن يتم إنجاز العمل طبقا للتصميم الذي وضعته.
وحينما نأتي إلى مأتم أبوصيبع، فإنه بعد إنجاز مأتم العجم، وقد لمس القائمون على فكرة إنشاء مأتم أبوصيبع - وعلى رأسهم الحاج إبراهيم لطف الله - مستوى مأتم العجم الكبير، فأعجبهم أسلوب تصميمه وأسلوب إنشائه فاتفقنا على إنشاء مأتم أبوصيبع مع الحاج لطف الله، جزاه الله خيرا وبدأنا وضع التصاميم.
ويشير إلى أن العمل في إنشاء مأتم أبوصيبع استغرق ثلاث سنوات، ولم تكن مساحة الأرض المخصصة لإنشاء المأتم بهذا الحجم وكذلك الحال بالنسبة إلى اتجاه البوابة الرئيسية، التي كانت في السابق باتجاه الشمال، ولكن القائمين على المشروع أرادوا سعة أكبرَ فاشتروا الأراضي القريبة بسعر مغرٍ للغاية، ونظرا إلى زيادة الأرض؛ قمت من جديد بإدخال تعديلات على التصميم الرئيسي بعد أن أوقفت العمل مدة تراوحت بين شهرين وثلاثة أشهر؛ للتصميم الجديد المدخل على الرسومات الأصلية، وقد استغرق العمل في المأتم مدة ثلاث سنوات، وخصوصا أن عملية تركيب البلاط المعرق والرخام تتطلب وقتا طويلا.
التصاميم تعاد من جديد
كان الحاج إبراهيم لطف الله يريد مساحة أكبرَ، ولم يقصر مع الجيران الذين اشترى أراضيهم؛ لتوسعة المساحة المخصصة للمشروع، فالتصميم الأصلي مثلا لم يكن يشمل سردابا ولكن بعد اتساع الأرض أُدخل السرداب في التصميم الرئيسي للمشروع، كما تطلب ذلك تغيير الاتجاهات.
ويشير إلى أن هناك روحا فنية مشتركة في تصميم مأتمَي العجم الكبير وأبوصيبع، إذ لهما طابع خاص مستمد من روحية العتبات المقدسة في مدينتي كربلاء في العراق ومشهد في إيران، إذ تم استيحاء لمسات فنية وهندسية من مشهدي الإمام الحسين (ع) والإمام الرضا (ع)، ولكن الفراغات في المأتمين تم تصميمها في البحرين. أما بالنسبة إلى خطوط الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث الشريفة، فتم اختيارها بالتباحث مع بعض المتخصصين، واعتمدنا في تركيب الرخام والبلاط على حِرفيين من خارج البحرين باعتبار أنه من النوع المعرق ومصنع في إيران، وتم تصميم القبة والأقواس طبقا للمساحات المتوافرة، وتم استيراد الطوب الأصفر من أستراليا.
ويضيف «بالنسبة إلى الهندسة الداخلية للمأتم، تم تصميم أعمال الجبس والآيات القرآنية والأسقف في البحرين بالدقة التي ظهر بها العمل في صورته النهائية، أضف إلى ذلك، اني أهتم كثيرا بالجزئيات الصغيرة في العمل ولا أهملها، ففي مأتم أبوصيبع ركزت على نوعية وتصاميم الأبواب الحديد وكذلك المصابيح التي قمت بتصميمها وتم تصنيعها في أحد المصانع بالمملكة العربية السعودية، وأنت كما تعلم، إن أحببت العمل فستبدع فيه من دون شك».
حقوق المهندسين والمهرة
وردا على سؤال يتعلق بعدم كتابة المهندس المصمم للمشروع في مثل هذه الإنجازات التي تعد من روائع الإبداع ويتساءل الناس عن المهندس المصمم، يوضح أن هذا الأمر مهمٌ بالنسبة إلى المهندس كحق أدبي، وأقول إن كتابة الاسم لا تأتي من باب الرياء، إلا أنها حفظ للتاريخ، فبعد مئة سنة على سبيل المثال، لن يعرف الناس اسم الفنان أو المهندس أو الخطاط ما لم يكن مكتوبا في مكان بارز، وهذه مسألة موجودة في مختلف دول العالم، وإذا عدت إلى كثيرٍ من الأعمال العالمية لكبار الفنانين فستجد توقيعهم حتى إن كان بخط صغير، بل لو شاهدت الكثير من الآثار المصرية للفراعنة، لوجدت مكانا باللغة الهيروغليفية للفنان أو المهندس الذي صمم العمل في بعضها، وتجد الأمر ذاته في برج إيفيل بفرنسا وتمثال الحرية، فهذه إنجازات للبشرية ستبقى على مر العصور، وحينما كنا ندرس الهندسة المعمارية كنا نشاهد بعض الأعمال الرائعة وقد نُقِشَ عليها اسم مبدعها نقشا ليكون محفوظا للأجيال القادمة.
ويقول : «سألني أحد الأشخاص بعدما شاهد مأتم السنابس الجديد قائلا: هل أنت من صمم العمل؟ فقلت له: نعم، فأشار إلى أنه توقع ذلك؛ لأنه شعر بالروح الهندسية واللمسات التي أهتم بها في تصاميمي، وقد شاهدت ذات مرة، عندما كنت جالسا في مأتم العجم الكبير وأنا ابن المأتم، أحد الأشخاص وهو يشرح لبعض الزوار هندسة المأتم ومرافقه في حين كنت أنا جالسا أنظر إليه! في حين أني الأقدر على تقديم معلومات أدق عن المشروع إلى السائل».
وبالنسبة إلى المشروعات الجديدة، يشير الديلمي إلى أن هناك مشروعاتٍ لإنشاء ثلاثة مآتم، أحدهم في منطقة السهلة والثاني مأتم للنساء في الديه ويجرى العمل على إنشاء مأتم كبير في منطقة الزنج سيرى النور قريبا وسيكون - بعون الله - أيضا تحفة في الهندسة المعمارية الإسلامية، مؤكدا في الوقت ذاته أن الناس بدأت تتذوق هذا الفن الراقي للطراز المعماري الإسلامي، سواءٌ أكان من قِبل المواطنين والمقيمين أم من قِبل الزوار والسياح المسلمين وغير المسلمين، ولكن ما أود أن أختِم به هو أن العمل في دور العبادة له روحية خاصة في مجتمع إسلامي يشعر أهله بروحية المكان أثناء ممارسة العبادة، ولا تنسَ أن الجزء الأهم في هذا العمل ليس كسب الرزق فحسب، بل كسب الثواب أيضا، وأتمنى أن أستمر في هذه الأعمال إلى آخر حياتي.
العمارة الإسلامية...
تم صوغ الفنون المعمارية الإسلامية عبر تمازج المد الإسلامي والفنون المعمارية التي كانت قائمة في البلدان التي فتحها المسلمون. تاريخيا، لم يكن للعرب في الجزيرة العربية إنتاج معماري جميل إلا في عهد دولتي المناذرة والغساسنة المتاخمتين للدولتين الساسانية والبيزنطية على التوالي. كما شهدت اليمن قبل الإسلام حالا من المعمار التي لم يكن لها أن تنطبع رمزا معماريا منتشرا في باقي الدول الإسلامية.
عادة ما يكون المعمار الإسلامي نموذجا وسطيا بين الروح المستقاة من شبة الجزيرة العربية، والطابع الشكلي الرئيسي الذي كان للأتراك - خصوصا - بصمتهم الخاصة فيه. حاولت الكثير من القراءات - ابن خلدون نموذجا - توظيف واستثمار المعمار الإسلامي في قراءة الإنسان في واقع الحضارة الإسلامية. الأكثر من ذلك أن الدول الإسلامية - وخصوصا العثمانية - عمدت إلى إعطاء المعمار الإسلامي نمطا مميزا وخصوصا في بناء قصور الحكم والمساجد ذات المآذن الطويلة.
اليوم في تونس والمغرب مازالت ملامح المعمار التركي ماثلة في أكثر المساجد. وكذلك الحال في القاهرة. نجد مسجد «إبراهيم باشا» تمثيلا مميزا على المعمار الإسلامي التركي.
كان أول عمل قام به الرسول (ص) عند هجرته إلى المدينة بناء مسجد للمسلمين في مربد التمر الذي بركت فيه ناقته وكان بناؤه بدائيا بسيطا، وكانت مساحته 60-70 ذراعا وجدرانه من اللبن، وسقفه مكون جزء منه بسعف النخيل وترك الجزء الآخر مكشوفا وجعلت عمد المسجد من جذوع النخل.
وقد نهج المسلمون هذا المنهج في بناء مسجد البصرة سنة 14هـ ومسجد الكوفة سنة 17 هـ، كما اتبع عمرو بن العاص هذه السُنَّة في بناء مسجده في مدينة الفسطاط سنة 21 هـ. وكانت مساجد البصرة والكوفة ومصر خالية من المحاريب المجوفة والمنابر والمآذن على غرار مسجد الرسول (ص)، ثم أصبح للفظ الجامع مدلول سياسي في عهد الدولة الأموية، فقد عرف بالجامع: المسجد الذي يؤم فيه الخليفة أو من ينوب عنه من المسلمين في صلاة الجمعة، أي أن لفظ الجامع أصبح يطلق على مسجد الدولة الرئيسي الذي كان يعرف باسم المسجد الجامع.
تاريخ العمارة الإسلامية
لابد أن يكون تاريخ العمارة الإسلامية مرتبطا بنشأة الإسلام في المناطق التي دخل فيها كشبه الجزيرة العربية ومصر والمغرب العربي والأندلس. كما أن خصائص هذا المعمار وصفاته تعود بشكل كبير إلى التعاليم الإسلامية والشعائر الإسلامية المتبعة في مكان المعمار نفسه. فنرى مثلا الصحن المفتوح الذي كان منتشرا أيام الرسول (ص) قد اختفى في تركيا نتيجة للجو البارد، فحلت مكانه القِباب والمساحات المغطاة. وهكذا، نرى الشكل والوظيفة يتطوران عبر الزمن واختلاف العصور.
مع بداية دخول الإسلام شبه الجزيرة العربية، كانت طبيعة الحياة مجرد مجتمعات قبلية لذلك لم توجد أية محاولات جادة لإيجاد قيمة جمالية للعمارة. ومع تطور وضرورة وجود مكان للصلاة فيه، بدأ التفكير في مجرد سور يحيط بمكان واسع وهذا السور له مداخل عادة ما تكون عبارة عن مجرد فتحات. ثم بدأ عمل سقيفة للمكان فأنشئت ظلة في ناحية القبلة عبارة عن جريد النخل وترك بقية المكان مفتوحا للسماء.
العهد الأموي
تطورت العمارة الإسلامية في هذا العصر تطورا كبيرا في طرق البناء فنجد العقود واستخدام الجمالونات الخشبية المجملة على أكتاف من الحجر. كانت الفتحات في الغالب مستطيلة ويتم تحميل الحائط من فوقها من طريق توزيع حمله على عقد نصف دائري. ودخل استخدام المرمر في الأرضيات.
أما في العصر العباسي فقد وصلت العمارة في هذا العصر إلى أعلى درجات الرقي فنجد مسجد سامراء كأكثر المباني تميزا في هذا العصر. وهو مشهور بالمنارة الكبيرة التي تعلوه وتشبه بشكل كبير الزيجورات الآشورية. بدأ أيضا في هذا العصر النظر إلى تخطيط المدينة عموما بدلا من النظر إلى كل مبنى على حدة، وفي مدينة بغداد خير مثال على هذا، فنجد أنها خططت تخطيطا دائريا حتى سميت «المدينة المدورة».
أما ما ميز العهد الطولوني في مصر، فهو نقلهم عمارة العباسيين من العراق إلى مصر، فأنشئت الكثير من المباني المستوحاة من عمارة العباسيين مثل: دار الإمارة وقصر أحمد بن طولون. أما الأشهر فهو الجامع الذي سمي باسمه «جامع أحمد بن طولون»، الذي يعد فريدا من نوعه بمئذنته الشهيرة التي تتكون من أربعة أجزاء: الجزء السفلي منها مقطعه مربع يلتف حوله سلم خارجي. والثاني اسطواني له سلم خارجي أيضا، أما الثالث والرابع فهما قمة المئذنة وبهما فتحات مستطيلة الشكل.
وتتنوع اليوم أنماط العمارة الإسلامية، إلا أن استخدام «الفسيفساء» هو أكثر ما تميزت به العمارة الإسلامية في المساجد ودور العبادة. وهو أبرز ما أنتجته العمارة الإسلامية في فنون المعمار عامة.
العدد 1618 - الجمعة 09 فبراير 2007م الموافق 21 محرم 1428هـ